كانت فلسطين «رأسمالا رمزيا» يدعم شرعية الأنظمة العربية الثورية والمحافظة على السواء، وصارت اليوم عبئا على كاهل هذه الأنظمة التي تستعجل الزمن للتخلص منه. ما عاد شعار «تحرير فلسطين» يستهوي قادة الدول العربية وزعماء الأحزاب سواء في الحكم أو المعارضة... رغم أن مسلسل التسوية فشل، ورغم أن عدوان الكيان الصهيوني زاد، ورغم أن المجتمع الدولي أصبح أكثر نفاقا إزاء حق الشعوب في تقرير المصير وعدم شرعية الاستيلاء على الأرض بالقوة، وما إلى ذلك من المبادئ التي تنتحر كل يوم على أيدي الجيش الإسرائيلي. كان العرب يطالبون بتحرير الأرض من النهر إلى البحر، وصاروا يطالبون بدولتين على أرض واحدة، ثم تنازلوا إلى شعار الأرض مقابل السلام، ثم هوت المطالب إلى احترام ما اتُّفق عليه في أوسلو، أي سلطة بلا دولة، ثم تراجع النضال إلى المطالبة بفتح المعابر وإزالة الحواجز، ثم صرنا نطلب إدخال الدقيق والوقود إلى غزة، وغدا سنعتبر الهواء الذي يُستنشق في سجن غزة مكسبا وطنيا وجب الحفاظ عليه. الخزانات العربية مليئة بدولارات النفط بعد أن ارتفع سعره السنة الماضية وبداية هذه السنة. ولا أحد يطالب الحكام العرب باستدعاء جنرالاتهم استعدادا للحرب، ولا شراء سلاح متطور لردع الآلة العسكرية الإسرائيلية، فالمعركة انتهت قبل أن تبدأ... لكن ما المانع من تخصيص جزء من أموال النفط لخطة سياسية واقتصادية لدعم الفلسطينيين والضغط على إسرائيل، ولو من باب «إنساني»، حتى تقف عند حدود عدم المس بحياة الأطفال والمرضى، فـ60 % من أطفال غزة يعانون من نقص التغذية. جريمة ضد الإنسانية تنقل بالصوت والصورة كل مساء على فضائيات العرب والعجم، ولا أحد يتحرك لنجدة مظلوم أو لمحاكمة الظالم. لم يصل الهوان العربي إلى هذا المستوى من قبل. أولى المبادرات التي كسرت الحصار كانت لبواخر أوربية أخذت المبادرة ونجحت في كسر الحصار. أما العرب وجامعتهم الموقرة ومؤتمرهم الإسلامي المبجل فإنهم في شغل عن أطفال غزة... ليس فقط خوفا من إسرائيل ومن أمريكا التي صارت تحدد جدول «الشعور القومي العربي» وحدوده، ولكن العرب اليوم وصلوا إلى درجة من التخدير ومن ابتعاد الأنظمة عن تمثيل شعوبها إلى درجة لم تعد الحكومات قادرة على مجرد الحفاظ على ماء وجهها. ليست هناك برلمانات منتخبة ديمقراطيا تخاف على سمعتها في الشارع إن هي قصرت في الدفاع عن القضايا «القومية» أو حتى الإنسانية. ليست هناك حكومات منبثقة عن انتخابات شفافة يخاف زعماؤها السقوط إن هم ابتعدوا عن التزامات البلد وعما يعتبره المواطنون «قضايا عادلة يجب الدفاع عنها في الداخل والخارج».. ليست هناك وسائل إعلام حرة ومستقلة تحرج العجز العربي.. ليست هناك أحزاب قوية تضغط على الجرح لدفع الحكومات إلى شيء من «الصمود»... الكل غارق في الحفاظ على كرسي الحكم. فالذي يتوفر على المال مشغول باستثماره مخافة انقطاع ريعه، والذي يغرق في الفقر مشغول بتقوية أجهزة الأمن من أجل ضبط الأفواه الجائعة... أما فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من الأراضي المحتلة فإنها لا تقع ضمن أولويات حكومات ضيّعت «شرعيتها» في الداخل، ولم يعد لها صوت في الخارج. كيف تطلبون من العالم أن يقنع إسرائيل بفك الحصار عن غزة ومصر طرف أساسي في هذا الحصار؟ كيف تطلبون من بان كي مون أن يتحرك وجبهات النزاع مع إسرائيل هي أكثر مناطق الصراع هدوءا في العالم. لقد تحولت فلسطين إلى ملف إنساني ولم تعد قضية سياسية تتصل بالأمن القومي للعرب.. إن وجد هناك شيء اسمه عرب على الخارطة اليوم... ************************* مقال للكاتب " توفيق بوعشرين