تدريس الرياضيات مشكلة، سواء في الدول النامية أو حتى المتقدمة، وهذا ما أكده تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2003 الصادر تحت عنوان "بناء مجتمع المعرفة"؛ فقد شدد التقرير على الحاجة الماسة إلى تعليم مرتفع الجودة وبالأخص في مجالي العلوم والرياضيات؛ وهو ما يساعد الدول النامية على اللحاق بركب التنمية.
وفي مسعى منه لحل تلك المشكلة وتخفيف وطأتها في المنطقة العربية، أبرم المكتب الإقليمي لمنظمة الثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة "اليونسكو" بالقاهرة اتفاقا مع شركة "ولفرام ريسيرش" لتمكين جميع الدول العربية بموجبه من الحصول على برنامج تعليم الرياضيات "ماثيماتيكا" وفقا للدخل القومي لكل منها؛ وهو ما سيخفض سعر البرنامج الشهير من حوالي 1000 دولار -كما هو الحال في أمريكا الشمالية- إلى 10 دولارات في الدول العربية.
وحول أهمية هذا البرنامج، ومدى استفادة الدول العربية منه دار هذا الحوار(1) مع الدكتور طارق شوقي؛ المستشار الإقليمي لشئون المعلومات والاتصالات بمكتب اليونسكو بالقاهرة، ومهندس اتفاق ماثيماتيكا.
* كيف يمكن تعريف برنامج "ماثيماتيكا"؟
- ماثيماتيكا هو واحد من مجموعة برامج تقصد استخدام الكمبيوتر لحل مشاكل بالغة التعقيد في الرياضيات. وهذا البرنامج قادر على حل المسائل الرياضية العددية أو الرمزية، أي التي تعتمد على أعداد أو رموز. فمن ناحية هذا البرنامج يشبه الآلة الحاسبة في تعامله مع الأرقام، لكنه بنفس الكفاءة قادر على التعامل مع المعادلات الجبرية المعتمدة على الرموز التي جرت العادة على أن نحلها يدويا.
وقد طور ماثيماتيكا العالم الفذ ستيفن ولفرام، وهو بالأساس باحث فيزياء متخصص في الأنظمة المعقدة (complex systems)، وطرح هذا البرنامج وأنشأ شركة مبنية عليه في أوائل التسعينيات. والشركة الآن بصدد طرح الإصدار السادس من البرنامج. وبين الإصدارين الأول والسادس اتسعت بصورة كبيرة نطاق المشكلات الرياضية التي يستطيع ماثيماتيكا التعامل معها. فمثلا، يستطيع البرنامج أن يتعامل مع المشكلات الجبرية والتحليل العددي والمعادلات التفاضلية، والتكامل بجميع أنواعه العددي والرمزي، وكذلك "رسم" كل الدوال ثنائية وثلاثية الأبعاد. فهذا البرنامج يعمل وكأنه "دائرة معارف" للرياضيات.
وهذا البرنامج يصلح تماما لتبسيط المفاهيم الرياضية لطلبة الثانوية، كما يصلح لمساعدة الباحثين في مرحلة ما بعد التخرج لإجراء أبحاثهم سواء في الرياضيات البحتة أم التطبيقية.
الأكثر من ذلك أن مستخدم البرنامج يستطيع برمجة وظائف جديدة للتعامل مع مشكلات أو مسائل لم يصمم البرنامج للتعامل معها. وبهذا كله، فإن هذا البرنامج يمثل إضافة كبيرة للطلبة والعاملين في حقول الهندسة والعلوم التي تعتمد بصورة أو أخرى على الرياضيات.
* ألا يؤدي الاعتماد على ماثيماتيكا بصورة واسعة إلى تراجع القدرات العقلية للطلبة؟
- هذه فكرة قديمة. بالطبع لا غنى عن إدراك الطلبة للمفاهيم الرئيسية مثل التفاضل والتكامل وغيرهما، خاصة إذا كنت بصدد تدريب الطلبة على المنطق أو المنهج العلمي. أما إذا كنت بصدد مشكلة في الفيزياء أو الهندسة أو الكيمياء فإن الجانب الرياضي هنا سيمثل عائقا، ومن الأفضل أن تعالجه بسرعة لتكمل مسيرتك.
فمثلا، لو أنك بصدد إنشاء جسر وتريد أن تجرب تصميمات مختلفة لتعرف الحمولة القصوى من السيارات التي يتحملها الجسر مع كل تصميم. هذا التدريب سينتج عددا هائلا من المعادلات، ولكن المعادلات ليست المغزى هنا. وفي غياب برنامج مثل ماثيماتيكا أو أي من أقرانه، يصبح حل المعادلات هو المشكلة التي تستهلك وقت وعقول الطلبة، ويغيب عنهم الهدف الرئيسي. ويصبح الطلبة "محترفي" حل معادلات استعدادا للامتحانات، دون رؤية الصورة الكلية أو السياق الذي ظهرت فيه هذه المعادلات.
ففائدة ماثيماتيكا إذن هي تركيز التعليم على المهارات الفكرية والابتكارية التي لا يمتلكها الكمبيوتر، وكذلك تساعد الوسائل البصرية المدمجة في البرامج الحاسوبية على تبسيط مفاهيم كان من الصعب شرحها بأسلوب "السبورة".
* كيف أقنعتم شركة "ولفرام ريسيرش" منتجة ماثيماتيكا بتخفيض سعر البرنامج؟
- الاتفاق الذي أبرمناه مع "ولفرام ريسيرش" ليس بالضبط تخفيضا لسعر البرنامج؛ فمثل هذه الأمور محكومة بقوانين التجارة العالمية، وكذلك سمعة الشركة عالميا. ولذا تركزت مباحثاتنا معهم على نقطتين: أولا: أنه بدخول برنامجهم للسوق العربية فستفتح لهم نافذة كبيرة للغاية، كانت عوائدهم فيها من قبل "صفر" تقريبا. وثانيا: أنه بالسعر الحالي لا تستطيع هذه الدول أن تُقبل على شراء ماثيماتيكا، ومن ثم بدأنا في تصميم معادلة -وهي اللغة التي يفهمونها جيدا بالطبع- على أحد طرفيها الدخل القومي لكل بلد وعدد الطلاب الذين سيستخدمون البرنامج، وعلى الطرف الآخر سعر البرنامج. وبذالك وصل سعر البرنامج تلقائيا إلى حوالي 10 دولارات تقريبا في الدول العربية، ولكن بشرط أن تقوم الحكومات -وليس الأفراد- بإجراء التعاقدات لأعداد كبيرة من الطلاب.
كما أن جَعْل هذا البرنامج المهم في المتناول مجرد خطوة أولى، ولا بد أن تعقبه خطوات مثل تدريب المدرسين والأساتذة على استخدامه، ثم تدريبهم على تحويل المناهج التي يدرّسونها ليتم شرحها وتصميم ما فيها من أمثلة ومسائل بالاعتماد على البرنامج الجديد. وهناك تعريب البرنامج الذي يشمل أولا تعريب واجهة المستخدم، ثم محرك (engine) البرنامج، ثم دليل المستخدم. وكل هذه الأمور مكلفة ولا تقل أهمية عن الحصول على البرنامج نفسه.
* هل أبرمت أي من الحكومات العربية اتفاقات مع شركة ولفرام ريسيرش؟
- ليس بعد. ولكن ثمة اهتماما لدى وزارتي التربية والتعليم في السعودية ومصر، وطبيعي أن تستغرق مثل هذه الأمور وقتا طويلا، حتى يقتنع صانع القرار السياسي بأهمية مثل هذه المنتجات التعليمية وعوائدها.
* ولكن لماذا لم تختر اليونسكو أيا من بدائل ماثيماتيكا المجانية من برمجيات المصدر المفتوح مثل "ماكسيما" أو "آكسيوم"؟
- نموذج المصدر المفتوح مهم ونحن نستفيد منه في اليونسكو، ولكن عندما نكون بصدد قرار بالغ وواسع التأثير مثل استخدام منتج تكنولوجي على نطاق دولة أو عدة دول فإن هناك اعتبارات كثيرة.
أولا: المقاييس الفنية: وهنا ماثيماتيكا أفضل كثيرا ولا يكاد يقارن بأي من منافسيه، سواء التجارية (ميبل وماتلاب) أم من برمجيات المصدر المفتوح.
وثانيا: منتجات المصدر المفتوح تحتاج لثقافة ومناخ عام، وكلاهما -للأسف- مفتقد تقريبا في الدول العربية. فالنظرة العامة لبرمجيات المصدر المفتوح أنها برامج "مجانية"، وأن التكلفة التي تصحبها هي "صفر"؛ وهذه نظرة سطحية وقاصرة. والصحيح أنك لن تدفع مقابلا لترخيص استخدام المنتج، ولكنك ستحتاج إلى تحمل نفقات تطويره، لتحويله إلى صورة مفيدة لك، وستنفق أيضا في صيانة المنتج ودعمه باستمرار؛ لأنه لا توجد وراءه شركة تدعمه.
ولكن الجانب الإيجابي أن هذه النفقات لن تذهب لأطراف أخرى (الشركات المنتجة)، وإنما ستنفقها على المبرمجين والمطورين لديك الذين سيحورون البرنامج ليقوم بكفاءة بالمهام المطلوبة، أي أنه استثمار في الموارد البشرية لديك. هذا بالضبط ما يجب أن يدركه صانعو القرار. واليونسكو تستخدم برنامج "مودل"(2) من برمجيات المصدر المفتوح لإدارة المحتوى التعليمي المجاني على موقع اليونسكو.
* وماذا عن الإعلان الأخير عن تعاون اليونسكو ومايكروسوفت؟
- الحق أن هذا تغير في فلسفة اليونسكو؛ ففي السابق كان الاعتقاد أن التعاون مع المؤسسات التجارية يجب أن يكون محدودا للغاية باعتبار أن هدف هذه المؤسسات هو تعظيم الأرباح، وهو ما يتعارض مع هدف اليونسكو من خدمة أعضائها من الدول، خاصة الفقيرة، دون إثقالها بالنفقات. ولكن هذه التوجه تغير نتيجة تضاؤل الميزانيات المتاحة لليونسكو الموجهة لتحسين مستوى التعليم في الدول الأعضاء، وبدون التأثير سلبا على دور اليونسكو في خدمة أعضائه، بل العكس، تعظيم هذا الدور.
فبينما كان الأسلوب المتبع سابقا هو إنفاق هذه الميزانيات المحدودة على تدريب عدد من المدرسين، لا يزيد على 30 غالبا من عدة دول عربية. فإنه وفقا للسياسة الجديدة لن تقوم اليونسكو بدور التدريب الفعلي للمدرسين، وإنما ستكتفي بتحديد المعايير في البرامج التدريبية التي تنتجها الشركات المختلفة.
وقد بدأت شركات مايكروسوفت وإنتل وهيوليت باكارد فعلا في تصميم وإعداد هذه البرامج. وستقوم كل شركة بتقديم خدماتها التدريبية في مراكزها الخاصة. وستكون الشهادات التي يحصل عليها المتدربون مدموغة بختم الشركة المقدِّمة للتدريب. وينحصر دور اليونسكو على إرساء المعايير والتأكد من تطبيقها.
في هذه الاتفاقات، يشمل دور اليونسكو تحديد المتطلبات والمهارات التي يجب أن يحصل عليها المدرس المتدرب بصورة معيارية، ثم تقييم ومراجعة المناهج التي تصممها الشركات، ثم التدخل لتحديد سقف لأسعار هذه الخدمات حتى لا تؤثر التكلفة سلبا على أهداف اليونسكو.
واليونسكو تستفيد هنا من كونها جهة محايدة اقتصاديا وسياسيا. ومن ثم فإنها عندما توصي بخطوة أو سياسة ما فيما يتعلق بتطبيق التكنولوجيا في دولها الأعضاء، فإن هذه التوصية تحظى بمصداقية أعلى مما لو أتت هذه التوصية من مؤسسة تجارية.
ولعل أهم القضايا التي نبغي أن نستخدم فيها ثقل اليونسكو هي قضية عدم وجود برمجيات تسمح بزيادة المحتوى العربي على الإنترنت. فأولا الاستثمار في المحتوى على الإنترنت أمر مكلف اقتصاديا، ولكنه بالنسبة للمحتوى العربي غير مضمون العوائد. فحتى هذه اللحظة، ليست كل متصفحات الإنترنت قادرة على فتح وإظهار الصفحات العربية بصورة صحيحة. وهو ما لا يحدث مع أي من اللغات غير اللاتينية الأخرى مثل الكورية أو اليابانية أو العبرية. ومرجع ذلك أن الدول العربية لم تتفق حتى الآن على نسق واحد في الخطوط (fonts).
تخيل أن أمرا بسيطا كهذا صار مثار خلاف وكأنه قضية سياسية. ومن ناحية ثانية، فإن جهود التعريب -رغم كل ما يذكر عنها- تظل جهودا فردية؛ فـ"مايكروسوفت" تعرب على طريقتها، وكذلك تفعل "آبل" إن فعلت، والأمر نفسه على جهود كل دولة عربية على حدة. وهذا يفسر تراجع الرغبة في الاستثمار في المحتوى العربي على الإنترنت، ومن ثم هزال هذا المحتوى بالصورة التي ترى الآن.