ما أكثر اللحظات، العابرة في حياة الإنسان، يتمنى فيها لو لم يلد، أو يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه ليتخلص من مواجهة بعض المصاعب التي لم تكن بالحسبان، والتي ما خٌيٍّل إليه يوماً أنَّ بالإمكان تعرضه لها أو مواجهتها... هذا الإحساس هو تماماً ما شعرت فيه والدة " ندى " في ذلك الصباح المشؤوم، فقد كانت الأم كعادتها كل صباح قبل مغادرتها إلى العمل تقوم بتنظيف البيت وترتيبه، إلا أنها عندما كانت ترتب سرير ابنتها "ندى " ارتطمت يدها بشيء صُلْب، فلما سحبته من تحت الوسادة وجدت في كفِّها صليباً خشبياً، لم تستوعب في تلك اللحظة أن ما تحمله بيدها هو صليب، بل حَسِبته عُلبة زينة، أو كادر صورة، أو مفتاح، أي شيء إلا … صليباً … إلا أنها بعد فترة من التيقُّن بحقيقة ما تحمل بين يديها رمته على السرير بسرعة البرق، وابتعدت عنه والوجوم بادٍ على وجهها، وأخذت تنظر إليه من بعيد وتعيد النظر، تنظر وتعيد النظر… إلى أن شعرت فجأة أن باب البيت يُفتح على مهل، وأحسّت بوقع أقدام " ندى " وهي تتسلل إلى غرفتها وتتجه مباشرة إلى سريرها، عندئذ أخفت الأم الصليب وراء ظهرها واختبأت خلف الباب . وعندما دخلت " ندى " إلى الغرفة ووجدت السرير غير مرتّب فرحت لكون أمِّها لم تدخل الغرفة بعد، فبدأت تبحث بسريرها عن ضالتها، ولما لم تجده أخذت تدور على نفسها بشكل هستيري، تبحث وتبحث وتعيد البحث دون جدوى، ولما مضت فترة من الزمن نادتها أمها من خلفها: هل تبحثين عن هذا ؟ ارتبكت الفتاة وقالت : لا، لا، آه ما هذا ؟ آه هذا لا شيء، لقد أهداني إياه أحدهم، وأخذته من أمها ورمته على السرير وادَّعت أنها تبحث عن كتاب تحتاجه في الجامعة اليوم . عندما عاد الوالد مساءً وأخبرته الأم بما حصل، لم يُعِر الموضوع انتباهاً وصدَّق ابنته بأن أحدهم أهداها إياه، أما الأم فما هدّأت هذه الإجابة من رَوْعها، إنها تدرك بفطرة الأمومة أن ابنتها تكذب، عيناها المرتبكتان، قلقها وهي تبحث عن الصليب، كل هذا يجعلها تخاف وتنقل شكَّها وقلقها لزوجها، ثم قالت وكأنها وجدت دليلاً يؤكد شكوكها : - انتظر، هذه ليست أول مرة أجد معها مثل هذه الأشياء، أتذكَّر أنه منذ سنتين وجدت إنجيلاً صغيراً تحت وسادتها ولما سألتها عن مصدره قالت : لقد اشتريته، عندئذ أخذت الكتاب وأخبرتها أن لا حاجة في ديننا لاقتناء كتب الشرائع الأخرى. ما رأيكَ، أليس هذا يدل أن القصة ليست حديثة، وأن لها جذوراً طويلة، وليست وليدة لحظة … اسمع، هذا الأمر يقلقني، لا، لن أسكت ! " ندى " ، "ندى " ، ونادت الأم الهلِعة بصوت عالٍ على ابنتها التي لبّت النداء بعد فترة غير قصيرة، وكأنها أدركت من لهجة النداء أن شيئاً خطيراً ينتظرها . لما وصلت حاولت الأم أن تمسك أعصابها وقالت لها : " ندى "، لقد أخبرت أباك بما وجدتُ تحت وسادتك صباحاً، وقلت له أن أحد الأشخاص أهداك إياه، "ندى" حبيبتي، من هو الشخص الذي أهداك إياه، أخبرينا نحن اهلك، أنت تعرفين خطورة مثل هذا الفعل في أوساطنا الإسلامية، ثم كيف تعرفت على هذا الشخص وأنت في مدرسة إسلامية، وأنت لا تغادرين البيت إلا إلى المدرسة أو عند رفيقاتك اللواتي أعرفهن كلهن ؟ أخبريني، يا "ندى " بالله عليك ؟ وبقيت الأم تتحايل على الفتاة فترة طويلة، والفتاة تلتزم الصمت ولا تكتفي إلا بالقول: لا أحد، إنه شخص أهداني إياه، عندئذ بدأت نبرة صوت الأم ترتفع : هل هو الشخص نفسه الذي أعطاك الإنجيل منذ سنتين ؟ وعندما لم تجب الفتاة ثارت الأم وأخذت ترعد وتزبد، وتهدد وتتوعد، وتردد بعصبية: -إن لم تخبريني الحقيقة سأمنعك عن الجامعة ! سأحرمك من الخروج من المنزل، من تظنين نفسك ؟ تريدين أن تفضحينا في آخر العمر ! واستمر صراخ الأم بشكل هستيري، وتمادى حتى رافقه ضرب مبِّرح للفتاة حيث أخذت الأم الفاقدة للوعي تستخدم كلتا يديها في عملية الضرب . - دعوني، دعوني، سأقتلها، سأقتلها.. ( رددت الأم الهلعة الباحثة عن الحقيقة المُرّة ) . -دعيها، دعيها ستقتلينها.. ( ردد الأب والإخوة وهم يحاولون إبعاد الأم الثائرة عن ابنتها ). -دعوني، دعوني، سأقتلها . - كفى، كفى، سأخبرك الحقيقة، دعيني..( هكذا قررت البنت بعد هذه "العلقة الساخنة" -التي ما تعوَّدتها من أمها- أن تعترف بالحقيقية كي توقف العنف الموجه ضدها ). فصرخت بصوت قوي وبثقة كبيرة : نعم أنا مسيحية منذ زمن طويل ! ماذا تقولين ؟ في هذه اللحظة انتقل الغضب من الأم إلى الأب وبدأ هو هذه المرة جولة الضرب الذي حصل بنتيجتها على الحقيقة الكاملة التي جاءت على النحو التالي : -نعم، أنا مسيحية، ومنذ فترة طويلة، منذ كنت أتردد إليك في محلك، منذ كانت "جوليا" تعمل عندك سكرتيرة، أتذكر " جوليا " ؟ - طبعاً أذكرها، فهي ما زالت إلى اليوم تزورني وتبيع البنات في المحل أدوات التجميل، لكن ما دخل "جوليا " بالموضوع ؟ "جوليا " يأ أبي، تلك الفتاة التي كانت تقول دائماً : أنا أحب الإسلام كثيراً، وأشعر أنني مسلمة، هي نفسها الواسطة التي عرفتني على هؤلاء الأشخاص الذين عرّفوني على الدين المسيحي، فقد عرّفتني على بنت طيبة جداً اسمها "ناتالي "، "ناتالي " تلك يا أبي تحبني جداً، وهي التي وقفت معي دائماً، فهي ما تركتني يوماً، فلقد كانت تزورني في المدرسة تقريباً بشكل يومي، وكنا نجلس لفترة نتحادث عن الدين المسيحي وتعرفني بالمسيح اسألوا ابنة عمي " منى " فقد كانت ترافقني لفترة سنتين، إلا أنها لم تستمر معي وتركتني بعد أن وعدتني أن لا تخبر أحداً . - سنتين ؟ ولكن منذ متى تعرفين هذه التي اسمها … "ناتالي " ؟ -أوه، أخبرتك منذ ثمان سنوات، عندما كنت في المرحلة المتوسطة، و"ناتالي" تراني كل يوم في المدرسة، وترافقني في بعض الأحيان إلى البيت، أنا أحبها جداً، لا أستطيع أن أنكر فضلها علي، أتدري يا أبي كنت دائماً أخبرها بمشاكلي وتقصيري في الدراسة، تصور يا أبي أنها كانت تعرف أخباري بالكامل، حتى وضعي داخل البيت، وكانت تحتضنني، حتى في الفترات التي كنت أتشاجر فيها معكم، كانت تقول لي : لا تهتمي، صحيح أن أهلك لا يحبونك، وهم يفضلون إخوتك عليك لأنهم أذكى منك وأنبه، ولكن لا تهتمي لأننا نحن نحبك، نحن أهلك وعائلتك، لا تخافي،المسيح يحبك، فعلاً يا أمي المسيح يحبني لأنه عرفني على تلك المرأة ؟ -اسكتي، هداك الله، وبعد، أكملي … أكملي … ( قالها الأب بغضب، كي يذكرها أن مسلسل الضرب ممكن أن يستمر إذا لم تكمل القصة) . -بعد فترة من معرفتي بها بدأت " ناتالي " تأخذني لعندها . -قاطعتها الأم : متى حصل هذا ؟ أنت لا تغادرين البيت بغير إذني، وأنت لا تذهبين إلى رفيقاتك إلا بإذني، وأنا أعرفهن كلهن . - لا يا أمي ، أنت تعتقدين أنك تعرفينهن كلهن، وأنا قلت لك هذا حتى تطمئني، ولكني كنت أذهب لعندها طوال هذه الفترات السابقة، لقد عرّفتني على رفيقاتها من الطائفة الإنجيلية، تصوّر يا أبي، إن هؤلاء كانوا مسلمين وتركوا الإسلام وأصبحوا نصارى، كانوا يقولون لي أن لا أمس المصحف، وأخبروني أيضاً أن الرسول ( عليه الصلاة السلام ) ليس بنبي بل هو كذاب، وأن القرآن الكريم هو من عمل الشيطان ( والعياذ بالله ) ... والدليل على ذلك أنه عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " دثروني، دثروني " كان يقول هذا الكلام لأن الشيطان يركبه … صحيح يا أبي إن لديهم أدلتهم …وكانوا يدرِّسونني الإنجيل ويعطونني الكتيبات الصغيرة كي أقرأها، وكانوا دائماً يوصونني أن أخفيها عن أعينكم، لهذا لم تشاهدوا أي أثر من هذه الكتب في الفترة الماضية، ولكن للأسف لقد نسيت الصليب بعد صلاتي بالأمس . -لا تتفوهي بهذا الكلام … اسكتي … وتابعي القصة . -بقينا على تلك الحال فترة طويلة شعرت فيها بمميزات الدين المسيحي، وآمنت بهم وبعقيدتهم، ولهذا يا أبي، اضربني، افعل بي ما تشاء، احبسني … امنعني عن المدرسة … ولكنك لن تستطيع أن تبعدني عن مسيحيتي، لن تفلح، لن تفلح … وانطلقت الفتاة كالصاروخ إلى غرفتها، وأقفلت الباب وراءها . عندها أجهش الأب بدوره بالبكاء وأخذ يقول بحسرة وألم : أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. يا رب … ما هذا البلاء الكبير … يا رب كيف أتصرف … لقد وضعت ابنتي في كبرى المدارس التي تُعدُّ إسلامية … يا رب لقد راقبتها وراقبت تصرفاتها خوفاً من أن تلحق بالتيار الإسلامي المتزمت … وها هي تقع في أيدي هؤلاء الأعداء ... يا رب … أجرني في مصيبتي .