بملازمتها الدائمة لمستخدميها، واستيعابها لمدى واسع من التقنيات المختلفة تبوأت الهواتف النقالة مكانة لا يكاد ينازعها فيها أي أداة تكنولوجية أخرى.. بيد أن لهذا الانتشار ثمنًا يجب ألا نغفله. ففي العقود الثلاثة التي تفصل بين "الهاتف الحذاء" أول أسلاف الهواتف النقالة والذي ظهر عام 1972 والهواتف المزودة بالكاميرات الشائعة الآن، قطعت الهواتف النقالة شوطًا مثيرًا من التطور. وبنظرة على تاريخ صعود هذه الهواتف يتبين أنها قد عبرت في مسيرة ارتقائها بمراحل عدة؛ مستمرة ومتداخلة وناتجة إحداها عن الأخرى.
انتشار غير مسبوق
رغم تدشين موتورولا لصناعة الهواتف النقالة أوائل الثمانينيات الماضية، ثم شركة "نوكيا" التي لحقت بها عام 1987 بطراز "Cityman"؛ فإن الانتشار الحقيقي للهواتف النقالة بدأ في التصاعد منذ النصف الثاني من التسعينيات الماضية مع نجاح الشركات المصنِّعة في تصغير مكونات الهواتف، ومن ثم إنتاج هواتف أخف وزنًا (وظلا). وكذلك مع تبسيط سبل استخدام الهواتف، إضافة إلى تراجع أسعار إجراء الاتصالات عبر هذه الهواتف.
أول هاتف نقال من إنتاج نوكيا
وانتشرت الهواتف النقالة بصورة غير مسبوقة في تاريخ الأجهزة التكنولوجية كلها تقريبًا. فشركة "نوكيا" التي تسيطر على حوالي 30% من سوق الهواتف النقالة عالميًّا باعت حتى الآن حوالي 1.5 مليار هاتف كما ذكرت مجلة "The Economist" مؤخرًا. وفي أوائل شهر مارس 2005 أصدرت مؤسسة جارتنر لأبحاث السوق تقريرا يقول بأن مبيعات الهواتف النقالة بلغت خلال عام 2004 حوالي 674 مليون وحدة، بزيادة قدرها 30% عن العام الذي سبقه. وتوقع التقرير أن تصل مبيعات عام 2005 لما يتراوح بين 730 – 770 وحدة. وفي العام الماضي تحدث الأمريكيون 17 مليار ساعة عبر هواتفهم النقالة، كما ذكرت مجلة "Fortune". وتوقعت مجلة "Slate" الأمريكية أنه بين عامي 2010 و2020 ستختفي تمامًا الهواتف الثابتة التقليدية.
لفت هذا الانتشار الكبير أنظار شركات التكنولوجيا إلى "الحميمية" التي تتمتع بها الهواتف النقالة لدى مستخدميها؛ فقد صارت الأداة التكنولوجية الوحيدة التي لا تكاد تفارق مستخدميها في ليل أو نهار. ومن ثَم سعت شركات عدة –من مصنِّعي الهواتف النقالة أو من غيرهم– إلى الاستفادة من هذه الحميمية، وذلك بدمج المزيد والعديد من التقنيات والخدمات في الهواتف النقالة. وبذا دُشنت المرحلة الثانية في مسيرة ارتقاء الهواتف النقالة.
تقنيات مدمجة بلا حدود
يمكن القول بأن هذه المرحلة بدأت مع دمج تقنية الرسائل النصية القصيرة مع الهواتف النقالة. فقد أرسلت أول رسالة من ذلك النوع بنجاح بين هاتفين في ديسمبر 1992، وأتيحت الخدمة تجاريًّا للمرة الأولى عام 1995. أما الكاميرا الرقمية –المثال الأكثر وضوحًا على التقنيات المدمجة– فأضيفت للهاتف النقال لأول مرة في العالم في هاتف من إنتاج شركة شارب اليابانية في نوفمبر عام 2000. وتمتد قائمة التقنيات المدمجة لتشمل عددًا كبيرًا من التطبيقات والتقنيات المختلفة.
وجدير بالذكر أن الانتشار الكبير للهواتف النقالة لم يكن السبب الوحيد وراء إقدام الشركات على دمج التقنيات الجديدة؛ فهناك سببان آخران: أولهما إدراك مصنعي الهواتف النقالة أنهم لا بد أن يبحثوا عن سبل أخرى لبيع المزيد من الهواتف التي تستطيع أن تقدم أكثر من مجرد مساعدة المستخدم على التواصل مع الآخرين صوتًا. وثانيهما أن التطور في كفاءة البنى التحتية لشبكات الهواتف النقالة من شبكات الأسلاك النحاسية البطيئة نسبيًّا إلى شبكات الألياف الضوئية فائقة السرعة قد جعل الشركات المنتجة لهذه البنى التحتية تعجل بالإعلان عن وظائف جديدة للهواتف النقالة للاستفادة من كفاءة وسرعة الشبكات الجديدة في نقل وتبادل البيانات.
وكان من أول الآفاق الواسعة الذي ولجته الهواتف النقالة أفق نقل وتبادل البيانات الذي بدأ بمجرد تبادل الرسائل النصية القصيرة (SMS) إلى أن تطور الآن ليشمل تحميل ملفات كبيرة الحجم من المواد المسموعة والمرئية على الهواتف مباشرة. ثم أضيفت إمكانية الدخول على الإنترنت التي فتحت بدورها آفاقًا عدة لاستخدامات الهواتف النقالة، فصار بإمكان المستخدم أن يتصفح البريد الإلكتروني، وأن يتواصل عبر خدمة "المرسال اللحظي" (Instant Messaging) بصورة دائمة مع أصدقائه المتصلين بالإنترنت. وتعاونت شركتا "موتورولا" و"آبل" لتطوير هاتف نقال له إمكانيات مشغل الموسيقى (iPod) الشهير؛ مما يتيح للمستخدم تحميل الموسيقى من الإنترنت وسماعها في الوقت الذي يحلو له.
وتعكف شركتا "موتورولا" و"ماستر كارد" على تطوير هاتف نقال يعمل كبطاقة ائتمان تستخدم في التسوق، وحيث يكتفي مستخدم ذلك الهاتف بتوجيهه لأجهزة القراءة اللاسلكية في المتاجر؛ ليقوم الهاتف بإجراء التعاملات المالية بصورة مؤمَّنة. وبدأت شركة نوكيا أوائل إبريل 2005 في اختبار استقبال البث التليفزيوني على هواتفها في العاصمة الفنلندية، ويتوقع أن تتاح هذه الهواتف بصورة واسعة خلال العام القادم. وفي كوريا الجنوبية يتيح مقدمو خدمات الهواتف النقالة للمشتركين إمكانية تحميل الأفلام الحديثة مقابل اشتراك شهري محدد.
N-Gage الهاتف النقال المدمج به فيديو جيم
ودخلت الهواتف النقالة مضمار الألعاب الحاسوبية بتدشين نوكيا لطراز (N-Gage) عام 2002. والأكثر من ذلك طوّر باحثان من معهد ماساتشوستس للتقانة (بالولايات المتحدة) هاتفًا نقالا قادرًا على التعرف على أنماط سلوك صاحبه، سواء في العمل أو الحياة الشخصية أو الاجتماعية! ويعتمد هذا الهاتف النقال على تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحديد سلوك مستخدمه من خلال التعرف على الأنماط المتكررة من ذلك السلوك.
ومن الخدمات الجديدة التي أتاحها اتصال الهواتف النقالة بشبكة الإنترنت، خدمة mobile blog. ومواقع المدوّنات blog؛ وهي صفحات شخصية للإدلاء بالآراء أو كتابة اليوميات وما شابه، وهي تقدم مجانًا لمستخدمي الإنترنت عن طريق مواقع مثل Blogger، أما الجديد في المدونات المتنقلة mobile blogs فهو أن المستخدم يستطيع من خلال هاتفه النقال أن ينشر ما يريد في "غمضة عين" على مدونته الخاصة على شبكة الإنترنت.
تداعيات لم تكن بالحسبان
أدى التقاء عناصر من المرحلتين السابقتين إلى بزوغ مرحلة ثالثة، وهي مرحلة التداعيات والآثار التي لم يكن يتوقع بأي حال أن تنتج عن الهواتف النقالة، سواء باعتبارها وسيلة للتواصل صوتًا أو باعتبارها أداة تكنولوجية مساعدة. بعض هذه التداعيات والآثار إيجابي وبعضها سلبي.
يمكن التأريخ لنقطة بداية هذه المرحلة من عام 1999 حين اشتعلت المظاهرات المناهضة للعولمة في ولاية سياتل الأمريكية، وحيث كان يتم تنظيم حشودها وتجميعهم من خلال الرسائل القصيرة على الهواتف النقالة، وبنفس الطريقة كان يتم تنظيم المظاهرات ضد رئيس الفلبين السابق جوزيف إسترادا عام 2001، إلى أن أجبر على التنحي عن الحكم، وذلك كما أورد هوارد راينجولد في كتابه "جموع ذكية: الثورة الاجتماعية التالية". وفي كلتا الحالتين نرى تحولات سلوكية وتنظيمية جذرية ناتجة عن تقنية لم يكن منتظرًا منها أبدًا أن تمتد آثارها لأوجه الحياة تلك.
وأدى تزويد الهواتف بالكاميرات وبالقدرة على الاتصال بالإنترنت إلى تعظيم حرية الأفراد في التعبير عن آرائهم وبالمشاركة في صنع المحتوى الإعلامي من وجهات نظر مختلفة، في مقابل الإعلام التقليدي الذي تقوم على إنتاجه مؤسسات ربما لا تتسم دائمًا بالحياد أو النزاهة. ولكن هذه "التجميعة" التقنية أدت في الوقت ذاته إلى نتائج كارثية على الخصوصية الفردية دفعت ببعض الدول إلى منع أو تقييد استخدام الهواتف المزودة بكاميرات بعد أن تسببت في مشاكل اجتماعية تناقلتها الصحف.
وبقدر ما ساعدت الهواتف النقالة في تحقيق الشعور بالأمان للأفراد نتيجة اتصالهم اللحظي بالعالم من حولهم؛ فإن ذلك خلّف مشاكل اجتماعية عدة رصدتها الكاتبة كريستين روزن في مقال نُشر لها أواخر 2004 في دورية The New Atlantis.
فأولا: الاتصال الدائم مع آخرين في أماكن نائية يخلق حالة من "الحضور الغائب"؛ حيث جسدك في مكان، وعقلك مع شخص آخر يبعد مئات أو آلاف الأميال؛ وهو ما يقوض التواصل الاجتماعي الطبيعي بين الأفراد. وثانيًا: الاتصال الدائم يجعل الفرد أقل قدرة أو رغبة في اتخاذ أي قرار؛ فكلما واجهه موقف يستدعي اتخاذ قرار فإنه يفضل أن يعقد "مؤتمرًا" فوريًّا. ولن يكلفه ذلك إلا الضغط على عدة أزرار لاستشارة عدة أفراد. وثالثًا: الاتصال اللحظي الذي تتيحه الهواتف النقالة قد بَدّل –أو قلب رأسًا على عقب– قواعد وأوقات العمل التقليدية (من 9 إلى 5)، وبحيث صار الموظفون يشكون من كونهم "تحت الطلب" 24/7 (24 ساعة في اليوم، 7 أيام في الأسبوع) تقريبًا.
نخلص إذن إلى أنه بينما كانت الهواتف النقالة بادئ الأمر مجرد هواتف؛ فإنها سرعان ما انتشرت وارتقت فصارت أدوات تكنولوجية متعددة الاستخدامات عميقة التأثير في أوجه شتى من حياتنا اليومية.