الأم أجمل وأروع اسم تحمله المرأة، وليس كل النساء أمهات، ولكن كل الأمهات نساء. وأجمل قصص الحياة، هي قصة الأم وحكايتها مع الزمن. حقاً: الأم قلب الأسرة، ومظلتها، وحارس بنائها وسعادتها، والأم هي الأسرة كلها!!
يقول الله سبحانه وتعالى في تفصيل آياته التي ينهض بها مجد الأمومة على أعبائها وصبرها وإيثارها: ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) . [ المؤمنون 12-14].
رسالة الأمومة الأمومة من أشكال قدرة الله المبدعة والرحيمة والهادفة في ابتلاء الإنسان إلى هدفه الأسمى الذي رسمه له الحق تبارك وتعالى، وهو عبادة الله وحده وتسليم الوجه له وحده، ومن أجل ذلك ارتبطت رسالة الأمومة الراشدة بواجب تربية وليدها بعد مولده على ذلك الاتجاه نحو الغاية العظمى وهي توحيد الإله وعبادته بالعمل الصالح.
والأم أقدر مخلوق على غرس ذلك في الطفل وتربيته عليه، ولذلك حرص الإسلام أول ما حرص على اختيار الأم قبل كل شيء من ذوات الدين، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تنكح المرأة لأربع: لمالها وجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك، متفق عليه ومعلوم أن ذات الدين هي التي تملك ما تربي عليه طفلها من قيم فينشأ وقد بذرت فيه بذرة الخير صغيراً، وأكثر من ذلك أنها تضفي استقراراً للأسرة وأمناً وظلالاً من السكينة، مما يفسر لنا حرص الإسلام على دقة الاختيار للزوجة التي ستكون أماً لأولادنا.
الاختيار فلا يكفي في القناة أن تكون في نفسها جميلة، وإنما يجب أن يشفع لها صلاح الأهل، والاعتصام بالدين منهم، لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): تخيروا مواضع الأكفاء لنطفكم فإن الرجل ربما يشابه أخواله رواه ابن ماجه والحاكم والنسائي، وقد كانت- حتى قبل الإسلام- هذه خليقة العقلاء الذين يحرصون على سلامة أسرهم ويسهمون في صلاح المجتمع، ولذلك قال الشاعر ممتناً على ولده:
وأول إحساني إليكم تخيري لماجدة الأعراق باد عفافها
وعن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا أقسم عليها أبرته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله. رواه ابن ماجه.
فتفسير الصالحة، شمل النظافة في الهيئة والملبس، والطاعة عند الأمر، والإعانة في الأمر المباح، والأمانة والعفة حين يتربى عليها الولدان صغاراً، يزدهر بهم المجتمع كباراً، وتبنى بهم الحضارات، ولذلك قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى بحجى ولكن يعوده التدين أقربوه
أول صرخة للطفل إنِّ الأم الصالحة الطيبة، المعدة بإيمانها وبيانها للأمومة البانية للمجتمع، الهادية للأجيال، تعلم أن أول صرخة لطفلها بعد ولادته، أول بشارة لها ببداية برامج تربيته وحضانته، هذه البداية التي تحددها حكمة الخالق في رسالة الأم، من أول مرحلة الرضاعة بين ذراعي أمه من طريقين متوازيين، تنتصر بينهما حياته، أو تضيع وتنحل بسبب ما تقدمه له أمه في هذه المرحلة.
الطريق الأول: طريقه الطبيعي والملموس والمحس، ويبدأ ملخصاً بكل معناه في إطباقه فمه، ولمسة يده لثدي أمه.
وأما الطريق الآخر: فهو طريقه الفكري والعلمي والمدرك، ويبدأ جذاباً مع مذاق ومسار لبن أمه في عروقه، بكل ما يلقى إليه سمعه وحسه، من إيقاعات صوتها، ولمسات يدها وحنان لثماتها. وهناك بينهما معاً: تتخلق من البداية حروف لغة النفس وأبجديتها التي لا نهاية لها، حيث تنشط وتنمو وتعيش الصورة الجديدة، والأصوات والمعاني والاتجاهات في مجرى الفطرة، ودورة الغرائز!
إن الأم الطيبة المؤمنة تستطيع أن تغرس من خلال قطرة اللبن ونبرة الصوت ودلالته ودلالة اللمسة وإشارة الكلمة، بذور الأمانة والصدق والاعتماد على النفس، والتفاؤل الجاد والطهارة والنظافة والإيثار وكل مقومات الإيمان والإسلام، والاستشراف بذلك إلى هدف أسمى في تنمية الإنسان والحياة والنزعة إلى التعاون على البر والتقوى.
من أجل ذلك الفضل والأثر الذي يفيضه الوالدان على ولدهما، بحب وطواعية، جعل الإسلام الإحسان إليهما بمنزلة تالية لعبادة الله، فقال تعالى: ( وقضى ربك ألا تبعدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً). [ الإسراء: 23-24 ].
والرسول (صلى الله عليه وسلم) يجعل عقوق الوالدين من الكبائر الكبرى، فيقول (صلى الله عليه وسلم): ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وشهادة الزور وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: :ليته سكت رواه مسلم.
من أجل ذلك الخطر وهذه الأهمية، دعا الإسلام إلى إعداد البنت إعداداً خاصاً، تستطيع به أن تمد المجتمع بأعضائه الطيبين الذين يشاركون في بنيانه بأمانة، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): من عال جاريتين حتى يدركا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين – [رواه مسلم والترمذي]. وفي رواية لأبي داود: من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة. ورواه الترمذي أيضاً.
المرأة بوصفها عضواً في المجتمع الإسلامي نظر الإسلام إلى المرأة كالرجل، فمنحها حقوقاً وكلفها واجبات، قال تعالى: ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً). [ النساء: 124].
وقال تعالى: ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)[ آل عمران: 195].
وساوت الشريعة الإسلامية بين الرجل والمرأة في المعاملات المالية والعقوبات، ولها حق التعاقد والتعاهد مع مَن تشاء، دون تدخل زوجها أو أبيها، وأن تكون وكيلة عن غيرها في الخصومات.
وجعلت الشريعة الإسلامية المرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادة لقوله تعالى: ( فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) [ البقرة: 282]. حقاً إن الشريعة الإسلامية تكفلت بالمرأة بنتاً، وزوجة، وأماً، وأحاطتها بكثير من العدل والعطف والرحمة.
الأم مدرسة الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
فإعداد البنت إعداداً صالحاً، يتفرع عنه الحصول على الأم الصالحة، والأم الصالحة هي التي تهب المجتمع أبناء صالحين يشاركون في نهضة المجتمع وبناء حضارته أما إذا كانت البنت جاهلة، مهملة الحقوق مضيعة الواجبات، فمن هنا لن تكون أماً صالحة، وإنما سينشأ أبناؤها جهلاء فاسدي الأخلاق، مهما تلقوا من علوم درست لهم، لأن العبرة بمعايشة الطفل لكل هذه المعاني في أيامه الأولى مع أمه، وليست العبرة بمعلومات توضع في الأذهان بينما الأفعال لا تتفق معها، مما يخلق تناقصاً وانفصاماً في شخصية الطفل، يدعوه أن يكون عنصراً قلقاً مضطرباً إن لم يكن عنصراً فاسداً، لا خير فيه ولا أمل في إصلاحه!!
مجلة منار الإسلام – ص94