الوثيقة التي أضاعها المسلمون

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : سلمان بن يحي المالكي | المصدر : www.midad.me

بسم الله الرحمن الرحيم 

تعيشُ الأمةُ الإسلاميةُ اليوم أحوالاً من الضعفِ والتفكك، وتذوقُ ألواناً من الذلِ والهوان، وتقاسي مآسيَ من التفرقِ والتشرذُم، والعقلاءُ يتطلعون لرؤيةٍ مستقبليةٍ تُنْقِذُ الأمةَ مما هي فيه، وقد أدلى المثقفونَ برؤيتهم، والساسةُ بحلولهم، والكُتاب بنظراتهم، تعددت التحليلاتُ للأسباب، وتنوعتِ النظراتُ بالمخارج والحلول، وقد آن الأوانُ بالأمة جمْعاءَ شعوباً وأفراداً حكاماً ومحكومين أن يتبصروا الحقيقةَ وأن يستجلبوا الحلولَ الناجحةَ من منطلقاتِ ثوابتِ دينِهم ومرتكزاتِ أصولهم فمهما حاولت الأمة فلن تجدَ حلولَا ناجحةً لأدوائها ومخارجَ لأزماتها ومشكلاتِها إلا من فهمٍ صحيحٍ من كتاب الله وسنةِ نبينا محمد وسأعيشُ معك أخي الكريم لحظاتٍ ماتعة مع وصيةٍ عظيمةٍ صدرت من معلمِ البشرية وسيدِ الحنيفية نبيِنا محمدٍ وهو يوجه للأمةِ وثيقةً خالدةً تصلُح بها حياتُها وتُفلح بها آخرتُها، تَسْعَدُ بها أفرادُها وتزدهِر بتحقيقِها مجتمعاتُها، وثيقةٌ يجب أن تكونَ نَصبَ أعيننا، وأن يكون تطبيقها حاكمَ تصرفاتنِا، ومُوَجِهَ تحرُكاتِنا ومُصَحِحَ إراداتِنا وتوجُهاتِنا، وثيقةٌ لا تنظرُ لتغليبِ مصلحةٍ قومية، ولا تنطلقُ من نزْعةٍ عِرْقيةٍ أو نظْرةٍ آنية، وثيقةٌ صدرت ممن لا ينطق عن الهوى، ولا يَصْدرُ إلا عن وحي يوحى وثيقةٌ محمديةٌ ووصيةٌ نوْرانيةٌ تنهض بالأمة للحياة المزدهرةِ المثمرةِ بالخير والعزةِ والصلاحِ والقوة وإحياءٌ شامل للفردِ والجماعةِ والنفوسِ والمقدَّرات، إنها حياةٌ تُبنى على قوةِ الإيمانِ التي لا غِنى عنها في مواجهةِ الأزمات، حياةٌ تَعْني النهضةَ بأشمل معانيها وأدقِ صورها، بما يجمعُ للأمةِ تحقيقَ السعادةِ ومعايشةَ الأمنِ والسلام والخيرِ والازدهارِ والرقيِ في جميعِ مجالاتِ الحياة، فإن العزَ في تحقيق هذه الوصيةِ مضمون، والمجدَ في الدارينِ بتنفيذ بُنودها مرهون، الأفرادُ بدون تحقيقها في ضياع، والمجتمعاتُ في البُعدِ عن مضامينِ هذه الوثيقة إلى تشتُتٍ ودمار، وثيقةٌ تربُط المسلمَ بالأصل مع اتصاله بالعقل، وثيقةٌ تحقيِقُها هو الضامنُ الأوْحد للتحدياتِ التي تواجه الأمةَ الإسلامية وتستهدفُ قيمِها ومقدّراتِها وخصائصَها، يقول عمر الفاروق - رضي الله عنه - (إنما سبقتم الناس بنُصرة هذا الدين)

 

ولتتأمل معي أيها المبارك إلى تلك الوصيةِ العظيمةِ والوثيقةِ الخالدةِ تأمل استجابةٍ وتحقيقٍ واستماعَ امتثالٍ وانقياد، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -:

كنت خلف النبي يوماً فقال لي " يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله،

واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،

رُفعت الأقلام وجفت الصحف " [ رواه الترمذي وقال" حديث حسنٌ صحيح " وفي روايةِ غيره: " احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبَك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئَك، واعلم أن النَصر مع الصبر، وأن الفرَج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا "

نعم.. هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة، وقواعدَ من أهمِ أمور الدين، قال بعض المحدثين: تدبرتُ هذا الحديثَ فأدهشني وكِدّتُ أن أطيش، فوا أسفا من الجهلِ

 

بهذا الحديثِ وقلةِ التفهمِ لمعناه، ومن أهم قواعده ووصاياه:

 

أولا: حِفظ الله المرادُ به في هذا الحديث هو حفظُ حدوده والالتزامُ بحقوقه والوقوفُ عند أوامره بالامتثال وعند مناهية بالاجتناب {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ حفظٌ } يتضمن حِفْظَ الرأس وما وعى، والبطنَ وما حوى، فقد أخرج الإمام أحمدُ والترمذيُ من حديث ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - مرفوعاً " الاستحياء من الله حقَّ الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وأن تحفظ البطنَ وما حوى ".

حفظٌ يمنع الجوارح من الزللِ والحواسَ عن الخلل، قال " من يضمنُ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة " [رواه البخاري] حفظٌ يضبط الشهواتِ أن تميل بصاحبها إلى الضلال، أو أن تجنحَ به عن مبادئِ القيمِ وكريمِ الخِلال {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.

 

ثانيا: من قواعدِ هذا الدين أن الجزاءَ من جنسِ العمل، فمن حقق حفظَ الله بالمعنى المتقدم تحقق له حفظُ الله ورعايتُه وعنايتُه، حفظاً يشملُ دينه ودنياه، ويحققُ له المصالحَ بأنواعها، ويدفعُ عنه الأضرارَ بشتى أشكالها.

 

ثالثا: قال أهل العلم: وحِفْظُ الله للعبد يدخل فيه نوعانِ من الحفظ:

أحدهما: حِفْظُ الله للعبد في دينه وإيمانه بحفظه من الشبهات المضلةِ ومن الشهوات المحرمةِ بالحيلولةِ بينه وبين ما يُفسد عليه دينَه {كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.

الثاني: حفظٌ له في مصالحِ دنياه، كحفظه في بدنه وولدِه وأهله وماله {لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قال ابن عباس - رضي الله عنهما - (الملائكةُ يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر تخلوا عنه) وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في كتابه جامع العلوم والحكم " ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعلَ الحيواناتِ المؤذيةَ بالطبعِ حافظةً له من الأذى كما جرى لسفينةَ مولى النبي حيث كُسِرَ به المركب وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسد، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق ".

 

ثالثا: أن الله يحفظُ ذريةَ العبدِ الصالحِ بعد موته، كما قال - جل وعلا - {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} قيل: إنهما حُفظا بصلاحِ أبيهما، كما قال - جل وعلا -: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} ومن حَفِظَ الله في صِباه وقوتِه حفظه الله في حال كِبَره وضعفِ قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحولهِ وقوته؛ جاوزَ بعضُ السلف المائةَ سنة، وهو مُمتَّع بقوته وعقله، فوثب يوماً وثبةً شديدةً فقيل له: ما هي هذه الوثبة؟ فقال " هذه جوارحٌ حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر".

 

رابعا: إن الأمةَ على مستوى آحادها ومجتمعاتها، وبمختلف مسؤولياتها وتنوُعِ مكانتها، متى حفظت دين الله، فحققت الإيمانَ الصادقَ به، واستسلمت لأمره في كل شأن، وتخلَّصت من أهواءِ النفوس وشهواتِ القلوب، وكانت أحوالُها السياسيةُ والاقتصاديةُ والاجتماعيةُ وغيرُها على مقتضى منهج الله وسنةِ رسول الله فجعلت الإسلامَ الصافيَ منهجاً كاملاً لحياتِها في كل أطوارِها ومراحلها وفي جميع علاَقاتها وارتباطاتها وفي كل حركاتها وسكناتها، تحقق لها حِفْظُ الله من كل المكاره والمشاقِ والأزمات والمحن التي تعاني منها، ويحصُلُ لها عندئذ الأمنُ والاستقرار والعزةُ والانتصار {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} ومتى استغرق الإيمانُ بالله والاهتداءُ برسوله ذلك حياتَها وسادَ توجهاتِها

وقادَ تحركاتها حصل لها الأمنُ بكل مقوماته وشتى صوره، أمنٌ من الأعداءِ والمخاطر، ومن المخاوفِ والأضرار، أمنٌ سياسي واقتصادي واجتماعي، فمتى ما قام المسلمون جميعاً بحقائقِ دينهم ومبادئِ إسلامهم وجانبوا الأهواءَ والشهوات، وعملوا بصدقٍ للإسلام مع الأخذِ بالأسباب وإعدادِ العدة، والأخذِ بالوسائل، عندئذ يمكنهم الله من الأرض، ويقوي شوكتَهم، ويُعزُ كلمتَهم، ويُرْهبُ بهم أعداءهم، ويُعِمُّ لهم الخيرُ والعدلُ والسلام {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}.

 

خامسا: إن الأمةَ متى وقع بها البلاءُ وقاست الابتلاء، وخافت فطلبت الأمن، وذلت فطلبت العزة، وتخلفت فطلبت الاستخلاف والاستقرار، فلن تجد لذلك سبيلاً وطريقاً ولن يتحققَ لها شيءٌ مما تبتغي وتطلب حتى تقوم بشرط الله - جل وعلا - من القيامِ بطاعة الله ورسوله، والرضا التامِ بشريعةِ الإسلام، وتحقيقِ النهجِ المرتضى، فحينئذ يرتفع عنها الفسادُ والانحدار، ويزول منها الخوف والقلق والاضطراب، ولن تقفَ إذاً في طريقِها قوةٌ من قوى الأرض جميعاً {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.

 

سادسا: ما من أمةٍ مسلمة عبر التأريخِ تُخالف هذا النهج إلا تخلفت في ذيلِ القافلة، وذلت وطُردت من الهيمنة، واستبدَّ فيها الخوف، وتخطفها الأعداء {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} ثبت عن النبي الرحيمُ المشفق بأمته أنه قال " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " فوعد الله قائمٌ مهما اختلفت العصور وتغيرتِ الأحوال متى قام الشرط المذكور، فمن شاء تحقيقَ الوعد فليَقُمْ بالشرط {ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}.

 

سابعا: لقد سار سلف هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم على هذا المنهج ثقةً بالله، واعتماداً عليه، وقوةَ إيمانٍ به مع ثباتٍ في العزيمة، وصبرٍ على الشدائد، وتأسٍ كاملٍ بخير أسوةٍ رسولِ الله مع عملٍ خيِّرٍ متواصل لا ينقطع، أقام الله بهم شوامخَ صروحَ هذا الدين، وقامت بهم دولةُ الإسلامِ القويةُ في أصقاعِ الأرض، وذلك لما وزنوا الدنيا في واقعها بميزانها الحقيقي، فلم يركنوا إليها، وعرفوا حقارَتها وسرعةَ زوالها، فلم يخدعوا أنفسهم بها، بل عرفوا الآخرة، وقدرُوها حق قدرها، وجعلوها نَصبَ أعينهم، فلخلودها يعملون، وعليها يحرصون، فهانت عليهم الصِعاب من أجلها، ذكر ابن كثير - رحمه الله – في أحداثِ سنةِ ثلاثٍ وستين وأربعمائة من الهجرة قال " أقبل ملكُ الرومِ في جحافلَ لا تحصى كأمثال الجبال وعُددٍ عظيمةٍ وجمْعٍ هائل، ومن عزمه أن يجْتَث الإسلامَ وأهلَه، فالتقى به سلطانُ المسلمين في جيشٍ وهُم قريبٌ من عشرين ألفا، وخاف من كثرةِ المشركين، فأشار عليه الفقيهُ أبو نصرٍ محمدُ بن عبد الملك البخاري - رحمهما الله - تعالى - أن يكونَ وقتَ الواقعةِ يوم الجمعة بعد الزوال حين يكونُ الخطباءُ يدعون للمجاهدين، فلما تواجهت الفئتان، قال للمسلمين: من أراد أن يتحلل مني الآن فاليتحلل، فما أنا إلا بشر مثلكم، ومن أراد أن يرجع إلى بلده فليرجع فليس ثمة اليوم سلطان، فنزل عن فرسه، وسجد لله - عز وجل -، وعفّر وجهه بالأرض ودعا الله - تعالى - واستنصره وقال: يا رب ملك من ملوك الدنيا ذل لملك الأملاك، فأنزل الله نصره على المسلمين، ومنحهم أكتاف المشركين، وكان نصراً مُؤزراً مجيداً " وصدق الله {يأَيُّهَا لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ} وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.