بسم الله الرحمن الرحيم
لا يجوز بحال - مهما كان - الاستخفافُ بقدْر الوعظ، من أجل أناس تصدّروا للوعظ وهم ليسوا له بأهل، فتنكبوا عن صراطه، وشوّهوا صورته، وامتطوا له غير مطيته، وتزودوا له بغير زاده؛ لأن مادة الوعظ وحي، أو ما هو مستنبط منه، ولأنه وظيفةٌ من وظائف الأنبياء والرسل، فاجتمع له شرفان: شرف الرسالة وشرف حملتها من الأنبياء والرسل.
وحين نلوم أقواماً أطلقوا ألسنتهم وأقلامهم في الاستخفاف بالوعظ، وتعيير خطابه بالسذاجة ووصفه بالدرْوَشة، فإن لهم شركاء في هذا المأثم ينبغي أن يكون لهم من الملام أولى النصيب؛ لأنهم هم الذين رسموا الوعظ لأولئك في صورةٍ شوهاء، فهؤلاء رسموا وأولئك وصفوا، والفريقان شريكان في الجناية.
فبعض المحسوبين على الوعظ شوّهوا صورته بمنهجهم وخطابهم، وأولئك المغرضون شوهوا صورة الوعظ حين قصدوا أقبح صورةٍ فحصروا فيها صورة الوعظ متعامين عن صور أخرى رائعة ظاهرة غير متوارية عن الأنظار.
وبجريرة هذين الفريقين تشكلت للوعظ صورة نمطية في أذهان الناس لا تليق بمكانته في الشريعة.
ولن تعود للوعظ مكانته المهيبة الرفيعة ما لم يترفّع هذا الفريق من الوعّاظ عن امتهان الوعظ بمنهجهم الخاطئ وخطابهم العفوي المرتجل الذي يرسلونه كيفما اتفق، فليس بين أحدهم وبين مقام الوعظ إلا أن يعقد النية ويعزم الأمر، ثم يقف ليرتجل كلاماً ينشئه إنشاءً، لم يكلف نفسه عناء التحضير له وترتيب أفكاره واختيار ألفاظه وجمع شواهده، فإذا تكرّم بإيراد نصٍ في سياق وعدٍ أو وعيد، أو في سياق تقرير حكمٍ بإيجاب أو تحريم، زاد في دلالة النص ما ليس من منطوقه ولا مفهومه، وأفسدَ بلاغتَه - أعني النص - وجمالَ أسلوبه بتعليقاتٍ ركيكة ليس فيها إلا التزيدُ بالكلام وتحميلُ النص ما يحتمل من إيجاب ما لا يوجبه النص، أو تحريمِ ما لا يحرِّمه، وتقويل الشرع ما لم يَقُل.
وهذه الفئة من الوعاظ -الذين جعلوا الوعظ ممتهَناً- هم للعوام أكثر شبهاً إن لم يكونوا من جملتهم، وهم إلى أمية العلم أقرب، يعظون أكثر مما يقرؤون، ولا يحققون فيما يتفوّهون، مع أن أمر الوعظ متردد بين الوعد والوعيد، ومبناهما على التوقيف، فلا تبشير بوعد ولا تخويف بوعيد إلا بنص صحيح، والأمر فيهما لا يحتمل الاجتهاد، ولا يكفي فيه التزود ب-(حسن النية).
وما غرَّ هؤلاء في استعجال ارتجال الموعظة من غير إعداد ولا ترتيب أفكار إلا جرعة زائدة من شعور (الثقة بالنفس)، تشبّعت بها نفس أحدهم حتى لم يبق فيها متسع للشعور بالنقص أو بالحاجة إلى المراجعة والتحضير والقراءة.
ولِمَ يكلفُ أحدهم نفسَه عناء القراءة والبحث وقد تيسر له من الوعظ ما لا يحوجه إلى النظر في الكتب، وحفظِ مواعظ الوحيين؟!
ولِمَ كلّ هذا العَناء وأحدهم يجد إلى التأثير في الناس واسترعاء أسماعهم لموعظته طريقاً أيسرَ لا يكلفه أيّ عناء؟!
أما هذا الطريق غير المُكْلِف فهو منحى القَصص الواقعية! والقَصص بطبعها مشوِّقة؛ فالناس مجبولون على حب الحكايات والقصص، والفضول يستجرُّهم إذا سمعوا أولَها أن يرعوا لها أسماعهم حتى آخرها بلا تململ. وليست اللائمة في إدراج القصص في المواعظ، فقد زبرت في الكتاب والسنة، ولكنه في الاستكثار من قَصصٍ - يسمونها واقعية - تُلقى بلا خطام ولا زمام، إنما سندها -إنْ أسندها- حدثنا الثقةُ عن الثقة، وأكثرها موغل في الإغراب، تغني نكارة متنه عن البحث في سنده. ولو لم يكن من سوأة الاستكثار من هذه القَصص -مهما صح سندها- إلا الزهد في قَصص الكتاب وصحيح السنة، الناطقة بالعبرة والذكرى، المبرأة من الحشو والتناقض، لكان كافياً أن يستقلّوا منها استكثاراً من قصص الوحيين، واستبدالاً للذي هو خير بالذي هو أدنى. فكيف إذا كانت سوآت لا سوأة...كيف إذا جمعوا مع الزهد في قصص الوحيين التساهلَ في الكذب وقصد الإغراب والمبالغة، كيف إذا كان من سوآت الاستكثار من القصص الواقعية تخويف الناس بالعقوبات الدنيوية أكثر من الأخروية، وإيهامهم أن صاحب المعصية لا بد أن تعاجله عقوبة دنيوية؛ وإلا فهو بمنجاة من العقوبة، والقصاصون لا يقولون ذلك تصريحاً؛ ولكنه إيحاء توحيه قصصهم التي ما فتئوا يعظون ويستكثرون منها، ويشتغلون بها عن نصوص الوعيد وكفى بها واعظاً وزاجراً لو كانوا يعقلون.
فإلى قصص القرآن والسنة -أيها القصاصون- إن كنتم فاعلين، أحيوا ذكرها بين الناس وبخاصة ما قصه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنته، واستنطقوا عبرها ومواعظَها.
لقد كنا نراكم - وأنتم تستنكرون صوراً من البدع - تحتجون بهدي الصحابة، وتقولون: لو كانت هذه البدعة خيراً لسبقونا إليها، ونحن نحاجّكم بالحجة نفسها، فهل كان من هدي الصحابة في مواعظهم الاشتغال بقصص واقعهم عن موعظة الكتاب والسنة وقصصهما؟! أيسركم أن يقال لكم ما قيل لبني إسرائيل: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)؟!