من ذكريات الحج والعيد

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : زيد بن محمد الرماني | المصدر : www.midad.me

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الزمان: قديم موغل في أعماق الماضي.

المكان: مكة عندما كانت قفراً يباباً في الوادي الأجرد، لا يعمرها إنس، وإنما تلم بها بين حين وآخر جماعات من الرعاة، يحطون رحالهم عند أطلال البيت العتيق، التماساً للراحة والبركة، ثم لا يلبثون أن يشدوا الرحال ويضربوا في تيه الصحراء بحثاً عن مساقط الغيث ومنازل المطر.

 

في تلك البقعة المهجورة، وفي ذلك الزمن الغابر وراء التاريخ، جاء إبراهيم - عليه السلام - يسعى من الشمال ومن ورائه هاجر تحمل في حضنها وليدها إسماعيل.

خرج إبراهيم من أرض كنعان، ضارباً في طريق الجنوب إلى البلد العتيق ومن ورائه الأم هاجر مهزولة في أعقاب نفاسها، منصرفة عن التفكير فيما كان ويكون بهذا الصغير الرضيع الذي يسكن إلى حضنها فينسيها كل الدنيا.

 

تيه كبير

عند أطلال البيت العتيق حط إبراهيم رحله ثم تهيأ للعودة من حيث جاء، تاركاً هاجر وولدها، مع جراب فيه تمر وسقاء فيه ماء.

وأدارت هاجر عينيها في هذا التيه القفر فسألت مرتاعة: أتتركنا هنا بهذا القفر الموحش؟ قال: نعم، فأمسكت هاجر عن الكلام برهة، ثم سألت إبراهيم - عليه السلام -: آلله أمرك بهذا؟!

أجاب: نعم.

قالت: إذن فالله لن يضيعنا. ولم تزد.

وسار إبراهيم منصرفاً، حتى إذا بلغ ثنية الوادي رفع رأسه إلى السماء وقال في ضراعة وابتهال: ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) (37) (إبراهيم).

 

نفاد الزاد:

ومضى، وظلت هاجر تتبعه بعينيها حتى غيَّبه منعطف الوادي، فأقبلت على وليدها تستمد منه الأنس في وحشتها والقوة على احتمال محنتها، ثم ما لبثت أن نفد الزاد الضئيل الذي تركه لها سيدها إبراهيم - عليه السلام - ونفد الماء، وخف ثديها فلم يعد يبض بقطرة.

إذ ذاك بدا لها أن تبحث هنا وهناك عن شيء يمسك الحياة على طفلها، فراحت تضرب فيما حول الأطلال دون أن تهتدي إلى شيء.

وسعت إلى جبل الصفا فعرجت إلى قمته لتشرف من عل على الوادي لعلها تلمح من بعيد أثراً لحياة.

وهبطت من الصفا وسعت مهرولة إلى المروة، فصعدت وحدقت فيما حولها لعل أحداً غيرها يضرب في التيه.

ولا أثر ولا أحد..وأعادت الكرّة، وظلت تسعى مهرولة بين الصفا والمروة مرتين وثلاثاً وسبعاً، حتى وهنت قواها وهدَّها اليأس، فارتمت إلى جانب طفلها، لكنها لم تقو على احتمال رؤيته وهو يلهث ظمئاً.. والحياة تتسرب من كيانه اللطيف، وغطت وجهها بلفاعها وقالت: لا أنظر موت الولد ثم استسلمت لقضاء الله.

 

تفجر الماء:

وتفتحت السماء لمشهد الأم فيما تكابد من هموم أمومتها وتجلت رحمة الله، فتفجر نبع زمزم من تحت أقدام الوليد المبارك، وهرولت الأم إلى النبع فارتوت وسقت وليدها، وردت الروح إلى الطفل وأمه، وبعثت الحياة في الوادي الأجرد.. وقد استجاب الله دعاء إبراهيم - عليه السلام - من ذلك العهد السحيق، دخلت هاجر تاريخنا الديني، فكان مسعاها مهرولة بين الصفا والمروة شعيرة من شعائر حج العرب في الجاهلية والمسلمين في الإسلام. قال - عز وجل -: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم 158 (البقرة).

وتمضي الدهور والأحقاب والأم هاجر ملء الحياة، فكلما دار عام القمر دورته وأهلَّ عيدنا الأكبر، سعى الألوف من الحجيج بين الصفا والمروة مهرولين سبعة أشواط، كما سعت هاجر من قبل التاريخ!!.

 

تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ": في مكان بعينه بين الصفا والمروة وبالحركة نفسها: هرولة بينهما سبعة أشواط. وفي موعده الذي لا يتخلف، من عام القمر على مدار السنين من قديم بعيد وإلى الأبد، ذلك هو عيد الأمومة عندنا، شعيرة من شعائر الله.

 

صبغة روحية:

أقول: لقد كانت الأمم الماضية تعرف الأعياد لهواً ولعباً وشراباً وطرباً وجلبة وصخباً، بل إن بعض الأديان القديمة كانت تتخذ أعيادها الدينية من مادة الإباحية المستهترة والفوضى الخلقية السافرة.

ويجيء الإسلام بموازينه العادلة ومعاييره الدقيقة الفاصلة، فيلقي على فكرة الأعياد ضوءاً جديداً يبعد بها عن انحلال المادية وفجورها.

تلك هي فكرة الأعياد في الإسلام، فالصبغة الأولى كما يقول الأستاذ محمد دراز لأعيادنا الإسلامية صبغة روحية