بسم الله الرحمن الرحيم
عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله: ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)).
انتهى رمضان وانتهت معه فضائل الأعمال عند كثير من الناس، فخلت المساجد، وقلّ فيها الراكع والساجد، وانقطع الصيام، وانتهى الجود والكرم والسخاء، وعادت للمعاملة القسوة والجفاء. وهذا الحديث يذكّر المسلمين بما ينبغي من مواصلة الحال الطيبة التي كانوا عليها في رمضان من صلاة وصيام، ولين قول وإطعام طعام. والنبي يرغّبنا في ذلك فيقول: ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها)) وذلك لشفافيتها المتناهية، فهي شفّافة للغاية، حتى إن الرائي ليرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها.
وقد جاء ذكر الغرف في القرآن الكريم في أكثر من آية: قال - تعالى -: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما} [الفرقان: 75].
وقال - تعالى -: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنّهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} [العنكبوت: 58].
وقال - تعالى -: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} [سبأ: 37].
وقال - تعالى -: {لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار} [الزمر: 20].
أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى [محمد: 15].
ولهم فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
هذه الغرف ((أعدّها الله لمن ألان الكلام)) كما قال - تعالى -: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد }[الحج: 23-24].
والقول الليّن الطيب هو القول الهيّن السهل اللطيف، الذي لا خشونة فيه ولا فحش ولا صلف. وقد أمر الله - تعالى-نبيه بأن يأمر المؤمنين بالقول اللين، فقال - تعالى -:{ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} [الإسراء: 53].
قال ابن كثير: يأمر- تبارك وتعالى - عبده ورسوله محمدا أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاورتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإنه عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، وعداوته ظاهرة بينة.
وتتأكد الكلمة الطيبة في مواضع:
منها: عند السؤال وعدم القدرة على العطاء، قال - تعالى -: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذّر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنه ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} [الإسراء: 26-28].
ومعنى الآية: إن تعرض عن هؤلاء المذكورين لعدم وجود ما تعطيهم، وأنت ترجو الله أن يرزقك فتعطيهم فقل لهم قولا ميسورا أي: لينا هينا لطيفا طيبا، كالدعاء لهم بالغنى وسعة الرزق، ووعدهم بأن الله إذا يسّر من فضله رزقا فستعطيهم.
وهذا تعليم عظيم من الله لنبيه لمكارم الأخلاق، وأنه إن عجز عن العطاء الجميل فلن يعجز عن القول الطيب اللطيف، وهذا الردّ الطيب أفضل من العطاء القبيح، قال - تعالى -: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} [البقرة: 263].
وقال النبي: ((والكلمة الطيبة صدقة)).
ومنها: عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، قال - تعالى - لموسى وهارون - عليهما السلام-: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 43-44].
فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيّج الكبرياء الزائفة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان. فإذا كان موسى مأمورا بالقول اللين ومعه القوة والعصمة، فكيف بمن دونه؟! فواجب على الدعاة إلى الله - عز وجل - أن يلتزموا دائما القول اللين، والكلمة الطيبة، وأن يجتنبوا الغلظة والقسوة، والشدة والعنف، في القول والفعل معا، فإن الكلمة الطيبة تشفى الصدور، وتضمّد الجراح، وتقرّب الفجوة، والكلمة النابية الغليظة القاسية توغر الصدر، وتدمى الجراح، وتوسّع الفجوة، وكم من عدو لدود صار صديقا حميما بكلمة طيبة، وكم من صديق حميم صار عدوا لدودا بكلمة نابية.
أما الخصلة الثانية: فهي إطعام الطعام، وإطعام الطعام من موجبات الجنة، وتركه من موجبات النار. قال - تعالى -: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان: 5-9].
وقال - تعالى -: {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمون ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 38-44].
وفي الحديث: ((دخلت امرأة النار في هرّة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)).
ويفهم من ذلك أن إطعام الطعام أعمّ من إطعام الإنسان، فهو يشمل الإنسان والحيوان، ولذا قال: ((في كل كبد رطبة أجر)).
وإطعام الإنسان لا يقتصر على المساكين، بل إطعام الرجل أهله وعياله يعدّ من إطعام الطعام، وله عليه الأجر والثواب، قال: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك)).
وقال لسعد بن أبي وقاص: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك)).
وهذا الأجر مرهون بالنية الصالحة، ولهذا قال: ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة)).
أما الخصلة الثالثة: فهي متابعة الصيام، والمراد بها المحافظة على الأيام التي يشرع صيامها تطوعا، فمن صامها بعد صيام رمضان فقد تابع الصيام.
ومن هذه الأيام:
ستة من شوال: لقوله: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر)).
الاثنين والخميس، لأن النبي كان يصومها، وسئل عن ذلك فقال: ((إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين والخميس)).
ثلاثة أيام من كل شهر: عن أبي هريرة قال: ((أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)). ويستحب أن تكون: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، عن أبي ذر قال: قال رسول الله: ((إذا صمت من الشهر ثلاثا فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة)).
عشر ذي الحجة: عن بعض أزواج النبي قالت: ((كان رسول الله يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر والخميس)).
يوم عرفة: عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة؟ قال: ((يكفّر السنة الماضية والباقية)).
يوم عاشوراء: عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله عن صوم يوم عاشوراء؟ قال: ((يكفّر السنة الماضية)).
يوم تاسوعاء: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)).
أما الخصلة الرابعة: فهي قيام الليل، وقيام الليل عنوان الإيمان، قال - تعالى -: إنما يؤمن بآياتنا الذي إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون [السجدة: 15-16].
هو دليل الإحسان، قال - تعالى -: {إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 15-18].
وقد فرّق الله - تعالى - بين من يقوم الليل ومن لا يقوم، فقال - تعالى -: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9].
وقيام الليل سنة مؤكدة، فقد ((كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه)).
وكان يصلي كل ليلة إحدى عشرة ركعة، وإذا تركها ليلة لعذر أو نحوه صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. ولقد كان يرغّب في قيام الليل فيقول: ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدّها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى الليل والناس نيام)).
وكان أول ما صدع به عند وصوله المدينة قوله: ((يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)). وكان يحث الأزواج على التعاون على قيام الليل فيقول: ((رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء)). فإن عجز المسلم عن قيام الليل فما عليه إلا أن يحافظ على صلاة العشاء والفجر في جماعة، فإن هاتين الصلاتين ثقيلتان، ولذا عظم أجر من يشهدهما، قال: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)). وقد قابل بعض العلماء هذه الصفات بالصفات المذكورة في سورة الفرقان في وصف عباد الرحمن فقال: قوله: ((لمن ألان الكلام))، يقابل قول الله - تعالى -: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [الفرقان: 63].
وفيه إشارة إلى أن لين الكلام من صفات الصالحين الذين خضعوا لبارئهم، وعاملوا الخلق بالرفق في الفعل والقول. وقوله: ((وأطعم الطعام)) يقابل قوله - تعالى -: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} [الفرقان: 67].
وفيه إشارة إلى ضرورة توخّي القصد في الإطعام والبذل، فلا يجوز أن يمسك إلى درجة البخل، ولا أن يجود إلى درجة الإسراف. وقوله: ((وتابع الصيام))، يقابل قوله - تعالى -: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} [الفرقان: 75].
فالصوم هو الصبر، وقوله: ((وصلى بالليل والناس نيام)) يقابل قوله - تعالى -: {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما} [الفرقان: 64].
والدليل على صحة المقابلة اتحاد الجزاء في الحديث والآية، فقد وعد النبي المتصفين بهذه الصفات بغرف الجنة فقال: ((إن في الجنة غرفا...))، ووعد الله - تعالى -عباده عباد الرحمن بالغرف أيضا، فقال: أولئك يجزون الغرفة....
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من أهل هذه الغرف.