الفرد نواة العائلة, والعائلة أساس كل مجتمع. وصلاح المجتمعات وفسادها تبع لصلاح الأفراد والعائلة. فكل مولود بصورة عامة, مع بعض الاستثناءات, صفحة بيضاء, عجينة لينة, يكتب عليها الآباء والمربون والبيئة والمجتمع, منذ ولادته حتى مماته, فيتأثر سلبا أو إيجابا بما تمثله عائلته ومجتمعه من قيم ومفاهيم ثقافية في شتى فروع العلم المادية والإنسانية. هذه حقيقة علمية في حقل التنشئة والتربية, يعرفها كل مختص في علم التربية, وقد أشارت إليها الآية الكريمة التالية:(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا(أي صفحة بيضاء) وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة(آلة التعلم والمعرفة) لعلكم تشكرون)(النحل78). وفي الحديث الشريف:(كل مولود يولد على الفطرة(أي كما أخرجه المولى من بطن أمه لا يعلم شيئا), فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). والإحصاءات اليوم تبين أن مختلف الأنظمة التربوية الوضعية التي اتبعتها الأمم في تربية النشء أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم من تعاسة وضياع, وهو ما نراه في حقل الأمراض النفسية والمشاكل الأخلاقية الاجتماعية، فعلم بدون أخلاق مهلكة للنفس وتدمير للذات.
والمجتمعات التي تخلت في تربيتها عن تعاليم السماء, تتخبط في ظلمات التعاسة النفسية والاجتماعية والمفاهيم الأخلاقية الخاطئة, بالرغم من تقدمها في مختلف فروع العلوم المادية.
وما نفع العلم المادي إذا خسر الإنسان طمأنينته وسعادته؟!
إن أعلى نسب الانتحار والقلق والأمراض النفسية, والجرائم الأخلاقية هي عند الأمم التي أهملت المفاهيم الأخلاقية والمبادئ, التربوية الإسلامية في التنشئة. لذلك عجزت مختلف الأنظمة الوضعية من تربوية واقتصادية, كما هو واقع الحال اليوم, عن أن تصل بالإنسان إلى السعادة، غاية كل حي في الوجود.
أما الإسلام فلم يترك جانبا من جوانب الإنسان الناشئ إلا وتعهده بالتربية الصحيحة, فهو خير وقاية وشفاء لهذه الإنسانية المريضة في أكثر أفرادها ومجتمعاتها. أما الأسس المنجية العلمية المبرمجة للتنشئة الإسلامية فلم تستخلص وتعمم بعد كما يجب. وهذه مسؤولية المربين والمهتمين بعلم التربية والنفس, وكذلك مسؤولية القائمين بالدعوة الإسلامية.
لا شك بأن كل المجتمعات الإنسانية التي تخلت عن تعاليم السماء الحقة هي في الواقع مريضة وجاهلية وظالمة. فمنذ قتل قابيل أخاه هابيل وحتى كتابة هذه الكلمات مرت على الإنسانية حروب ظالمة وقاسية, علما أن منها حروبا عادلة لا بد منها. وهل وصلت المجتمعات التي يطلقون عليها صفة المتحضرة الراقية, رغم كل إنجازاتها في حقول العلوم المادية, إلى السعادة؟ ثم هل قضت على القلق والفقر والجهل والمرض؟ بالطبع لا. فالفقر والجهل والمرض والقلق هي آفات الإنسانية الرئيسة اليوم, وحتى الآن لم تجد الإنسانية لهذه الآفات العلاج الشافي ولن تجده إلا باتباع القانون القرآني, شرط أن تفهم النصوص وتطبقها بعيدا عن هوى النفوس.
جاء في إحدى إحصائيات الأمم المتحدة أن(700) مليون نسمة يعانون من سوء التغذية, و(1500) مليون نسمة تنقصهم الرعاية الصحية, وعشرات الملايين يموتون سنويا من الجوع, وأن عدد الأميين في العالم يبلغ(800) مليون نسمة, في حين تنفق الإنسانية في عشرين دقيقة على التسلح ما يكفي لتمويل ميزانية الأمم المتحدة السنوية المخصصة لمنع الفقر والجهل والمرض في العالم. إنها تنفق ما يزيد على مليون دولار في الدقيقة جهلا وظلما في سبيل زيادة إنتاجها من وسائل الفتك والدمار, وكأنه لم يكفها كمية الخمسة أطنان من المواد الشديدة الانفجار التي كدستها فوق رأس كل فرد من أفراد البشرية, وهو ما يكفي لمسح كل أثر للحياة على وجه الكرة الأرضية خمسا وعشرين مرة وليس مرة واحدة!
القلق يلف الإنسانية إلا من رحم المولى ممن هدى واهتدى. والبلدان التي يدعونها بالمتحضرة والراقية هي في طليعة الأمم القلقة أفرادا ومجتمعات, إذ إنها تنفق سنويا آلاف الملايين من الدولارات ثمنا للأدوية المهدئة والمشروبات الكحولية والمخدرات كي تحارب قلقها ولا نتيجة, لا بل إن نسبة القلق والانتحار والجريمة والمآسي الاجتماعية تتزايد عندها.
وتنفق الإنسانية ملايين الدولارات في سبيل الأبحاث العلمية والأدوية التي تحارب الأمراض الجنسية التي تنتقل بواسطة العلاقات الجنسية الآثمة, من دون أن تحارب هذه العلاقات نفسها, لا بل إنها تشجعها تحت ستار مفهوم الحرية الفردية الخاطئ! ولو التزمت القانون الإسلامي لوظفت هذه الأموال الطائلة في محاربة الجهل والجوع والمرض.
ويتلف بعض أفراد الإنسانية الفائض من المحصول الغذائي ولا يوزعونه على الفقراء حتى لا تتدنى أسعاره في الأسواق العالمية! أما القانون الإسلامي فقد منع احتكار قوت العباد, فكيف بإتلافه وحرقه؟
وتنفق أكثر الدول الأموال الطائلة في سبيل الترف والمظاهر التي لا فائدة منها, في حين أن كثيرا من أفرادها يعانون من الجوع والمرض والجهل. وفي كثير من البلدان يولد آلاف الأفراد ويربون ويموتون في الأزقة والشوارع وبيوت التنك والخشب, وعلى بعد أميال منهم قصور الترف والإسراف والتخمة! وفي بعض البلدان الأخرى يموت آلاف الناس من الجفاف يوميا, بينما يهتم المسؤولون عنهم بتنظيم الدعوة إلى مهرجانات الفسق والفجور!
أما في القانون الإسلامي:(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته), و(وما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع وهو يعلم). والأمثلة عن ظلم الإنسان لنفسه ولغيره تطول, إنما ما الحل؟ وما المخرج؟
(فهل ينظرون إلا سنة الأولين, فلن تجد لسنة الله تبديلا, ولن تجد لسنة الله تحويلا)(فاطر43). لينظروا ما شاءوا وليسنوا القوانين الوضعية ما شاءوا, وليفتشوا عن حل لمشاكل الإنسانية ما شاءوا, فالإنسانية إذا لم تلتزم بالقانون الإسلامي ستظل تتخبط في مشاكلها التي تتزايد يوما بعد يوم, مصدقا لقوله تعالى:(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)(طه124,123), و(فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(البقرة38), و(ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا)(الجن17).
لذلك لم يلق برناردشو قوله عبثا عندما قال:(لا تستقر أمور هذه المدنية إلا إذا رجعت إلى تعاليم محمد). وكذلك ميخائيل نعيمة لما قال:(القرآن الكريم رسم للناس جميعا سبيلا يصلون فيه إلى هدف عظيم: ألا يكونوا في مهب الريح). أما المفكر والمصلح الاجتماعي روجيه غارودي فيرى في الإسلام النظام الأمثل لسعادة الإنسانية, وذلك بعد دراسة شمولية لمختلف الأنظمة الاجتماعية التي تتبعها الأمم استغرقته عشرات السنين. من هنا كان تحوله إلى الإسلام والتزامه إياه دينا.
والعقلاء, وما أقلهم, يرون في النظام الإسلامي, الوقاية والعلاج, للأفراد والمجتمعات, من القلق والفقر والجهل والمرض, شرط أن تفهم النصوص الإسلامية فهما علميا منهجيا في العمق, من طريق مجموعات عالمية متخصصة, كل في حقل اختصاصه, ثم تنشر هذه النصوص بواسطة أجهزة إعلامية ذكية. حتى إذا تهيأت الأرضية الصالحة الواعية لهذه النصوص تقبلتها النفوس بعيدا عن كل هوى وتشنج!
وبكلمة مختصرة نقول: حاشى للعزة الإلهية أن تخلق الإنسانية وتتركها من دون كتب صيانة ووقاية وشفاء. وحاشى للعزة الإلهية أن لا تضع في كرتنا الأرضية ما يكفي لمنع الجوع والمرض عن الإنسانية بالغا ما بلغ تعدادها من أفراد, شرط أن يستعمل الإنسان عقله المفكر وفقا لتعاليم خالقه, وهو الأعلم بمن خلق, لا وفق نزوات النفس الأمارة بالسوء وأهوائها التي يتبعها أكثر الأفراد والمجتمعات في أغلب بقاع الأرض.
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)(المائدة 15,16).
وعن الإمام علي سلام الله عليه: (ألا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ألا إنها ستكون فتنة فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله, فيه نبأ ما كان قبلكم, وخبر ما بعدكم, وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين والنور المبين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ عنه الأهواء ولا تلتبس به الألسنة, ولا يشبع منه العلماء, ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقص عجائبه, هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا:(إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) من علم به علمه سبق, ومن قلا به صدق, ومن عمل به أجر, ومن حكم به عدل, ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم).
إذن فالقرآن الكريم هو الحل الأمثل والعلاج الأنجع لجميع أمراض البشرية. وما أجمل ما وصفه به منزله المولى القدير فقال:(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)( الإسراء 82) ولطالما رددها الرسول الأكرم محمد( صلى الله عليه وآله وسلم):(أحد الشفائين).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عن كتاب: من علم الطب القرآني د.عدنان الشريف- بتصرف-