كتبه/ أحمد عبد السلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد جاء الشرع الشريف بمنهج حياة متكامل في جميع جوانب الحياة، يضمن للإنسان السعادة في الدنيا وفي الآخرة.
منهج في العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك، والسياسة والاقتصاد، والمعاملات والأحوال الشخصية، والعقوبات والحرب والسلم... الخ.
وباتباع ذلك المنهج لا يضل الإنسان ولا يشقى (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)(طه:123-126).
ولما أعرضت البشرية اليوم عن منهج الحق وعن هذا النور، تخبطت في ظلمات الشهوات والجهالات والشركيات، والشكوك والاضطرابات، والفزع والقلق والشح وغير ذلك من الأمراض، ومن هذا التخبط ما نسمع عنه في الآونة الأخيرة من هذه الأزمة المالية التي ضربت أقوى الدول اقتصادا، والتي كان من أكبر أسبابها التعامل بالربا وقلب الديون، وبيع الديون والمقامرة في عمليات التجارة وغيرها مما يتضمن الغرر الفاحش والجهالة والربا المضاعف والميسر.
وأصبحوا يصرخون مما وصلوا إليه، وقد حذر بعض علمائهم من ذلك كما نقل عن "موريس آليد" -نال جائزة نوبل في الاقتصاد-: "إن النظام الاقتصادي الرأسمالي يقوم على بعض المفاهيم والقواعد التي هي أساس تدميره إذا لم تعالج وتصوب تصويبا عاجلا".
والآن نسمع من ينادي في بريطانيا بالرجوع إلى القرآن لحل الأزمة، ومن ينادي بتطبيق قواعد العمل الاقتصادي الإسلامي، فالاقتصاد الإسلامي والمعاملات الشرعية قائمة على جملة من القواعد التي تمنع من أسباب هذا الانهيار منها:
1- اعتقاد المسلم أن الله حرم الربا ومحقه ولا يبارك فيه (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)(البقرة:275)، (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)(البقرة:276)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)(البقرة:278-279)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) رواه أحمد، وصححه الألباني.
ومن الربا المحرم اشتراط زيادة على القرض أو منفعة كما قرر أهل العلم القاعدة المشهورة: "كل قرض جر نفعا مشروطا فهو ربا"، وكذلك المنع من الصرف إلا يد بيد في بيع العملات والذهب والفضة.
2- ومن هذه الضوابط إنظار المعسر والتيسير عليه، وهذا ضابط أخلاقي أوجبه القرآن؛ (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)(البقرة:281).
3- ومن ذلك المنع من بيع ما ليس عندك كما ثبت في الحديث: (لا تبع ما ليس عندك) رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني، و(نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن) رواه النسائي، وقال الألباني حسن صحيح.
4- ومن ذلك حرمة الغرر كما في صحيح مسلم مرفوعا: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر). ومن الغرر بيع المجهول والحمل في بطن أمه والسمك في الماء.
5- والنهي عن بيع الشيء قبل قبضه فعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ابتعت طعاما من طعام الصدقة فربحت فيه قبل أن أقبضه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لا تبعه حتى تقبضه) رواه النسائي، وصححه الألباني، وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال لمروان: (أحللت بيع الربا فقال مروان ما فعلت فقال أبي هريرة أحللت بيع الصكاك وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى قال فخطب مروان الناس فنهى عن بيعها).
6- النهي عن الاحتكار كما في صحيح مسلم مرفوعا: (لا يحتكر إلا خاطئ).
7- النهي عن الغش والتدليس، (من غشنا فليس منا) رواه مسلم.
8- النهي عن الميسر والمقامرة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة:90)، ومن الميسر بيع المفقود والمعجوز عن تسليمه -شيء ممكن يحصل وممكن لا يحصل-.
9- النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وهذا من القواعد العامة: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(البقرة:188).
10- النهي عن الشروط المحرمة لحديث: (من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن اشترط مائة شرط) متفق عليه.
11- النهي عن بيع الخمر والميتة والخنزير وهذا في الصحيح.
12- النهي عن بيعتين في بيعة كأن يبيع شيء بثمنين إلى أجلين دون تحديد أي الثمنين والأجلين فيفضي إلى الربا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة) رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني.
13- النهي عن سلف وبيع بأن يقرضه قرضا ويشترط عليه أن يبيع شيئا ما مع القرض، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- مرفوعا: (لا يحل سلف وبيع) رواه أبو داود والترمذي، وقال الألباني: حسن صحيح.
14- المنع من التسعير إلا عند الضرورة؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: (غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله سعر لنا فقال إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال) رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني.
15- ومن ذلك إيجاب الزكاة في أموال الأغنياء لحظ الفقراء (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(المعارج:24-25)، (وَآَتُوا الزَّكَاةَ)، مما له أعظم الأثر في سد الحاجة وسل وَحَرَ الصدر -الحقد والغيظ-، وإشاعة روح المودة والمحبة والتعاطف والتكافل بين أفراد المجتمع مما يشيع الأمن والاطمئنان، والحث على النفقة عامة في وجوه البر والإحسان (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(البقرة:272)، (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)(آل عمران:92).
والمسلم إذ يؤدي ذلك يعلم أن هذه الطاعة -أي الزكاة والنفقة في وجوه البر- سبب لسعادته وشرح صدره وسبب للبركة في المال وحفظه -بفضل الله تعالى- (احفظ الله يحفظك) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
إن تطبيق هذه القواعد والضوابط كفيل -بإذن الله- لحل المشاكل الاقتصادية والأزمات المالية وغيرها، وعجب والله لمن بين أيديهم منهج الحكيم العليم اللطيف الخبير، بين أيديهم هذا النور ثم يعرضون عنه:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الملك:14)، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(المائدة:15-16)، فإن الكفار يعرضون عن هذا المنهج لجهلهم به، وعمى قلوبهم فما بال المسلمون يغفلون في بلادهم ومؤسساتهم ومعاملاتهم (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(الحج:46).
ثم إن العقود الشرعية وخاصة المضاربة والمشاركة لتمثل البديل الشرعي لهذه المعاملات المحرمة، وعقد المضاربة عقد بين طرفين: صاحب مال وصاحب خبرة؛ يشتركان هذا بماله وهذا بخبرته وعمله، والربح إن وجد بينهما على ما يتفقان كالثلث والربع والنصف، وهذا العقد جائز بالإجماع وقد عمل به الصحابة والقرون الفاضلة.
ويحرم إجماعا أن يشترط صاحب المال لنفسه مبلغا معلوما يأخذه كل مدة -إلا إذا كان من تحت الحساب-، والعامل أمين لا يضمن المال بالإجماع إلا إذا فرط أو خالف شروط العقد.
وعلينا أن نتعلم أحكام شرعنا ونعتز به، ونسعى إلى تطبيقه، ونقدمه لغيرنا نماذج عملية صالحة لهذا العمل الاقتصادي الإسلامي، ففي اتباع المنهج الرباني الخير والفلاح.
وأريد أن أوضح فرقا هاما بين العقد الربوي وعقد المضاربة الشرعية:
- العقد الربوي يضمن فيه العامل -البنك أو المؤسسة المالية- يضمن المال بغض النظر هل فرط أم لم يفرط، هل تاجر أم لم يتاجر.
- أما المضاربة الشرعية فالعامل فيها -البنك الإسلامي أو المؤسسة أو الفرد- أمين لا يضمن رأس المال.
- العقد الربوي فيه زيادة مشترطة مسبقا بنسبة من المال بغض النظر أيضا هل ربح العامل أم خسر، عمل أو لم يعمل.
أما المضاربة الشرعية فلصاحب المال جزءا مشاعا معلوم من الربح كالثلث والنصف إن وجد، وأما الخسارة فعلى المال، ويخسر العامل مجهوده.
تنبيه هام: الأموال التي تودع في البنوك تسمى ودائع، وهذه تسمية خاطئة شرعاً وعرفاً؛ لأن الوديعة لا تضمن وفي الحديث: (من أودع وديعة فلا ضمان عليه) رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني، فالوديعة تحفظ بعينها لترد، أما القرض فيستهلك ويرد بدله فهي -أي ودائع البنوك- قروض ربوية لا شك في ذلك؛ لأنها مضمونة، بل ومضمون معها الزيادة مسبقا.