عَمَّ يَبحثونَ في ثناياها ؟!

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : مسند الإمام أحمد | المصدر : www.muslmh.com

 
رسائل نسائية

عَمَّ يَبحثونَ في ثناياها ؟!
رجاء محمد الجاهوش
 


أسْرعَ الجَميعُ ـ كِبارًا وصِغارًا ـ نَحوَ ذلكَ الصُّندوقِ ، وأخذَ كلٌّ منهم مَكانَه ، فقد آنَ أوان تناول الجُرْعَةِ الجَديدةِ من ذلكَ السُّم الغريبِ ، سُم لا يُشرَب ولا يُؤكَل ولا يُحقن في الوَريدِ ، إنَّما يتسرَّبُ بهدوءٍ إلى قنواتِ الفكرِ والوجدان ، فيُسمِّمَ الأفكار ويُلوِّث المشاعر !
تَغلغله الهادئ حَماه من مُقاومَةٍ أو انتباهةِ غافلٍ ، وتكرار تناول الجُرعة بانتظام جعلَ طعمه المُر مُستساغا بل ومَطلوبا ..!


"المسلسلات المدبلجة" وحُلَّة جَديدة أكثر قربًا وحَميميَّة : فاللَّهجة معروفة مُحبّبة ، والملامح مألوفة ، والأسماء عربية أصيلة ، وشيء من المعاني الدينيّة غلَّفَ زُجاجة السُّم ببريق خَادِع !
سادَ صَمتٌ يُشبه صَمتنا العربي ، فالكلّ مشغول بمتابعةِ أحداثِ المُسلسَل ، وما آلت إليه أحوال القلوب المُتعبة التي أضناها الهَجر وأرَّقها الحَنين !
والويلُ كلّ الويل لمَن يُحدِث إزعاجا ، أو يُصدر أصواتًا تَعلو فوقَ تلكَ الأصوات المنبعثة من ذلك الصندوق ، فالأحداث غاية في الأهميّة ، والمَشهَد إن فاتَ لا يُعَوَّض ، لذا فليصمت الجَميع ، وليُتابع الجميع بهيام ونشوة !
الغريب في الأمر أن أولئك القوم لم يكونوا من المُدمنين المُنحرفين ، ولا مِمَن اعتادوا اللهو والعَبث ، بَل هُم مِن الأسوياءِ العُقلاء الذين يَحرصون على تربية أبنائهم تربية صَالحة ، فيحثّونَهم على حفظِ كتابِ الله ، ويَسعَون ـ بجدٍ ـ إلى غرسِ العَفافِ في قلوبِ بُنيَّاتهم ، ويواظبونَ على صلاتِهم وصِيامِهم !
ما الأمر إذا ؟! ماذا أصابهم ؟!
كيف غفلوا عمَّا تَنطوي عليه تلكَ المُسلسلات ـ طويلة الأمدِ ـ من فسادٍ ؟!
حيّرني السُّؤال ، فانتهزتُ فرصة التقائي بجَمع مِنهم في جلسةٍ وَدود لأستوضحَ الأمر ، ودون كَبير عَناء في اختيارِ المَدخلِ ـ الذي طالما يُؤرِّقنا عندما نُريدُ الحديثَ عن أمرٍ نَظنّه حساسًا أو رُبما يُسبب ضيقًا ـ كان الحوار عَفويًا صريحًا ...
توجهتُ بسؤالي بداية إلى "إيمان" تلك الفتاة اليافعة التي تبلغ من العمرِ ستة عشر عاما فسألتها : هل تتابعين المُسلسلات المُدبلجة ؟
احمرت وجنتاها وخَفضَت بصرها ، فبادرتها قائلة : لستُ بصدد تَجريمَك ، إنَّه مُجرد حوار صديقات ـ رغم فارق السن .
ابتسَمَت قائلة : سأجيبُ عن جميع أسئلتك ...
- نعم أتابع المُسلسلات المُدبلجة ، لكن التركيَّة منها وليست المكسيكيَّة ..
وكأنها أرادت أن تقول أن المسلسلات التركيَّة أحسن حالا من المكسيكيَّة !
- حسنا .. ولماذا تُتابعينَها ؟
- هي مسلسلات مُتقنة من النَّاحية الفنيَّة ، كما أنها تُرينا الحياة على بساطتها دون تكلّف في رَسمِ أبطالها وبطلاتها ، الأمر الذي يَجعل المُشاهد يَشعر أنَّه قريب منهم ، بعكس ما يحدث في مسلسلاتنا العربيَّة ، حتى بتنا نسأل أنفسنا ـ ونحن نتابع الأحداث ـ : هل هذا يَحدث عِندنا ؟!
أعترف أن المسلسلات المُدبلجة تَطرح أمورًا لا تتناسَب مع عقيدتِنا الإسلاميَّة إلا أنها تُناقش قضايا مهمّة !
استوقفتها سائلة : - ما هي تلك القضايا المُهمَّة التي تناقشها ؟
- الأسرة وأهميَّتها ، وضرورة وجود الحبّ بين أفرادها ، وجمال العلاقات الإنسانيَّة التي نفتقدها !
- برأيكِ هل يستطيع مسلسل تغيير قناعات ما لدى الشَّخص ، هل له هذا التَّأثير بالفعل ؟
- يعتمد ذلك على طبيعة الشَّخص ؛ لكنَّها في جميع الأحوال تَنقل الشَّخص إلى أحداثها فيعيشها بحزنها وفرحها ، ويكون التَّأثير حسب واقع الشخص المُعاش ، والخوف ـ كما تقول والدتي ـ من طول فترة التَّعايش مع أحداثها ...
صَمتت هُنيهة وبَدا عليها مَلامح مَن تاه في دربِ الإجابة ثم قالت مبتسمة : - لا تسأليني أسئلة صَعبة !
فابتسمتُ قائلة : - أجيبي وِفقَ فََهمكِ للأمر ورؤيتكِ الخاصَّة له دون توتر .. اتفقنا ؟
- حسنا اتفقنا ؛ سأبوح لك بأمر : لقد عاهدتُ نفسي مِرارًا ألاَّ أتابع مثل هذه المُسلسلات لأنها مَضيعة للوقتِ ، كما أنَّها تُصيبني بحزنٍ في أكثرِ الأوقاتِ لكن المشكلة تَكمن في التَّشويق !
فأحداث الحلقة تنتهي عند نُقطةٍ حَرجةٍ ، تَشحنُكِ بفضول كبير لمعرفةِ ماذا سَيحدث في الحلقةِ القادمةِ ، وهكذا أظلُّ أترنَّحُ بين فضولي في معرفة ماذا سيَحدث وبين رغبتي في التوقف عن المُتابعة .
- جلّ المشاهد ـ إن لم يكن كلّها ـ فيها تجاوزات شرعيَّة : كشرب الخمرِ ، علاقة الشَّاب بالفتاة الأجنبيَّة عنه ، الانتقام من أجل الفوز بالحبيبة ، ممارسة الفاحشة ، فما هو شعوركِ عِندما تنظرين إليها ؟
- لا أدري بماذا أجيب ! لأن مثل هذه المشاهد غَدَت عاديَّة الوجودِ في مسلسلاتنا العربيَّة ...
على كل حال عندما تظهر مثل هذه المَشاهد أقومُ بتغيير القناة ، وأحيانا أغلِق التلفاز ولا أكمل مُتابعة الحلقة !
- حسنا ؛ لو أخبرتك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " كلُّ ابن آدم أصابَ مِنَ الزّنا لا محالة ، فالعين زناها النَّظر ، واليد زناها اللَّمس ، والنَّفس تهوى وتحدِّث ، ويُصدّق ذلك ويكذبه الفَرْج "* فهل هذا يكفي لردعك عن مُتابعة المُسلسل ؟
- سؤال صعب ..!
ثم تابعت : - قد يَردعني هذا فأغيّر القَناة عند ظهور المَشاهد غير اللائِقة ، أمَّا أن أتوقف عن مشاهدة المُسلسل بالكليَّةِ فلا !
أرجو ألا تفهمي من كلامي أنَّني أدافعُ عن مثل هذه المسلسلات !
- أفهمك جيدا ، وأحيّي فيك صدقكِ وصراحتكِ .
إلى هنا انتهى الحديث مع تلك الزَّهرة اليانِعة ، وبدأ حديثٌ آخر مع سيداتٍ في مختلف الأعمار ، كانت حَصيلته أنَّنا في زمنٍ طغت فيه المَّادة على كلِّ شيء حتى وصَلت إلى قلوبِنا ، فصيّرت القلبَ عَضلة جوفاء تضُخ الدِّماءَ دون ماءِ الإحساس إلى أن تحجّر وقسى !
مَشاعرُنا تَحتضر ، وأرواحُنا تَئِن مِن فرطِ ما أصابها من جَفاءٍ ، والفَراغ العاطفي يَفغر فاهُ يريدُ ابتلاعنا ، فنَفرُّ هاربين من قبضةِ فكَّيْهِ إلى مثل هذه المُسلسلات لنعيشَ "الرومانسيَّة" ولو وَهمًا !
عَجَبًا ..!
مُنذ مَتى كانَ الوَهمُ بَلسمًا ، ومُنذ مَتى كانَ رِزقُ اللهِ يُستَجلب بمَعصيتِهِ ؟!

 

________________________________________

* مسند الإمام أحمد