تقيم محاكمة سقراط

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : فكري عبدالمطلب | المصدر : www.arabs2day.ws

مثقفون مصريون يعيدون تقييم محاكمة سقراط


فكري عبدالمطلب





باستثناء محاكمة السيد «المسيح» لا توجد محاكمة أخرى تركت تأثيرها المدوي على الخيال الاوروبي، حتى اليوم، سوى محاكمة «سقراط». ذلك الفيلسوف اليوناني الأشهر، الذي تجرع السم، عقب محاكمته، قبل أربعة وعشرين قرنا(!) فالمحاكمتان تتشابهان في كثير من الوجوه. وذلك لانعدام التقارير المستقلة حولهما، ولغياب المخطوطات والسجلات المفترضة عن سير اجراءاتهما، بما ذلك، بالطبع، أدلة الاداء أو ما يسميه المحامون «قائمة الاتهام»(!) محاكمتان، يسيطر على وقائعهما الغموض الى هذا الحد، ومع هذا، واصلت الرواية التاريخية، الشائعة، تأكيدها لواقعة الاعدام، كحقيقة مأساوية.


لكن د.صلاح قنصوة، وهو أحد ألمع أستاذة الفلسفة في مصر، يقول: «هذه أسطورة زائفة لأن سقراط أبعد ممن يمكن وصفهم بشهداء الفلسفة، أو ضحايا حرية الرأى، كي تدين واقعة اعدامه أثينا الحرة.


وأوضح في معرض مناقشته لكتاب محاكمة سقراط للكاتب الأميركي «آي. اف. ستون»، خلال الندوة التي نظمها مؤخرا مركز «الهناجر» بدار الأوبرا المصرية، أن «سقراط» لم يحاكم بسبب رؤاه الفلسفية، بل نتيجة لمسلك سياسي مشين، سلكه ضد الديمقراطية الاثينية اذ امتنع عن اعلان موقف واضح ضد الانقلابات العسكرية، التي نجحت في اسقاط الديمقراطية مرتين، وأقامت حكما ديكتاتوريا ارهابيا، على يد تلامذته من مجموعة الثلاثين، التي كان يقودها «كريتاس» و«خارميدس» وحتى عمليات الاعدام التي كانت تتم دون محاكمة لبعض الأغنياء، ظل سقراط غير مبالٍ لها، رغم أنها استهدفت الاستيلاء على الأموال لدفع نفقات الفرقة الاسبرطية (الأجنبية) التي احتلت اثينا، خصوصا وأن البقاء في المدينة، أثناء هذه الانقلابات كان يمثل عارا على حد ما ذكره د.قنصوه، استنادا الى أبحاث الكاتب الأميركي، كما وردت في كتابه.


وأضاف: لقد كان (سقراط) معجبا بدولة اسبرطة ونظامها العسكري الديكتاتوري الصارم، رغم أن اسبرطة لم يكن بها مكان لسقراط، أو أمثاله من المفكرين والفلاسفة والفنانين، بينما ظلت نموذجا يثير اعجاب شباب الاريستقراطية المترفة، الذين يحتقرون الديمقراطية ويشعرون بالازدراء والحقد نحو التجار والحرفيين من ابناء الطبقة الوسطى الصاعدة.


والمدهش ان «سقراط» كما يذكر مؤلف الكتاب لم يكن من ابناء هذه الطبقة، بل كان ابنا لأحد قاطعي الأحجار، ولكن أرائه جعلت منه معبودا لدى ابناء الارستقراطية، الذين آخذوا يشعرون بالغربة في أثينا، آنذاك، فيما كانت دعوة (سقراط) الى الحكم، بواسطة الشخص الذي يعرف أكثر تمثل ردة الى الملكية، بشكلها المطلق. وذلك لأن المجتمع البشري، برأيه ليس سوى قطيع من الاغنام بحاجة الى راع، لكي يقوده، وليس للراعي ان يستشير الرعية، بل يصدر الأمر وعلى الآخرين الطاعة(!)


يونانية المستبد العادل


وبينما كانت الفكرة الاغريقية القديمة تعطي احتراما للرجل العادي، كانت اراء «سقراط» تحتقره بحسب ما ذكره الكاتب الاميركي.


أما الطاغية الفرد، فهو أقرب الى الطبيب أو الجراح، وهي مصدر فكرة «المستبد العادل» التي شاعت عبر التاريخ، فيما بعد، كما يقول د. قنصوة.


ولهذا أعلن سقراط عدائه السافر للسوفطايئيين، وهم فئة المعلمين، الذين يعلمون الناس الفضيلة والمعرفة، فهم الحكماء السبعة، ولذا صارت تسمية السوفسطائيين تطلق فيما بعد على العامل الماهر والفنان البارع، وكل صاحب موهبة عالية كالشعراء والموسيقيين.


والمدهش أن هذا الوصف (سوفسطائي) بات وصفا قبيحا في التاريخ اللاحق، اذ كان يطلق على من يغالطون في الحق (...) وهو نفس التاريخ الذي جعل من موت «سقراط» شهيدا للفسفة(!).. وذلك استنادا الى قوة المنتصرين في كتابة التاريخ. برأي د. قنصوة.


شخصية غامضة


المسئول عن ترجمة هذا الكتاب، وهو الكاتب «نسيم مجلي» يقول أن المؤلف الأميركي حاول تبرئة «سقراط»، كما حاول تبرئة الديمقراطية الأثينية، مما وجه إليهما من إدانات. وذلك في سياق دفاع مجيد عن حرية التعبير، يلائم مدينة «أثينا» كما يلائم مجتمعنا المعاصر الآن، وذلك لأن البحث عن شخصية سقراط الحقيقية، شأنه شأن البحث عن شخصية «المسيح» الفعلية، مازال مستمرا في انتاج كم هائل من الكتابات الأدبية، التي تمثل بحرا شاسعا من التكهنات والمجادلات العلمية.


بينما حاول المؤلف ـ كما يقول المترجم ـ التوصل الى مقاربة للوقائع الحقيقية لمحاكمة «سقراط» وذلك في مواجهة العقبات التي صادفت المؤلف، في هذا الصدد، والتي يتقدمها ذلك» القدر المخيف من النقاش بالنسبة للحقائق. فالأدب الذي كتب حول سقراط في حجم الجبال، والأدلة ضئيلة، والقدر الأكبر من الأدب المكتوب عبارة عن مجادلات ابتعدت مرات ومرات عن المصادر الأصلية.


فمحاورات «أفلاطون» التي تصف محاكمة سقراط وموته، برأى المؤلف، هي قصة مسرحية، على أعلى مستوى، تجلى بها «سقراط» بطلا» من أبطال التراجيديا مثل أوديب وهاملت(..!).


وهناك، كذلك، الرؤية التي ابتدعها «ذينوفون»، والتي ترى في «سقراط» شخصية مملة تردد كلمات معادة ومبتذلة، وأحيانا معادية للأدب والفن والثقافة الرفيعة بشكل واضح، بل استعداده ـ أي سقراط ـ للقيام بدور قواد لاحدى المحظيات المعروفات(!).


أما رؤية «أرسطو فانيس» لصديقه «سقراط» فقد جاءت على نحو كوميدي في احدى مسرحياته الشهيرة، وهي مسرحية «السحب» بجانب اشاراته المتعددة في ثلاث مسرحيات أخرى.


بينما جاءت نظرة «أرسطو» على نحو مغاير، حيث تعامل مع اسهامات «سقراط» الفلسفية «بنقد لاذع، يتناقض بصورة مدهشة مع اعجاب أفلاطون وتأليهه لسقراط». بحسب قول المؤلف.


فأي من هذه اللوحات، أو البورتريهات، حسب وصف المؤلف، تمثل شخصية سقراط؟ أو أيها كان «سقراط» الحقيقي؟ يرى المؤلف أنه حيث نجد الملامح المشتركة بين البورتريهات المختلفة فثمة «امكانية حقيقية للوصول الى سقراط التاريخي».


اذ ان، مايسميه المؤلف، «القبض على سقراط التاريخي» هو جزء فقط من المهمة، لأن من المهم، في رأيه «اعادة بناء القضية المفقودة لوضعها امام القضاء، ورؤية الكيفية التي ظهر بها سقراط امام مواطنيه». وذلك باستخراج «السجلات القديمة»، التي تطلب عناء البحث عنها التجول في «ربوع التراث الكلاسيكي كله، الاغريقي واللاتيني أيضا.. كما يقول المؤلف.


المهمة الثقيلة


تلك المهمة الثقيلة هي التي حملت المؤلف على تعلم اللغة اليونانية «بدرجة تؤهله على الأقل لكي يجاهد في حل مغاليق النصوص الأصلية، لأنه في هذه الأصول فقط يمكن له أن يقبض على دلالات الألفاظ بكل قوتها، كما يقبض أيضا على ظلال المعاني».


فالمؤلف، كصحافي وناشط بارز في حقل الحقوق المدينة، إعتبر مشهد «سقراط» أمام قضاته، كعلامة سوداء في تاريخ «أثينا» وفي تاريخ الحرية، التي كانت ترمز لها.


فكيف أمكن لمحاكمة «سقراط» أن تحدث في مثل هذا المجتمع الحر؟ كيف تنكرت «أثينا» لنفسها؟ وذلك رغم كونها واحدة من أقدم المجتمعات البشرية التي ازدهرت فيها حرية الفكر وحرية التعبير «بدرجة لم تعرف من قبل، ولم يكد يصل اليها مجتمع حتى الآن». برأى المؤلف.


ولذلك شرع الرجل في اكتشاف، ما أسماه، الكيفية التي أدت الى وقوع هذا الحادث المأساوي «محاكمة سقراط».


وكما يوضح المؤلف، فإن سعيه الى هذا الاكتشاف مكنه من التعرف على المصادر التحررية لبذور حرية الفكر في العصور الوسطى الأوروبية، والذي اقترن بعملية اكتشاف «أرسطو» نتيجة الترجمات العربية والعبرية، وهو ما كان له الأثر في قيام حركة الإصلاح الديني البروستانتينية، وتأثيرها ـ فيما بعد ـ على ثروات الانجليز في القرن السابع عشر، والتي كان بفعلها «دور مهم في تطور النظام الدستوري الأميركي» بحسب مايذكر المؤلف.


أما في يخص محاكمة «سقراط» فقد خلص الكاتب الى أن سقراط كان باستطاعته الحصول على البراءة، لو أنه استند الى مبادئ الديمقراطية الأثينية ذاتها، وخصوصا الى حقه في حرية الكلام، بمعناها الحقيقي، وكما كان يفهمها الأثنيون.


لكن سقراط أبى واستكبر ورفض أن يستخدم هذا الحق!


ويدعم المؤلف رأيه بشرح مستفيض لنظام المحاكمة، حيث تشكلت هيئة المحكمة من 500 عضو من المحلفين، وبعد أن ألقى «سقراط» دفاعه المعروف جرت المداولة والتصويت، وكانت النتيجة هي 320 صوتا في جانب الإدانة، و280 صوتا في جانب البراءة. وهو فارق ضئيل لا يزيد الا بأربعين صوتا.


انتحار لا اعدام


ويرى المؤلف انه لو نجح «سقراط» في تحريك هذه النسبة لصالحه لتعادلت الأصوات في الجانبين، وكان هذا التعادل يفسر لصالح المتهم في المجتمع الأثيني، ويضمن لـ «سقراط» البراءة. الا ان سقراط كما يوضح المؤلف أراد ان يموت، وكان يرى في الموت اكتمال التحقق حيث ينطلق الروح من قيود الجسد، وتصبح قادرة على تأمل الافكار الخالدة التي لا تتغير، ولكي يثبت، في ذات الوقت احتقاره لعامة الاثنيين ونظامهم كله..!


ولذلك فقد علت الدهشة جبهة «سقراط» من ضآلة عدد أصوات المحلفين ضده، لأن تعاليمه، على مدى عمره المديد «70 عاما» كانت معادية لنظام دولة «أثينا» الديمقراطي.


ويرى المؤلف أنه لو كان عامة الاثينيين غارقين في الجهالة والتحامل والانحياز، كما كان «سقراط» يظن بهم، لما صبروا عليه حتى بلغ السبعين ليأتوا به إلى المحاكمة.


وبحسب ما يؤكده المؤلف، فقد تشرب الأثينيون الديمقراطية، وترسخ مبدأ حرية التعبير في الحياة الفنية والسياسية، على مدى قرنين من الزمان، قبل «سقراط» وكان ذلك سببا في ازدهار المجتمع الأثيني، وتفوقه في كل نواحي الحياة. وهو ماحمل الأثينيون على احترام حق «سقراط» في الاختلاف معهم، فيما يقول وما يعلم، الى حد الوقوف الى جانب تبرئته ـ كما يقول المؤلف ـ استنادا الى عدم اثبات قيام «سقراط» بأي عمل علني ضد الدولة.


لكن، الخلاف بين سقراط وعامة الأثينيين كان، على حد ما يشير المؤلف، خلافا جذريا، يتصل بطبيعة المجتمع الإنساني: هل هو مدينة حرة، كما يعتقد الاغريق؟ أم هو مجرد قطيع من الأغنام، كما كان يعتقد «سقراط»؟ ولهذا رأى المؤلف أن المسلك السلبي، الذي اتخذه سقراط من الانقلابات العسكرية، التي وقعت بالتأمر مع اسبرطة، ضد الديمقراطية كانت وراء تحامل الاثينيين ضد سقراط، اثناء محاكمته، مشيرا الى انه لولا هذه الانقلابات الارستقراطية التي قام بها تلاميذ سقراط، لما جيء بسقراط للمحاكمة، رغم خلافاتهم الشديدة معه.


ومع ذلك لم يستطع المؤلف أن يدافع عن حكم الادانة الذي لحق بسقراط، لكنه كشف عما لم يقله «أفلاطون» لكي يعطي الاثينيين جانبا من الانصاف، بغية تخفيف الذنب عن المدينة، ومن ثم يمحو «جزءا من وصمة العار التي لحقت بأثينا وبالديمقراطية من جراء هذه المحاكمة».