ما أكثر ما وردت قصة سيدنا موسى عليه السلام في القرآن الكريم، ولا عجب في تكرارها، فهي مليئة بالدروس والعِبَر والمعاني الراقية. تأملتها في سورة القصص، فوجدت فيها عجباً... فبينما تسير أحداث القصة متسلسلة، بداية من إلقائه عليه السلام في اليمِّ، ثم نشأته في قصر فرعون حتى بلغ أشده، ثم هروبه من مصر إلى مدين بعد أن قتل القبطي نصرة لأحد المظلومين.. يبدأ العجيب بعد دخوله مدين وهو خائف يترقب.. ثم حضوره مشهد الرعاة وهم يسقون، غير مبالين بوقوف فتاتين عفيفتين قد آثرتا الابتعاد والتريث حتى ينتهي الرجال من السقيا. ترى ما الحكمة من التطرق إلى هذا المشهد في القصة؟... ألم يكن من الممكن أن تمر الأحداث دون ذكره، بل تتسلسل الحلقات دون ظهور أي خلل فيها؟ نعم، ولكن لنعلم أنه ما من كلمة أو آية أو حتى حرف في القرآن إلا وله دلالته وأهدافه... تنزيل من حكيم حميد (42) (فصلت). 1 في البداية دعونا نوجِّه سؤالاً إلى رجالنا وشبابنا، فهم المعنيون بالدرس الأول: إذا كنت مكان موسى عليه السلام، ورأيت الفتاتين، هل كنت سائلاً: ما خطبكما؟... أظن أنه لو انطبقت السماء على الأرض ما كنت فاعلاً... والسبب معروف: الحياء وغض البصر، والترفع عن محادثة النساء و... وهل أنت أفضل أو أطهر من كليم الله عليه السلام؟ لقد تصرف موسى بكل إيجابية وذوق، حين ذهب وسألهما عن أمرهما لأنه رأى مشهداً أنكرته نفسه، فقد تخلى الرجال عن شهامتهم ورجولتهم تاركين البنتين تذودان... وحين تبين له أنهما محتاجتان للمساعدة بالفعل، لم يتوان في ذلك، رغم أنه قادم من سفر بعيد، منهك القوى، واليوم حار. سقى لهما ليكون له السبق عن جدارة في إرساء قاعدة: "النساء أولاً" التي يتشدق بها الغرب، ويعدون أنفسهم أربابها... سقى لهما ثم لم ينتظر منهما أن تحمدا شهامته أو تثنيا على قوته ورجولته، وإن فعلتا لكان مستحقاً لذلك، ولكنه فعل الكرام أصحاب الذوق الرفيع. 2 ونأتي إلى موقف الفتاتين، فقد سألهما رجل "غريب": ما خطبكما؟ فلم يكن ذلك مدعاة أبداً لخشونة الرد أو استنكار التدخل، بل قالتا بكل ذوق وإيجاز: قالتا لا نسقي حتى" يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير 23 (القصص). هكذا دون تطويل ممل أو اختصار مخل...، ثم بعد ذلك تأتي إحداهما على استحياء (القصص) لدعوته إلى مقابلة أبيها لكي يشكره. يقول سيد قطب يرحمه الله في قولها: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا (القصص:25)، "فمع الحياء الإبانة والدقة، لا التلجلج والتعثر والربكة، ولكنها لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب الاضطراب الذي يُطمع ويغري، إنما تتحدث بوضوح، بالقدر المطلوب ولا تزيد"! فما بالنا إذا اتصلت إحدانا بصديقة لها، ورد عليها الزوج... إذا بها تتهته وتتلعثم، وربما تنسى اسم صديقتها... أو اسمها هي!! 3 أما الدرس الثالث فنتعلمه جميعاً رجالاً ونساءً من الأب، والد الفتاتين. ما الذي يدفع ذلك الشيخ الكبير إلى أن يرسل إحدى ابنتيه إلى رجل غريب، ليس فقط لتشكره باللسان، ولكن لتدعوه إلى لقاء أبيها كي يجزل له الشكر؟!.. قد يرى بعضنا هذا مبالغة.. فقد كان لهذا المسن كل العذر في أن يكتفي بالدعاء لموسى عليه السلام بظهر الغيب، ولكن يبدو أنه خشي أن يضيع العرفان بين الناس، فكان منه ذلك التصرف الذي هو غاية في الرقي واللياقة والذوق، وإن كان في موازين عصرنا المنتكسة: تكلفاً لا داعي له، لذا ضاع العرفان، وقل صانعو المعروف. والدروس لم تنته بعد، ومشاهد القصة مليئة وثرية، ولكن لنكتف بهذا القدر حتى لا ينسي بعضه بعضاً.. فيا لها من ذوقيات لابد أن نتعلمها ونطبقها على أنها دين لا مجرد كماليات، من شاء اقتناها ومن لم يشأ تركها. ورحم الله الأستاذ عباس السيسي حين قال: "الذوق هو الأخلاق حين تتألق في إنسان، وتتجلى في أحاديثه وتعاملاته... فالذوق: هو الإنسان في أبهى صورة، وأرقى حضارة، وصدق الله حين عظَّم شأن رسوله صلى الله عليه وسلم بالثناء على أخلاقه: وإنك لعلى" خلق عظيم (4) (القلم). وتثميناً لقول أستاذنا السيسي، نذكِّر بموقف الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أحب الناس إليه فقال: عائشة... هكذا بكل صراحة وسهولة، ولم يقل: "الجماعة"... "الأهل".. "الناس".. "العيال"... وغيرها من الألقاب والكنى المضحكة التي اعتاد الأزواج أن يطلقوها على زوجاتهم. فما أسعدك يا أمنا عائشة بتلك الكلمة... وما أحرانا أن نتعلم الذوق والأدب الرفيع من أنبياء الله، صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.