سيرة الحبيب المصطفى علية افضل الصلاة والسلام

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : Hajoura Tunis | المصدر : 7awa.roro44.com

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


مقدمات في سيرة الرسول صلوات الله عليه و سلامه

لما كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم آخر رسل الله إلى البشرية جمعاء ، لزم أن تكون سيرته واضحة للجميع ، يستطيع كل أحدٍ الوصول إليها ، والنظر فيها ، والاستفادة منها . وقد قيض الله رجالاً من الصحابة ومن جاء بعدهم ، نقلوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى صارت في متناول كل راغب ومحب .

وإنّ تتبع تلك السيرة العطرة والوقوف على أحداثها ووقائعها ، وتناولها بالدراسة والتحقيق له أهداف عديدة ، يرمي لها الباحثون ، ويسعى إليها الدارسون ، أهداف يضعها المسلم نصب عينيه وهو يقلب السيرة بين يديه ، أهداف تجعل السيرة النبوية مميزة عن غيرها ، فلا تكون دراستها من أجل المتعة فحسب ، وإنما لأجل غايات أسمى، فمن ذلك :

1- معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة شاملة ، كمعرفة نسبه ومولده ونشأته ، وأسلوب دعوته من بعثته إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ، تلك المعرفة التي تورث القرب منه ، ومحبته التي ينبغي أن تُملأ بها القلوب بعد محبة الله عز وجل .

2- معرفة هديه صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها ، هديه في المنام والطعام والشراب والنكاح ، هديه في الحل والترحال ، هديه في السلم والحرب ، هديه في التعامل مع ربه ومع نفسه ومع المخلوقين ، هديه في التعامل مع الموافقين والمخالفين ، هديه في التربية والتعليم والدعوة والإرشاد ، هديه في كل ما يحتاجه البشر ، مما يترتب على ذلك محبته صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به ، وتلك عبادة واجبة لا بد منها ، وهي سبيل إلى الهداية ، قال تعالى: { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } (النور : 54) .

3- أخذ الدروس والعبر ، التي تضيء للسالك الطريق ، وتوصله إلى بر الأمان ، تلك الدروس التي تُؤخذ من سيرته صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال ، ولجميع الفئات.

4- الوقوف على التطبيق العملي لأحكام الإسلام التي تضمنتها الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة .

5- الوقوف على دلائل معجزاته صلى الله عليه وسلم ، مما يقوي الإيمان ويزيده .

6- معرفة الصحيح الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ، حتى يميّز عن غيره ، وبالتالي تبقى السيرة صفحات بيضاء كما هي الحقيقة ، بعيدة عن غلو الغالين ، وتزييف الحاقدين .

7- بيان ما كان عليه هذا القائد العظيم من صفات وشمائل ، فلم ولن تجد سيرة أحدٍ ممن خلق الله تماثلها ، فضلاً عن أن تنافسها وتزيد عليها ، فهو قدوة في كل شيء يحتاجه الإنسان ، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة} (الأحزاب : 21).

8- معرفة الإسلام ، عقيدة ، وشريعة ، وأخلاقاً .

9- الاستعانة بدراسة السيرة في تفسير القرآن الكريم ، وشرح السنة النبوية .

10- معرفة موقف الإسلام وتعامله مع جميع الناس من صديق وعدو ، مسلم وكافر، معاهد وخائن وغير ذلك .

تلك هي بعض الأهداف التي يُسعى لها وتُستفاد من دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك السيرة التي لا بد من بيانها والوقوف معها، ومعرفة عوامل تميزها عن غيرها؛ حيث إنها سيرة باقيةٌ بقاء هذا الدين، وشاملة بشموله، ومحفوظة بحفظه، وصاحبها مُتبعٌ يقتدى به إلى آخر الزمان، فلا نبيٌّ بعده صلى الله عليه وسلم، والله الموفق



الحكمة من اختيار العرب وجزيرتهم مهداً لرسالة الإسلام


قبل الحديث عن الحكمة من اختيار العرب وجزيرتهم مهداً لرسالة الإسلام، من المناسب أن نلقي نظرة سريعة نتعرف من خلالها على واقع أمم الأرض حينئذ، وما كان من أمرهم وحالهم، وهل كانت تلك الأمم مؤهلة لحمل رسالة عالمية تخرج البشرية من طريق الغي والضلال الذي تعيش فيه إلى طريق الحق والرشاد...ثم لنعلم على ضوء ذلك أيضاً المؤهلات والمقومات التي جعلت من العرب وجزيرتهم صلاحية لحمل رسالة الإسلام.

كان يحكم العالم دولتان اثنتان: الفرس والروم، ومن ورائهما اليونان والهند.
ولم يكن الفرس على دين صحيح ولا طريق قويم، بل كانوا مجوساً يعبدون النيران, ويأخذون بمبادئ مذهبي : الزرادشتية والمزدكية، فكلاهما انحرفتا عن طريق الفطرة والرشاد، واتبعتا فلسفة مادية بحتة لا تقر بفطرة ولا تعترف بدين، فالزرادشتية مثلاً تفضل زواج الرجل بأمه أو ابنته أو أخته، والمزدكية من فلسفتها حلّ النساء، وإباحة الأموال، وجعل الناس شركة فيها، كاشتراكهم في الماء والهواء والنار والكلأ.



أما الروم فلم يكن أمرهم أفضل حالاً، فعلى الرغم من كونهم على دين عيسى عليه السلام بيد أنهم انحرفوا عن عقيدته الصحيحة، وحرفوا وبدلوا ما جاء به من الحق، فكانت دولتهم غارقة في الانحلال؛ حيث حياة التبذل والانحطاط، والظلم الاقتصادي جراء الضرائب، إضافة إلى الروح الاستعمارية، وخلافهم مع نصارى الشام ومصر، واعتمادهم على قوتهم العسكرية، وتلاعبهم بالمسيحية وفق مطامعهم وأهوائهم.

ولما كان الأمر كذلك لم تكن القوتان الكبيرتان في العالم آنذاك قادرتين على توجيه البشرية نحو دين صحيح، ولم تكونا مؤهلتين لحمل رسالة عالمية تخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن ظلم العباد إلى عدل الواحد الديان.

أما اليونان وشعوب أوربا فقد كانت تعيش حياة بربرية، تعبد الأوثان، وتقدِّس قوى الطبيعة، فضلاً عن كونها غارقة في الخرافات والأساطير الكلامية التي لا تفيد في دين ولا دنيا.



أما بقية الشعوب في الهند والصين واليابان والتبت، فكانت تدين بالبوذية، وهي ديانة وثنية ترمز لآلهتها بالأصنام الكثيرة وتقيم لها المعابد, وتؤمن بتناسخ الأرواح.

وإلى جانب تلك الأمم كان هناك اليهود، وكانوا مشتتين ما بين بلاد الشام والعراق والحجاز، وقد حرفوا دين موسى عليه السلام , فجعلوا الله - سبحانه وتعالى - إلهاً خاصاً باليهود , وافتروا الحكايات الكاذبة على أنبيائهم مما شوَّه سمعتهم, وأحلَّوا التعامل مع غيرهم بالربا والغش, وحرَّموه بينهم .

ونتج عن ذلك الانحلال والاضطراب والضلال فساد وشقاء، وحضارة رعناء قائمة على أساس القيم المادية، بعيدة عن القيم الروحية المستمدة من الوحي الإلهي.

أما جزيرة العرب فقد كانت في عزلة عن تلك الصراعات والضلالات الحضارية والانحرافات، وذلك بسبب بعدها عن المدنية وحياة الترف، مما قلل وسائل الانحلال الخلقي والطغيان العسكري والفلسفي في أرجائها، فهي - وعلى ما كانت عليه من انحراف- كانت أقرب إلى الفطرة الإنسانية، وأدعى لقبول الدين الحق، إضافة إلى ما كان يتحلى به أهلها من نزعات حميدة كالنجدة والكرم، والعفة والإباء، والأمانة والوفاء.



هذا إلى جانب موقع جزيرة العرب المميز؛ إذ كان موقعها الجغرافي وسطاً بين تلك الأمم الغارقة التائهة، فهذا الواقع والموقع جعلها مؤهلة لنشر الخير وحمله إلى جميع الشعوب بسهولة ويسر.

وبهذا تجلت الحكمة الإلهية في اختيار العرب وجزيرتهم مهداً للإسلام، إذ كانت بيئة أميّة لم تتعقد مناهجها الفكرية بشيء من الفلسفات المنحرفة، بل كانت أقرب لقبول الحق، والإذعان له، إضافة إلى أن اختيار جزيرة العرب مهداً للإسلام فيه دفع لما قد يتبادر إلى الأذهان من أنّ الدعوة نتيجة تجارب حضارية، أو أفكار فلسفية.

ناهيك عن وجود البيت العتيق، الذي جعله الله أول بيت للعبادة، ومثابة للناس وأمنا، واللغة العربية وما تمتاز به، وهي لغة أهل الجزيرة.

ولا بد من الإشارة إلى أن الله اختار العرب وفضلهم لتكون الرسالة فيهم ابتداء، وهذا تكليف أكثر مما هو تشريف؛ حيث إن من نزل عليه الوحي ابتداء مكلف بنشره وأخذه بقوة، وليس هذا أيضاً تفرقة بين العرب وغيرهم بل الكل لآدم وآدم من تراب، وأكرم الناس أتقاهم لله، ولهذا كان في الإسلام بلال الحبشي، وسلمان الفارسي...الخ.


لذلك كله وغيره كان العرب أنسب قوم يكون بينهم النبي الخاتم، وكانت جزيرتهم أفضل مكان لتلقي آخر الرسالات السماوية، فالحمد لله الذي أكرم العرب بهذا الدين العظيم، وشرَّف جزيرتهم، فجعلها مهبط الوحي المبين.


الجزيرة العربية قبل البعثة


منذ أن بعث الله نبيه إبراهيم عليه السلام وأمره ببناء البيت على التوحيد، واستوطنت ذريته مكه، ومعظم العرب يدينون بدينه، ويتبعون ملته فكانوا يعبدون الله ويوحدونه، ويلتزمون بشعائر دينه الحنيف، وظل الحال على ذلك قروناً من الزمان حتى بدأ الانحراف يدب إليهم مع طول العهد وتقادم الزمن.

وكان أول من غير ملة إبراهيم ودعا إلى عبادة الأصنام، عمرو بن لحي الخزاعي ، حين قدم بلاد الشام فرآهم يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، فاستحسن ذلك وظنه حقاً، وكانت الشام آنذاك محل الرسل والكتب السماوية، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنماً يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه، ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم، حتى انتشرت الأصنام بين قبائل العرب، وقد ذُكر عنه أنه كان له رئي من الجن، فأخبره أن أصنام قوم نوح ـ ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا ـ مدفونة بجدة، فأتاها فاستثارها، ثم أوردها إلى تهامة، فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل، فذهبت بها إلى أوطانها‏، فأما ود‏:‏ فكانت لكلب، بجَرَش بدَوْمَة الجندل من أرض الشام مما يلى العراق، وأما سواع‏:‏ فكانت لهذيل بن مُدْرِكة بمكان يقال له‏:‏رُهَاط من أرض الحجاز، من جهة الساحل بقرب مكة، وأما يغوث‏:‏ فكانت لبني غُطَيف من بني مراد، بالجُرْف عند سبأ، وأما يعوق‏:‏فكانت لهمدان في قرية خَيْوان من أرض اليمن، وخيوان‏:‏ بطن من همدان، وأما نسر‏:‏فكانت لحمير لآل ذى الكلاع في أرض حمير‏.

وهكذا انتشرت الأصنام في جزيرة العرب حتى صار لكل قبيلة منها صنم، ولم تزل تلك الأصنام تُعبد من دون الله جل وعلا، حتى جاء الإسلام، وبُعث الهادي محمد صلى الله عليه وسلم، نوراً وضياءاً للعاملين، فقام بتطهير البيت الحرام من الأصنام، وبعث السرايا لهدم البيوت التي أقيمت للأوثان، فبعث خالد بن الوليد لهدم صنم العزى وهو الطاغوت الأعظم لدى قريش بمنطقة نخلة، وبعث سعد بن زيد لهدم صنم مناة التي كانت على ساحل البحر الأحمر، وبعث عمرو بن العاص إلى صنم سواع الذي تعبده قبيلة هذيل، فهدمت جميعها.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مصير عمرو بن لحي وسوء عاقبته، كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه –أمعاءه- في النار، فكان أول من سيب السوائب ) ، وفي رواية: ( أول من غير دين إبراهيم) ، و-السوائب- جمع سائبة وهي الأنعام التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء.

وذكر الإمام ابن كثير عند تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } (الأنعام:144) أن أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي ، لأنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح .


وكان أهل الجاهلية مع ذلك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، كتعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف بعرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، وإن كان دخلها شيء كثير من شوائب الشرك والبدعة، ومن أمثلة ذلك أن نزاراً كانت تقول في إهلالها: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فأنزل الله تعالى: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } (الروم:28).


ومنها ‏أن قريشًا كانوا يقولون‏: ‏نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت وقاطنو مكة، وليس لأحد من العرب مثل حقنا ومنزلتنا ـ وكانوا يسمون أنفسهم الحُمْس ـ فلا ينبغى لنا أن نخرج من الحرم إلى الحل، فكانوا لا يقفون بعرفة، ولا يفيضون منها، وإنما كانوا يفيضون من المزدلفة وفيهم أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} ‏ (البقرة:199).‏.‏

هذا الوضع الذي كان سائدا في جزيرة العرب، حتَّم وجود رسالة سماوية تنتشل الناس من ضلالهم وتردهم إلى فطرتهم وتمحو مظاهر الشرك والوثنية من حياتهم، فكانت الرسالة الخاتمة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.



عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم


كان عبد المطلب من سادات قريش، محافظاً على العهود، متخلقاً بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويقوم على خدمة الحجيج، ويطعم في الأزمات، حتى كان يطعم الوحوش والطير في رؤوس الجبال، وكان شريفاً مطاعاً جواداً، وكانت قريش تسميه الفياض لسخائه، وهو الذي عقد الحلف بين قريش وبين النجاشي.

وكان عبد المطلب يشغل منصب الرئاسة في قومه، فهو رئيس بني هاشم وبني المطلب في حرب الفجار، وكان في قومه شريفاً وشاعراً، ولم يدرك الإسلام.

وأسلم من أولاده، حمزة بن عبد المطلب ، و العباس ، و عاتكه ، و صفية ، ومن بناته أيضا: البيضاء أم حكيم ، برة بنت عبد المطلب ، و عاتكة أم عبد الله بن أبي أمية ، و صفية أم الزبير بن العوام ، وأروى أم آل جحش .

وكان عبد الله أحب الأبناء إلى قلب والده عبد المطلب حيث كانت له منزلة جليلة القدر، وحدث ذات مرة أن نذر عبد المطلب إن رزقه الله عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، فلما رزقه الله عشرة من الولد، أقرع بينهم أيهم ينحر، فوقعت القرعة على عبد الله ابنه الأصغر، وكان أحب الناس إليه، فقال عبد المطلب: اللهم هو أو مائة من الإبل، ثم أقرع بينه وبين مائة من الإبل، فوقعت القرعة على مائة من الإبل. وهذه الحادثة فيها دلالة على حفظ الله تعالى لوالد النبي صلى الله عليه وسلم.


وبعد ذلك اختار عبد المطلب زوجة لابنه عبد الله ، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، وكانت يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا، وأبوها سيد بني زهرة نسبًا وشرفًا، فزوجه بها، فبنى بها عبد الله في مكة، ثم خرج بعد أشهر من بنائه بآمنة ، يضرب مناكب الأرض ابتغاء الرزق، وذهب في رحلة الصيف إلى الشام، فذهب ولم يعد، وبعدها عادت القافلة تحمل أنباء مرضه، وبعدها خبر وفاته، وكانت وفاته قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم،.


ولما ولدت آمنة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت به إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له‏.‏ واختار له اسم محمد ـ وهذا الاسم لم يكن العرب يألفونه، لذلك سألوه: لم رغب عن أسماء آبائه؟ فأجاب: أردت أن يحمده الله في السماء، وأن يحمده الخلق في الأرض.

وقد رويت أخبار تبين مدى عناية عبد المطلب برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أمه آمنة ، فمن ذلك ما رواه أبو يعلى بإسناد حسن، أن عبد المطلب أرسل محمدا ذات مرة ليتبع إبلاً ضلت، فتأخر عليه حتى حزن حزنا شديدا، وعندما عاد محمد بالإبل أقسم ألا يبعثه في حاجة له أبدا ولا يفارقه بعد هذا أبدا.

ومما روي أيضا أن عبد المطلب كان يقرب رسول الله منه ، ولا يدع أحدا يدخل عليه وهو نائم، وكان لا ينام إلا ومحمد بجانبه، ولا يخرج من البيت إلا وهو معه، وكان له مجلس لا يجلس عليه غيره.

وظل عبد المطلب يحوط النبي صلى الله عليه وسلم ويضعه تحت رعايته، حتى أحس عبد المطلب بلحظة الفراق، فرأى من نفسه أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب ، ثم توفي عبد المطلب وعمر النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنوات.


ولادة الحبيب المصطفى

ولادة النور و الهداية

وضياء الحق المبين

و ما ارسلناك الا رحمة للعالمين

رسول الله محمد صلوات الله عليه و سلامه


للعظماء شأنهم المبكر منذ ولادتهم، فكيف إذا كان العظيم هو محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الخلق، وأفضل الرسل، وخاتم الأنبياء، الذي أحاطته الرعاية الربانية، والعناية الإلهية، وهيأ الله له الظروف مع صعوبتها، وحماه من الشدائد مع حدتها، وسخر له القلوب مع كفرها وضلالها.

ولد صلى الله عليه وسلم يتيم الأب، حيث فقد أباه قبل مولده، وقد أشار القرآن إلى يتمه، فقال تعالى: { ألم يجدك يتِيما فآوى } (الضحى:6)، وقال أنس رضي الله عنه: ( ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما توفي أبوه) رواه مسلم .

وكان مولده صلى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم في مكة المكرمة صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، الموافق العشرين أو الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة 571م، وقيل إنه ولد في العاشر من ربيع الأول، وقيل في الثاني من ربيع الأول، وقد ولد في أشرف بيت من بيوت العرب، فهو من أشرف فروع قريش، وهم بنو هاشم.


وكان استبشار جده عبدالمطلب بولادته كبيرا، وفرحه بحفيده كثيرا، وأعلن ذلك بين الملأ من خلال قيامه بالواجب نحو اليتيم، واختياره له الاسم الجميل "محمد" ولم يكن معروفاً عند العرب.

وكانت ولادته عام الفيل، بعد الحادثة المشهورة التي ذكرها الله - عز وجل- في كتابه، قال تعالى: { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } (الفيل:1)، ويرى ابن القيم أن حادثة الفيل كانت توطئة وإرهاصاً لظهوره صلى الله عليه وسلم، حيث دفع الله نصارى الحبشة عن الكعبة، دون حولٍ من العرب المشركين، تعظيماً لبيته.

وأول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أمه، ثويبة مولاة أبي لهب التي أرضعت حمزة أيضاً، ولما كانت عادة حواضر العرب أن يرسلوا أبنائهم إلى البادية للرضاعة، إبعادا لهم عن أمراض الحواضر، ومن أجل تقوية أجسامهم، وإتقان اللسان العربي في مهدهم، دُفع بمحمد إلى حليمة السعدية من بني سعد، التي نالت الخير والبركة بذلك النبي المبارك، فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السنوات الأربع الأولى من طفولته في صحراء بني سعد، فنشأ قوي البنية، سليم الجسم، فصيح اللسان، جريء الجنان، يُحسن ركوب الخيل على صغر سنه، صلى الله عليه وسلم.


ثم جاءت حادثة شق الصدر، والتي كانت في بادية بني سعد وعمره آنذاك أربع سنين كما ذكر أهل السير، فقد روى مسلم عن أنس ‏ رضي الله عنه‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال‏:‏ هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه ـ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنى مرضعته ـ فقالوا‏:‏ إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللون ـ أي متغير اللون ـ قال أنس‏ :‏ وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره‏.‏

وبهذه الحادثة الكريمة، نال -صلى الله عليه وسلم- شرف التطهير من حظ الشيطان ووساوسه، مع ما حباه الله به من حفظ وبعد عن أدران الشرك وعبادة الأصنام، فكان تهيؤه للنبوة والوحي منذ الصغر.

وبعد هذه الحادثة خشيت مرضعته عليه فأعادته إلى أمه الحنون، كي يلقى الرعاية والاهتمام منها.

ثم ظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رعاية أمه آمنة بنت وهب وكفالة جده عبدالمطلب ، إلى أن توفيت في الأبواء بين مكة والمدينة، وكان عمره آنذاك ست سنين.


ثم قام بالاعتناء به جده عبدالمطلب إلى أن توفي وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنوات، فوصى به إلى عمه أبي طالب، وظل تحت رعاية عمه إلى قبيل الهجرة بثلاث سنوات.

ولما بلغ الأربعين بُعث للعالمين، بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

لقد كان مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعثته مولدا لنور الإسلام، وضياء الحق المبين، الذي تبددت به ظلمات الشرك والكفر، وزال به الران الذي طُبع على قلوب كثير من الناس.

وإنك لتعجب من أناس فرقوا بين النورين، وخالفوا بين الأمرين، فهم يتذكرون ولادته -صلى الله عليه وسلم- ولا ينسونها، وفي المقابل تجدهم تاركيين لجملة من شريعته، ومقصرين في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم، مع أن أمر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم على خلاف ذلك، فقد تمسكوا بهذا الدين، وقاموا به خير قيام، حتى كانت حياتهم ومماتهم لأجل هذا الدين، ولأجل تلك العقيدة.

لقد عرف الصحابة رضي الله عنهم كيف يعبرون عن فرحتهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبالنور الذي جاء به، فبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الدين، فتقبلهم ربهم بقبول حسن، وأسكنهم جنات عدن التي وعدهم، ثم جاء أقوام بعدهم فجعلوا فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبالنور الذي جاء به مقتصرا على احتفالات محدثة وأفعال جوفاء، وترانيم هزيلة، لا تفي بقدر هذا الدين، وما يتطلبه من بذل وتضحية، فلم يوفوا حق نبيهم، ولم يقتدوا بسلفهم، وأنت ترى ما عليه المسلمون اليوم من تعلق بظواهر ومناسبات، وتركهم اللب والمهمات.

فحري بنا أن تكون ذكرانا لمولد نبينا -صلى الله عليه وسلم- كل يوم، وأن تكون هذه الذكرى ذكرى لسيرته وشريعته، وأن يدفعنا ذلك إلى الاقتداء بسنته والاهتداء بهديه في سائر شؤون حياتنا، وصدق الله إذ يقول {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } (الأحزاب:21)

حادثة الفيل


لقد توالت الأحداث العظيمة والآيات الربانية قبل البعثة النبوية، وكان من أهم الأحداث التي سبقت ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، حادثة تعرضت لها الكعبة المشرفة قص الله نبأها وسجل وقائعها في القرآن الكريم، فما خبر هذه الحادثة ؟ :

ذكرت كُتب السيرة أن أبرهة الحبشي كان نائباً للنجاشي على اليمن، فرأى العرب يحجون إلى الكعبة ويعظمونها، فلم يرق له ذلك، وأراد أن يصرف الناس عنها،فبني كنيسة كبيرة بصنعاء ليحج الناس إليها بدلاً من الكعبة، فلما سمع بذلك رجل من بني كنانة دخل الكنيسة ليلاً، فبال وتغوط فيها، فلما علم أبرهة بذلك سأل عن الفاعل، فقيل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل البيت الذي تحج العرب إليه بمكة، فغضب أبرهة وحلف أن يذهب إلى مكة ليهدمها، فجهَّز جيشاً كبيرا، وأنطلق قاصداً البيت العتيق يريد هدمه، وكان من جملة دوابهم التي يركبون عليها الفيل- الذي لا تعرفه العرب بأرضها- فأصاب العرب خوفٌ شديد،ٌ ولم يجد أبرهة في طريقه إلا مقاومة يسيرة من بعض القبائل العربية التي تعظم البيت، أما أهل مكة فقد تحصنوا في الجبال ولم يقاوموه.

وجاء عبد المطلب يطلب إبلاً له أخذها جيش أبرهة، فقال له أبرهة : كنتَ قد أعجبتني حين رأيتُك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أخذتها منك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه ! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً يحميه، فقال أبرهة: ما كان ليمتنع مني ، قال عبد المطلب : أنت وذاك.وأنشد يقول:

لاهُمَّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبنَّ صليبهم ومحالهم غدواً محالك
إن كنتَ تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك

وأما قريش ففروا من أرض الحرم إلى رؤوس الجبال، يحتمون بها، ويترقبون ما الذي سيحل بأبرهة وقومه.

فلما أصبح أبرهة عبأ جيشه، وهيأَ فيله لدخول مكة ، فلما كان في وادي محسر-بين مزدلفة ومنى- برك الفيل، وامتنع عن التقدم نحو مكة، وكانوا إذا وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق انقاد لذلك، وإذا وجهوه للكعبة برك وامتنع، وبينما هم على هذه الحال، إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل -ومعنى أبابيل يتبع بعضها بعضاً- مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجر في منقاره وحجران في رجليه، لا تصيب منهم أحداً إلا تقطعت أعضاؤه وهلك.


أما أبرهة فقد أصابه الله بداء، تساقطت بسببه أنامله، فلم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل فرخ الحمام، وانصدع صدره عن قلبه فهلك شر هلكة. وقد أخبر الله تعالى بذلك في كتابه فقال: { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول } .

وقد حدثت هذه الواقعة في شهر المحرم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين يوما تقريبا، وهو يوافق فبراير سنة 571م.

ووقعت في ظروف ساعدت على وصول خبرها إلى معظم أرجاء المعمورة المتحضرة في ذلك الزمن، فالحبشة كانت ذات صلة قوية بالرومان، والفرس لهم بالمرصاد يترقبون ما ينزل بهم وبحلفائهم، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر في ذلك الزمان.

فلفتت هذه الواقعة أنظار العالم إلى شرف هذا البيت ومكانته، وأنه هو البيت الذي اصطفاه الله تعالى واختاره.

ويستفاد من هذه الحادثة عدد من العبر والفوائد :

أولها بيان شرف الكعبة، وأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظها ورعايتها من غطرسة وتجبر أبرهة وقومه.

ويستفاد أيضا أن الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر دائم لا ينقطع، فأعداء الإسلام لا يفتؤون عن الصد عن دين الله، ومحاربة أوليائه.

وهذه الحادثة تعتبر آية ظاهرة ودلالة واضحة من دلائل النبوة، فكانت هذه الحادثة من باب التمهيد لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما انه ولد صلى الله عليه وسلم في نفس العام.

وفي هذه الحادثة عبرة لكل طاغية متكبر متجبر في كل العصور والأزمان، لذا جاء فعل تَرَ في قوله (ألم تَرَ) بصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد، فكل من طغى وتجبّر، سيكون عقابه ومصيره كمصير أبرهة وجيشه.

إن قصة الفيل وإن كانت حادثة عظيمة، وشأناً كبيراً، إلا أنها رمز واضح على نصرة الله تعالى لدينه ولبيته، فإذا كان أبرهة قد أهلكه الله، فإن أتباعه في كل مكان وزمان هالكون لا محالة، والله يمهل ولا يهمل.

بدايــــــــــــــــــــــــــــة البعثة النبوية



قبل بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم كانت البشرية تعيش في ضلالات الجهل والشرك والإلحاد ، وكانت العرب جزءاً من تلك البشرية الغارقة في الانحطاط ، والتي تحتاج إلى من ينقذها وينتشلها مما هي فيه .

كان الجهل فاشياً، والظلم جاثماً، والفوضى ضاربة بأطنابها في كل مكان، حقوق مسلوبة، وأعراض منتهكة، وحياة بغير نظام ولا قانون، ولا تشريع ولا تنظيم، سوى بعض العادات ، والأعراف القبلية .

كان الأمن مفقوداً ، والسلب والنهب أمراً معهوداً ، حياة لا أمان فيها ، ولا استقرار ، فالمقيم مهدد بالضرر، والمسافر في وجل وخطر .

كان القتل ، والنهب ، واعتداء القوي على الضعيف ، وكانت الحروب تنشأ لأتفه الأسباب ، فتزهق النفوس، وترمل النساء ، وييتم الأطفال .

في ظل هذه الظروف وتلك الأوضاع ، وبعد فترة من انقطاع الرسل بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، على رأس الأربعين من عمره ؛ حيث جاءه جبريل وهو في غار حراء بأول ما نزل من القرآن ، فقرأ عليه قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } (العلق :1) ، ثم توالى نزول القرآن - الكتاب الخاتم - وبدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعوته على مراتب خمس كما ذكر ذلك ابن القيم-رحمه الله- في كتابه "زاد المعاد" : المرتبة الأولى : النبوة ، والثانية : إنذار عشيرته الأقربين ، والثالثة : إنذار قومه ، والرابعة : إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله ، وهم العرب قاطبة ، والخامسة : إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر .

فقام بمكة ثلاث سنوات يدعو إلى الله سراً ، ثم جهر بالدعوة بعد نزول قول الله تعالى : { فاصدع بما تؤمرُ وأعرض عن المشركين } (الحِجِر :94).

لقد كانت بعثته -صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين ، كما أخبر بذلك أصدق القائلين :{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء :107) ، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ( إنما أنا رحمة مهداة ) رواه الحاكم في "المستدرك" ، و البيهقي في شعب الإيمان ، وصححه الألباني .
فمن آمن به وصدقه ، فاز فوزاً عظيماً ، قال تعالى : {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (الأحزاب :71) .

ومن أعرض عن هدايته فقد ضل ضلالاً بعيداً ، وخسر في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : {ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه :124).

كانت دعوته إلى الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به ، وإلى الفضيلة والرشد ، وإلى الأمانة والصدق ، دعوة إلى الخير بكل أنواعه ، وتحذيراً من الشر بكل أصنافه .

إنَّ بعثته - صلى الله عليه وسلم- كانت ميلاداً جديداً للبشرية ، وتاريخاً عظيماً للإنسانية ، قال تعالى :{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (الأعراف :158).


فببعثته كَمُلَ للبشرية دينها ، وتم للإنسانية نعيمها ، قال تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } (المائدة :3) .

فكان الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده جميعاً ، ولن يقبل الله من أحدٍ ديناً سواه ، قال تعالى:{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}
(آل عمران : 85).



فتور الوحي

الاسبـــــــــــــ و المظاهر ـــــــاب


كم كانت فرحة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما بشّره جبريل عليه السلام بالوحي أوّل مرة ، فقد وجد أخيراً جواباً للكثير من الأسئلةٍ التي ظلّت تؤرّقه زماناً طويلا، وأبصر طريق الخلاص من ضلال قومه وممارساتهم ، ولكن سرعان ما تحوّلت مشاعر الفرحة إلى حزنٍ شديد ، حينما توقّف الوحي وانقطع فترةً بعد ذلك.


وجاءت هذه الحادثة ، بعد ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - و خديجة رضي الله عنها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، ، وتفسير ورقة لحقيقة ما رآه في الغار ، وإنذاره بعداوة قومه له ، حيث تأخّر الوحي عن النزول عدّة أيّام كما تفيده الروايات الصحيحة .

ويظهر من سياق القصّة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزن حزناً شديداً ، وذلك بسبب أنه فسّر تأخّر الوحي بانقطاع النبوّة ، وزوال الاصطفاء من الله تعالى له ، فكان عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى وحيٍ يعيد له طمأنينته ، ويزيل عنه الهواجس المتعلّقة بانقطاع الرسالة .

وقد حصل له - صلى الله عليه وسلم - ما يؤكد نبوته ، ويقطع الشك باليقين ، وذلك عندما جاءه جبريل عليه السلام مرة أخرى على صورة ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فأخذته رجفةٌ شديد حتى سقط على الأرض ، ثم عاد إلى أهله مسرعاً ، ولما دخل على خديجة رضي الله عنها قال لها : ( دثّروني ، وصبّوا عليّ ماء باردا ) ، فنزلت الآيات الكريمة: { يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر } ( المدثّر : 1 – 5 ) ، وكان نزول هذه الآيات إعلاماً للنبي – صلى الله عليه وسلم – بنبوّته ، وتكليفاً له بتحمّل أعباء هذا الدين ، والقيام بواجب الدعوة والبلاغ .

وقد ذكر العلماء بعض الحِكَم من انقطاع الوحي تلك الفترة ، كذهاب الخوف والفزع الذي وجده - صلى الله عليه وسلم - عندما نزل عليه الوحي أول مرة ، وحصول الشوق والترقب لنزول الوحي مرة أخرى ، بعد تيقّنه أنه رسول من الله ، وأن ما جاءه هو سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء ، وبذلك يصبح شوقه وترقبه لمجيء الوحي سبباً في ثباته واحتماله لظاهرة الوحي مستقبلاً .


الاسلام في مرحلة الدعوة السرية



في بيئةٍ سادت فيها الوثنيّة بين القبائل العربيّة زمانا طويلاً ، وتربّى فيها أهلها على العصبيّة المقيتة والحميّة الجاهلية ، وضاعت فيها معالم الديانات السماوية ، وانتكست فيها الفطر والمفاهيم حتى صار الباطل حقّاً ، والفضيلة رذيلة ، لم يكن أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - تجاه هذا الواقع سوى أن يؤجّل الإعلان بدعوته على الملأ ، ويكتفي بدعوة من حوله سرّاً ، حتى لا يكون الصدام المباشر في أوّل الأمر سبباً في فشل مهمّته التي بعثه الله بها .

وكان من الطبيعي أن يبدأ - صلى الله عليه وسلم - بعرض الإسلام على أهله وأقرب الناس إليه ، وفي مقدّمتهم زوجته خديجة رضي الله عنها ، فكانت أوّل من آمن به على الإطلاق ، وأوّل من استمع إلى الوحي الإلهي من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأول من وقف على شهادة أهل الكتاب بصدق نبوّته من خلال عمّها ورقة بن نوفل .

ثم عرض - صلى الله عليه وسلم - الإسلام على ابن عمّه علي بن أبي طالب ، فسارع إلى الإجابة على الرغم من صغر سنّه ، ثم أسلم مولاه زيد بن حارثة ، وأسلمت بناته زينب وأم كلثوم وفاطمة ورقيّة رضي الله عنهنّ ، وبذلك حاز بيت النبوّة على شرف الأسبقيّة في الإسلام .

وبعد ذلك انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى دائرة أصحابه ومعارفه ، فدعا أبا بكر رضي الله عنه ، الذي لم يتردّد لحظةً في تصديقه والإيمان به ، وقد حفظ النبي - صلّى الله عليه وسلم - له هذا الفضل فقال : ( ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ، وتردّد ونظر ، إلا أبابكر ) رواه ابن إسحاق .

وكان في إسلام أبي بكر رضي الله عنه فاتحة خيرٍ على الإسلام ودعوته ، فقد كانت قريشٌ تحبّه لسعة علمه وحسن ضيافته ، ومكانته كرجلٍ من كبار التجّار الذين لهم ثقلٌ في المجتمع المكّي ، ولذلك استجاب له الكثير من الناس ، ومنهم : عثمان بن عفّان ، و طلحة بن عبيد الله ، و الزبير بن العوّام ، و سعد بن أبي وقاص ، و عبدالرحمن بن عوف ، و عثمان بن مظعون ، و أبو سلمة بن عبد الأسد ، و أبو عبيدة بن الجراح ، و الأرقم بن أبي الأرقم ، و خبّاب بن الأرت ، و عمار بن ياسر وأمّه ، رضي الله عنهم أجمعين .

وسارع كل واحدٍ من هؤلاء إلى دعوة من يطمئنّ إليه ويثق به ، فأسلم على أيديهم جماعة من الصحابة ، حتى وصل عدد الذين أسلموا في تلك الفترة - وفقاً لمصادر السيرة - ما يزيد على الأربعين ما بين رجلٍ وامرأة ، وهؤلاء هم السابقون الأوّلون الذين ذكرهم الله عزّوجل في قوله : { والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار } ( التوبة : 100 ) .

وقد يبدو هناك شيء من التعارض في الروايات التي تحدّد أوائل من أسلم ، وهذا الاختلاف يرجع سببه إلى كتمان هؤلاء الصحابة خبر إسلامهم .

وبمراجعة أسماء أوائل من أسلم من الصحابة نلاحظ انتماءهم إلى قبائل من داخل قريشٍ وخارجها ، فقد كانوا من "بني أميّة وبني أسد وبني عبد الدار وبني جمح وبني زهرة ومذحج ودوس " وغيرها ، وفيه دلالةٌ واضحةٌ على معالم هذه الدعوة الجديدة ، وبعدها عن الدعوات العصبيّة الجاهليّة ، ولو كانت كذلك لكان بنو هاشم قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - أوفر الناس حظّاً ، وأكثرهم أتباعاً لهذه الدعوة الجديدة .

ومما يُشار إليه هنا أيضاً أن أغلب من أسلم في تلك الفترة كان من وجهاء قومه ومن أشرافهم، ولم يكن بينهم من الموالي سوى ثلاثة عشر رجلاً ، مما يدل على أن دعوة الإسلام لم تكن مجرّد ثورة على الأغنياء والوجهاء ، أو هروباً من حياة العبودية والفقر ، وإنما كانت رسالةً قائمة على إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وعقيدة صافيةً تصحّح علاقتهم مع خالقهم ، ومنهجاً ربّانيّاً ينظّم حياتهم .

واستمرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الدعوة السرّية أكثر من ثلاث سنوات ، ظلّ فيها يعلّم حقائق التوحيد ، ويغرس معاني الإيمان ومحاسن الأخلاق ، وتمّ اختيار دار الأرقم بن أبي الأرقم لهذه المهمّة .

وفي هذه الفترة شُرعت الصلاة ركعتين في الصباح ، وركعتين في المساء ، وذلك في قوله تعالى : { وسبح بحمد ربك بالعشيّ والإبكار } ( غافر : 55 ) ، وكان الصحابة يستخفون بصلاتهم في الوديان والشعاب لئلا يفتضح أمرهم .

واستمرّ الناس في الانضمام تحت لواء الدين الجديد حتى تكوّنت الجماعة الإسلاميّة الأولى واشتدّ عودها ، وحان الانتقال إلى مرحلة المواجهة والجهر بالدعوة ، بما قد تحمله من أذى وتعذيب وتضحيات ، وكانت البداية عند نزول قوله تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين } ( الشعراء : 214)



تأملات في واقع المدينة قبل الهجرة



بعد أن اضطهدت قريشٌ المسلمين في مكّة ، وأصبحت الهجرة أمراً ضروريّاً لا مفرّ منه ، تمّ اختيار المدينة النبويّة مكاناً مناسباً لإقامة الدولة الإسلامية ، وقاعدةً تنطلق منها قوافل الدعوة إلى الله في أنحاء الجزيرة .

ولمعرفة الأسباب التي جعلت من المدينة المكان الأنسب للهجرة دون غيرها من البلدان ، من المهم جدا استعراض واقع المدينة قبل الهجرة وجذورها التاريخيّة ، والعقائد التي سادت في مجتمعها ، وطبيعة العلاقات التي كانت تحكم القبائل المقيمة فيها .


الواقع التاريخيّ والاجتماعي


ينقسم المجتمع المدني بشكلٍ رئيسيٍّ إلى ثلاثة أقسام : الأوس ، والخزرج ، واليهود ، إضافةً إلى البدو الذين وفدوا إلى المدينة وسكنوها بشكل مؤقت لأغراضٍ اجتماعيةٍ أو تجاريةٍ .

أما اليهود فهم أقدم من استوطن المدينة ، ويبدأ تاريخهم فيها بعد خرجوهم من بلاد الشام عقب الاضطهاد الروماني ، حيث ظلّوا يبحثون عن أرضٍ مناسبة ، حتى استقرّ بهم المقام في يثرب ، واستطاعوا تأسيس مجتمعهم من الناحية الفكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة .

ويتكوّن المجتمع اليهودي من ثلاث قبائل هي : بنو قينقاع ، الذين سكنوا داخل المدينة بعد خلافات وقعت بينهم وبين بقيّة اليهود ، وبنو النضير وقد استوطنوا وادياً خارج المدينة ، وبنو قريظة ، وكانوا يسكنون جنوب المدينة على بعد أميال منها .

ومع ذلك فقد أشار القرآن الكريم إلى وجود عداوات بين هذه القبائل الثلاثة ، الأمر الذي لم يمكّنهم من التعايش فيما بينهم ، وكانت سبباً في تفرّقهم في نواحي المدينة ، ولجوء كل قبيلة إلى من جاورها من العرب بحثاً عن النصرة والحماية .

أما فيما يتعلّق بالأوس والخزرج ، فإن أصولهما ترجع إلى قبائل الأزد التي هاجرت من اليمن بعد خراب سدّ مأرب ، وقد اختار الأوس شرق وجنوب المدينة للإقامة ، بينما فضّل الخزرج البقاء في وسطها .


وقد نشأت بين بني هاشم ، وبين بني عدي بن النجار - من الخزرج - علاقة رحم ومصاهرة ، حيث تزوّج هاشم من نسائهم فولدت له عبد المطلب ، وبذلك يكون بنو عدي أخوالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أوجدت هذه المصاهرة نوعاً من التقارب بين أهل المدينة وبينه عليه الصلاة والسلام .

وتاريخ الأوس والخزرج مليئ بالحروب التي ظلّت قائمةً بينهم زماناً طويلاً ، ولا تكاد تهدأ حتى تعود مرّة أخرى ، وكان لليهود دورٌ بارزٌ في إبقاء نار العداوات مشتعلةً بين الفريقين ، من أجل ضمان السيطرة على مجريات الأمور في المدينة .

وكان آخر تلك الحروب " يوم بعاث " ، الذي انتصر فيه الأوس على الخزرج، وقُتل فيه أيضاً عددٌ من زعماء الفريقين ممن طُبعوا على معاني الكبر والاستعلاء ، وبقيت القيادات الشابّة الجديدة التي كان لديها الاستعداد لتلقّي الحق وقبوله ، فكان يوم " بعاث " تهيئةً لقبول أهل المدينة دعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم - .



الواقع الديني


يتبيّن مما سبق أن المدينةكانت تسيطر عليها الوثنية من جهة ، واليهوديّة من جهة أخرى ، وإن كانت المظاهر الوثنيّة هي السمة الأغلب على المجتمع .

ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة اليهود العنصريّة ، التي لا تشجّع غيرها في الدخول تحت لوائها ، حيث كانوا ينظرون إلى الشعوب الأخرى نظرة احتقار وترفّع ، ويعتبرون أنفسهم شعباً مقدّساً اختاره الله من بين العالمين .

ولارتباط اليهود بالكتب السماوية ، كانت لهم مدارسٌ يتداولون فيها أخبارهم ، ويتعلّمون فيها أحكام دينهم ، وإن كان الكثير من معالم شريعتهم قد ضاع بسبب تحريف الأحبار وعلماء السوء .

ومن الأمور التي ظلّت محفوظة في دينهم ، البشارة بالنبي الذي سيُبعث آخر الزمان ، وذكر صفته وأحواله ، ويشير القرآن إلى ذلك في قوله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ( الأعراف : 157 ) ، وكان اليهود يهدّدون العرب باتّباعه ويقولون : " تقارب زمان نبي يُبعث ، الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم " ، فشاع ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلم الناس قُرب بعثته ؛ ولذلك لمّا ذهب الأنصار إلى مكّة والتقوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يتردّدوا فيه تصديقه وقبول دعوته ، وقال بعضهم لبعض : " تعلمون والله إنه للنبي الذي توعّدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه " .

أما ما يتعلّق بالوضع الديني لعرب المدينة فقد كان خاضعاً لسلطان الوثنيّة السائد في المنطقة ، حيث انتشرت مظاهر الشرك المختلفة من عبادة الأصنام وتعظيمها .

وكان لعرب المدينة أصنامهم الخاصّة بهم - ومن أشهرها : صنم مناة - ، وكانوا يقدّمون لها القرابين والنذور المختلفة ، ويطوفون بها كطوافهم بالبيت ، إلى غير ذلك مظاهر الشرك والضلال .


الواقع الجغرافي


تُعتبر المدينة النبوية ذات موقع هام ومتميّز ، بسبب وقوعها في طريق القوافل التجاريّة المتّجهة إلى الشام ، مما يتيح لأهلها إمكانيّة التعرّض لتلك القوافل ، وممارسة الضغوط الاقتصاديّة على أصحابها ، وقد استفاد المسلمون من هذا السلاح الهامّ في محاربة قريشٍ واستنزاف مواردها .

إضافةً إلى أنّ المدينة كانت محاطةً بعدد من الحواجز الطبيعية التي وفّرت لها نوعاً من التحصين والمنعة ، ولم تكن مكشوفة سوى من الجهة الشمالية التي بنى فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – الخندق لاحقاً ، وهي صفات لم تكن موجودة في غيرها من المدن .


الواقع الاقتصادي



يأتي النشاط الزراعي على قائمة النشاطات التي اشتهر بها أهل المدينة ، ساعدهم في ذلك خصوبة الأرض ، وكثرة وديانها ، ووفرة المياه في باطنها.

وإلى جانب ذلك ، كان هناك النشاط الصناعي الذي اشتهر به اليهود ، ويشمل ذلك بطبيعة الحال : الصناعات الحربية المختلفة ، وأعمال النجارة ، وصياغة الحلي والذهب .

وعلى الرغم من التفوّق العددي للعرب آنذاك إلا أن السيطرة الاقتصادية كانت بيد اليهود، حيث استغلّوا حاجة العرب إلى المال لشراء البذور وأدوات الزراعة ، ولتغطية نفقات الحرب القائمة بين الأوس والخزرج ، فكان اليهود يقرضونهم بالرّبا ، ويغالون في الفوائد أضعافاً مضاعفة ، مستغلّين في ذلك نقص الموارد وقلة ذات اليد ، مما أوقع الكثير من العرب في الديون الثقيلة ، وجعلهم أسرى لمصّاصي الدماء وتجّار الحروب .

وأمام هذه السيطرة المحكمة أراد العرب أن يخرجوا من تلك الأزمة الخانقة التي صنعها اليهود ، فانطلقوا يبحثون عن المخرج من هذا الوضع الصعب ، ليجدوا مُرادهم في مكّة المكرّمة ، حيث الرسالة الرّبانية التي عاش الجميع تحتها في أمنٍ



الهجرة النبوية

و منعطف التاريخ

تطلق "الهجرة" على الترك والتخلي عن الشيء , فالمهاجر من هجر ما نهى الله عنه - كما في الحديث الشريف - ، وهي بهذا المعنى مطلقة من قيود الزمان والمكان ، إذ بوسع كل مسلم أن يكون مهاجراً بالالتزام بأوامر الله والهجر للمعاصي .

لكن الهجرة النبوية تتعلق بترك الموطن والانخلاع عن المكان بالتحول عنه الى موطن آخر ابتغاء مرضاة الله رغم شدة تعلق الانسان بموطنه وألفته للبيئة الطبيعية والاجتماعية فيه ، وقد عبّر المهاجرون عن الحنين الى مكة بقوة وخاصة في أيامهم الأولى حيث تشتد لوعتهم .

وتحتاج الهجرة الى القدرة على التكيف مع الوسط الجديد "المدينة المنورة" حيث يختلف مناخها عن مناخ مكة فأصيب بعض المهاجرين بالحمى ، كما يختلف اقتصادها الزراعي عن اقتصاد مكة التجاري ، فضلاً عن ترك المهاجرين لأموالهم ومساكنهم بمكة . لكن الاستجابة للهجرة كانت أمراً إلهياً لابد من طاعته ، واحتمال المشاق من أجل تنفيذه . فقد اختار الله مكان الهجرة ، كما في الحديث الشريف "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة الى أرض بها نخل ، فذهب وهلي الى أنها اليمامة أو هجر , فاذا هي المدينة يثرب" .

وما أن بدأ التنفيذ حتى مضت مواكب المهاجرين تترى نحو الموطن الجديد .. دار الهجرة .. وقد شاركت المرأة في حدث الهجرة المبارك منهن أم سلمة هند بنت أبي أمية التي تعرضت لأذى بالغ من المشركين الذين أرادوا منعها من الهجرة ثم استلوا ابنها الرضيع منها حتى خلعوا يده ..

لكنها صممت على الهجرة ونجحت في ذلك رغم الاخطار والمصاعب . وخلدت أسماء بنت أبي بكر ذكرها في التأريخ وحازت لقب ذات النطاقين عندما شقت نطاقها نصفين لتشد طعام المهاجرَين ، رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر رضي الله عنه وقد تتابعت هجرة النساء في الاسلام حتى شرعت في القرآن { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} - الممتحنة 10 - ونزلت الآيات الكريمة تأمر بالهجرة وتوضح فضلها منذ السنة التي وقعت فيها لغاية سنة 8هـ عند أوقفت الهجرة بعد فتح مكة واعلان النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله ( لاهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا ) .

والأمر بالهجرة الى المدينة لأنها صارت مأرز الايمان وموطن الاسلام ، وشرع فيها الجهاد لمواجهة الاعداء المتربصين بها من قريش واليهود والأعراب ، فكان لابد من إمدادها بالطاقة البشرية الكافية مما يفسر سبب نزول القرآن بهذه الآيات الواعدة للمهاجرين : { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} - البقرة 218 - {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة} - النحل 41 - {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة} - النساء 100 - .

وقد حاز المهاجرون شرفاً عظيماً في الدنيا فضلاً عن ثواب الله ووعده الكريم ، فقد اعتبروا اهل السبق في تأسيس دولة الاسلام فنالوا رضى الله والقربى منه {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم } - التوبة 100 - . وهكذا خلد الله ذكرهم في القرآن الذي يتعبد المسلمون بتلاوته الى آخر الزمان .

الهجرة من سنن الأنبياء عليهم السلام


لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أول نبي يهاجر في سبيل الله بل مرّ بهذا الامتحان كثير من الانبياء .. وقد أخبرنا الله تعالى بأن ابراهيم عليه السلام هاجر من موطنه الى مصر وغيرها داعياً الى التوحيد ، وأن يعقوب و يوسف عليهما السلام هاجرا من فلسطين الى مصر وأن لوطاً هجر قريته لفسادها وعدم استجابتها لدعوته . وأن موسى عليه السلام هاجر بقومه من مصر الى سيناء فراراً بدينه من طغيان فرعون .

وهكذا فان الهجرة من سنن النبيين ، وقد كانت هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتمة لهجرات النبيين . وكانت نتائجها عميقة شكلت منعطفاً تاريخياً حاسماً .

المنعطف الحاسم


لقد أدت الهجرة الى قيام دولة الاسلام في المدينة ، والتي أرست ركائز المجتمع الاسلامي على أساس من الوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو رئيس هذه الدولة وقائد جيوشها وكبير قضاتها ومعلمها الأول . وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم شريعة الاسلام ، وكان القرآن ينزل بها منجماً ، فكان الصحابة يدرسون ما ينزل ويطبقونه على أنفسهم ، ويتعلمون تفسيره وبيانه من النبي صلى الله عليه وسلم فتكون جيل رباني تمكن من الجمع بين عبادة الله وعمران الحياة وعمل تحت شعار : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا .


وفي خلال عقد واحد توحد معظم الجزيرة العربية في ظل الإسلام ، ثم انتشر في خلال عقود قليلة تالية ليعم منطقة واسعة امتدت من السند شرقاً الى المحيط الأطلسي غرباً حيث آمن الناس بالاسلام ، واستظلوا بشريعته العادلة واقاموا حضارة زاهرة آتت أكلها قروناً طويلة في حقول التشريع والتربية وعلوم الكون والطبيعة





أوائل المهاجرين من الصحابة


اشتد الأذى بالمؤمنين في مكة حتي صارت جحيماً لايطاق ، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة حتي يأمنوا على أنفسهم ، ويقيموا شعائر دينهم ، فاستجاب المؤمنون لله ورسوله فهاجروا ، وكان منهم سابقون إلى الهجرة، فمن أول من هاجر من الصحابة ؟ هذا ما سنستعرضه في مقالنا التالي

يتفق موسى بن عقبة و ابن إسحاق على أن أبا سلمة بن عبد الأسد هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة بعد أن آذته قريش إثر عودته من هجرة الحبشة ، فتوجه إلى المدينة قبل بيعة العقبة بسنة .

وكذلك فإن مصعب بن عمير و ابن مكتوم كانا من أوائل المهاجرين حيث كانا يقرئان الناس القرآن .
وقد تتابع المهاجرون فقدم المدينة بلال بن رباح و سعد ابن أبي وقاص و عمار بن ياسر ثم عمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة .

وقد سعت قريش بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة إلى المدينة ، وإثارة المشاكل أمام المهاجرين ، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها ، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم ، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة ، لكن شيئاً من ذلك كله لم يعق موكب الهجرة ، فالمهاجرون كانوا على أتم الاستعداد للانخلاع عن أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لداعي العقيدة .


قالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ، ثم حملني عليه ، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري ، ثم خرج بي يقود بعيره ، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت : فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه ، قالت : وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة . قالوا : لا والله لاتترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، قالت : فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده ، وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة ، قالت : ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني ، قالت : فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح ، فما أزال أبكي حتى أمسي ، سنة أو قريباً منها ، حتى مرّ بي رجل من بني عمي - أحد بني المغيرة - فرأى مابي ، فرحمني , فقال لبني المغيرة : ألا تخرجون هذه المسكينة فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟ قالت : فقالوا لي : الحقي بزوجك إن شئت ، قالت : وردّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني .

قالت : فارتحلت بعيري ، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله . قالت : فقلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي . حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار , فقال لي : إلى أين يا بنت أبي أمية ؟ قالت : فقلت : أريد زوجي بالمدينة . قال : أو معك أحد ؟ قالت : فقلت : لا والله إلا الله وبنيّ هذا . قال : والله مالك من مترك فأخذ بخطام البعير . فانطلق معي يهوي بي ، فوالله ماصحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثم استأخر عني ، حتى إذا نزلت عنه استأخر ببعيري فحط عنه ، ثم قيده في الشجرة ، ثم تنحّى إلى الشجرة فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدّمه فرحّله ، ثم استأخر عني فقال : اركبي ، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه ، فقاد بي حتى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة ، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال : زوجك في هذه القرية - وكان أبوسلمة بها نازلاً - فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعاً إلى مكة . قال فكانت تقول : والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة . وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة ).

وقد سقت الخبر بطوله لما فيه من دلالة على الصعوبات التي واجهها المهاجرون وهي تشير إلى أصر العصبية في اتخاذ العشائر القرشية مواقفها من الأحداث ، فقد انحاز قوم أبي سلمة إليه رغم مخالفتهم له في العقيدة ، ثم إن الخبر يكشف عن صورة من صور المروءة التي عرفها المجتمع القرشي قبل الإسلام تتمثل في موقف عثمان بن طلحة وتطوعه في مصاحبة المرأة وإحسان معاملتها مما يدل على سلامة الفطرة التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية ، ولعل إضاءة قلبه بدأت منذ تلك الرحلة مع المرأة المسلمة .

وثمة صورة تاريخية لحدث آخر هو هجرة عمر بن الخطاب كما حدّث بها بنفسه قال : ( اتعدت - لما أردنا الهجرة إلى المدينة - أنا و عياش بن أبي ربيعة ، و هشام بن العاص بن وائل السهمي التناضب - موضع - من أضاءة بني غفار فوق سرف ، وقلنا أينا لا يصبح عندها فقد حبس ، فليمض صاحباه .قال : فأصبحت أنا و عياش بن أبي ربيعة التناضب ، وحبس عنها هشام ، وفتن فافتتن .

فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء ، وخرج أبو جهل بن هشام ، و الحارث بن هشام إلى عياش ابن أبي ربيعة - وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما - حتى قدما علينا المدينة - ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة - فكلماه وقالا : إن أمك قد نذرت ألا يمسّ رأسها مشط حتى تراك ، فرقّ لها . فقلت له : يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم .فقال : أبرّ قسم أمي ، ولي هناك مال فآخذه .

فقلت : والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً , فلك نصف مالي ولا تذهب معهما . فأبى عليّ إلا أن يخرج معهما . فلما أبى إلا ذلك قلت : أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول ، فالزم ظهرها ، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها ، فخرج عليها معهما . حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل : والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا , أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال : بلى . قال : فأناخ وأناخ ليتحول عليها ، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن .قال : فكنا نقول : ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبةً ؛ قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم .

قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون } ( الزمر 53-55) .


قال عمر بن الخطاب : فكتبتها بيدي في صحيفة ، وبعثت بها إلى هشام بن العاص .

قال فقال هشام : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوّب ولا أفهمها . حتى قلت : اللهم فهمنيها . قال : فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول لأنفسنا ويقال فينا . قال : فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما ما روي من إعلان عمر لهجرته وتهديده من يلحق به بثكل أمه فلم يصح .

وهكذا وصلت طلائع الهجرة إلى المدينة المنورة ، ووجدوا الأمن والأمان ، والأخوة الصادقة من الأنصار، وأقاموا شعائر دينهم ، فلله الحمد والمنة.





الاحداث عقب غزوة بدر


" قد قتلتُ محمداً "...." قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله " ..." يا معشر المسلمين ، أبشروا فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيّ "... ( كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم ؟ ) ...ظلّت هذه العبارات محفورةً في نفوس المؤمنين ، لتعيد إليهم ذكريات المعركة القاسية ، وتزيد من آلامهم وتجدّد عليهم أحزانهم ، فها هم اليوم يذوقون طعم الهزيمة الذي لم يألفوه ، وها هم يخرجون من المعركة بأجسادٍ أثقلتها الجراح وأجهدها التعب ، ونفوسٍ آلمتها الهزيمة وأنهكتها المعاناة ، ناهيك عن فقد الأحبّة ، ومشاهد القتلى هنا وهناك .

ويقابل ذلك مشهد قريشٍ وهي تحتفل بنصرها الذي حقّقته ، بعد أن ربحت هذه الجولة من صراعها الطويل ضد الإسلام والمسلمين ، راجيةً أن تكون هذه المعركة بداية السقوط لأعدائهم وخصومهم .

وفي غمرة هذه النشوة بالانتصار ، والتهيّؤ للعودة إلى مكّة ، انطلق أبو سفيان إلى معسكر المسلمين ليتحقّق من موت خصومه ، ويتفقّد نتائج المعركة ، ولم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم ، فسألهم إن كان محمدٌ حيّاً ، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إجابته ، فعاد يسأل إن كان أبوبكر رضي الله عنه بينهم ، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تجيبوه ) ، ثم سأل عن عمر بن الخطاب ولم يجبه أحد ، فظنّ أنهم قد قُتلوا جميعاً ، فاشتدّ فرحه لذلك وقال : " إنّ هؤلاء قتلوا ، فلو كانوا أحياءً لأجابوا " ، عندئذٍ لم يتمالك عمر رضي الله عنه نفسه ، فردّ عليه : " يا عدو الله ، إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك " ، فاشتدّ غيظ أبي سفيان من هذه الإجابة ، وأطلق هتافات التمجيد لأصنامه وآلهته قائلاً : " اعلُ هُبل " ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبوه بقولهم : " الله أعلى وأجلّ " ، فقال أبو سفيان : " لنا العُزّى ولا عُزّى لكم " ، فردّوا عليه : " الله مولانا ولا مولى لكم " ، فعاود المحاولة ، وذكّرهم بأن انتصار قريشٍ في هذه المعركة يقابل انتصارهم يوم بدر ، فصاح عمر قائلاً : " قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار " ، ولم يجد أبو سفيان ما يقوله ، فعاد إلى قومه خائباً.

وبعدها ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتفقّد أحوال الجرحى والشهداء ، فرأى ثُلّة من خيرة أصحابه قد فاضت أرواحهم إلى خالقها ، فقال فيهم وفي أمثالهم : ( أشهد على هؤلاء ، ما من مجروح يجُرح في الله عز وجل إلا بعثه الله يوم القيامة ، وجرحه تجري دماً : اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ) رواه أحمد ، وأنزل الله تعالى قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ( آل عمران : 169 ) .

وافتقد النبي – صلى الله عليه وسلم - سعد بن الربيع فأرسل إليه رجلاً من الأنصار لينظر في حاله ، فوجده جريحاً قد طٌعن اثنتي عشرة طعنةً وهو يحتضر ، فطلب منه سعد أن يبلّغ السلام لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، وأن يوصل رسالةً إلى قومه بأن يتفانوا في الدفاع عن رسول الله ، ثم فاضت روحه بعد ذلك .

وكان من بين الجرحى الأصيرم - عمرو بن ثابت - وهو رجلٌ مشهور بعداوته للإسلام ، فلما رآه الصحابة تعجبّوا ، وذهبوا إليه يسألونه عن سبب مشاركته في القتال ، وهل كانت مجرّد حماسةٍ للدفاع عن قومه أم أنها نابعةٌ عن إيمانٍ ويقين ؟ ، فقال : " بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله ورسوله وأسلمت ، ثم أخذتُ سيفى فغدوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقاتلت حتى أصابني ما أصابني " ، ثم لم يلبث أن مات بين أيديهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنه لمن أهل الجنة ) رواه أحمد .

وأُتي النبي – صلى الله عليه وسلم - بمصعب بن عمير ، وقد قُطعت يداه ، فقرأ قوله تعالى : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديل } ( الأحزاب : 23 ) ، وبحث له الصحابة عن كفنٍ فلم يجدوا غير كساءٍ قصير ، إذا غطّوا به قدميه ظهر رأسه ، وإذا غطّوا به رأسه بدت قدماه ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغطّوا به رأسه ويجعلوا على قدميه شيئاً من نبات الإذخر .

ووُجد بين الشهداء حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه ، الذي كان عروساً تلك الليلة ، وسمع نداء الجهاد ، فخرج قبل أن يغتسل ، وقاتل حتى قُتل ، فقال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إن صاحبكم لتغسّله الملائكة ) رواه البيهقي ، ومن ذلك اليوم وهو يُلقّب بـ : " غسيل الملائكة " .

ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -بجمع الشهداء لدفنهم ، فكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد دون أن يُغسّلهم أو يصلي عليهم ، وربّما جمع الرجلين في ثوبٍ واحد ، ويقدّم في اللّحد أكثرهم قراءةً للقرآن ، كما فعل مع عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح رضي الله عنهما ؛ لما بينهما من المحبّة .

وجاءت أشدّ اللحظات قسوةً على - النبي صلى الله عليه وسلم - ، وهي لحظة رؤية عمّه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وقد شوّه المشركون جسده وقطّعوا أطرافه ، على نحوٍ يعكس الوحشيّة والهمجيّة التي كانت عليها قريش .

مشهدٌ مريرٌ تتضاءل أمامه كل الأهوال التي مرّت في ثنايا المعركة ، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكاء شديدا لم ير الصحابة له مثيلاً


ولما هدأت نفسه النبي التفت إلى أصحابه قائلاً : ( لولا أن تحزن صفية ، ويكون سنّة من بعدي ، لتركته حتى يبعثه الله في بطون السباع والطير ) رواه الدارقطني .

وأقبلت صفيّة بنت عبد المطلب رضي الله عنها تتفقّد أحوال أخيها حمزة ، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترى ما أصابه فلا تتمالك نفسها ، فأرسل إليها ولدها الزبير بن العوام كي يمنعها ، ولكنها ردّت عليه قائلة : " ولم ؟ ، وقد بلغني ما فُعل به ، لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله " ، وعاد الزبير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره بجوابها ، فأذن لها برؤيته .

ولم تجزع صفيّة عند رؤية أخيها ، بل صبرت وتحمّلت ، وجعلت تردّد : " إنا لله وإنا إليه راجعون " ، ثم أخرجت ثوبين جاءت بهما لتكفينه ، يقول عبدالله بن الزبير : " فجئنا بالثوبين لنكفّن فيهما حمزة ، فإذا بجانبه قتيلٌ من الأنصار قد فُعل به كما فُعل بحمزة ، فاستحيينا أن نكفّن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له ، فقلنا : لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب ، فكفنّا كل واحد منهما في ثوب " .

وهذا الصبر الذي لمسناه من صفيّة رضي الله عنها قد تكرّر عند مثيلاتها ممّن أُصبن بمصابها ، فقد روت كتب السيرة قصة المرأة التي استُشهد زوجها وأخوها وأبوها في تلك المعركة ، فلما علمت بمقتلهم لم تُلق لذلك بالاً ، وكان أكبر همّها أن تطمئنّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلت تسأل الناس : " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " حتى قيل لها : " هو بحمد الله كما تحبّين " ، فلم تطمئن لذلك ، وأصرّت على رؤيته ، فلما رأته طابت نفسها .


ومثلها أم سعد بن معاذ رضي الله عنهما حين خشيت أن يكون الأذى قد لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فانطلقت إليه مسرعة ، ولما رأته حيّاً معافى أظهرت فرحها بسلامته ، فعزّاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في ولدها عمروبن معاذ وبشّرها ، ودعا لها بحسن الخلف .

وهكذا انتهت غزوة أحد بلآلامها ومتاعبها ، ولم تكن خاتمة المطاف في صراع الإيمان والكفر ، والمواجهة بين الحق والباطل ، وإنما كانت حلقةً ضمن حلقاتٍ طويلة ، خاضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الدعوة إلى الله ، وتثبيت دعائم الدولة الإسلامية




تحياتى

ارجو التثبيت لتعم الفاءدة للجميع