إصلاح عيوب النفس

الناقل : heba | المصدر : www.muslema.com

ان المحاسبة طريق الصلاح، والاشتغال بتقويم النفس سبيل الإصلاح، والمحاسبة والتقويم يتطلبان عزيمة ومثابرة وجد ومصابرة، ومن اشتغل بما لا يفيد انصرف عمّا يفيد، والأمانة عظيمة والمسؤلية جسيمة والعمر قصير وأعظم الربح حفظ الوقت، وخير الغنيمة محاسبة النفس.

 وفي هذا الزمن تكاثرت المشغلات وتكالبت المغريات والملهيات، فزاحمت الواجبات ونازعت الأولويات، ومن الغريب في طبائع النفوس أنها تتلذذ وتسترسل في الخوض فيما لا يفيد وتقطيع الوقت فيما لا ينفع، بل ما أسرعها في تتبع العورات والاشتغال بالعثرات والانصرا ف إلى النقد غير البناء، ولو تأملت وتفحصت لرأيت وأدركت أنه لا يهتم بالصغائر إلا الصغار ولا يفتش عن المساوئ إلا البطّالون.

إن كثيرًا من مشكلات الأمة ومآسيها والناس وآلامها ليست في شؤون السياسة ولا في قضايا الاقتصاد ولا في تسلط الأعداء ولكنها في المسؤولية الخاصة على كل نفس. {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]

 وفي هذا كله -عباد الله- تأملوا هذا الحديث العظيم فهو مقياس الأدب ودليل الورع ومنهج المحاسبة ومظهر التقويم والتقوى؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه) رواه أحمد في المسند ومالك في الموطأ والترمذي وابن ماجه.
 قال أهل العلم: هذا الحديث أصل عظيم من أصول تأديب النفس وتزكيتها، وقد أعده بعضهم ثلث الإسلام ولقد قالوا: اجتمع فيه الورع كله.
 
لماذا عبادالله؟
 لأن ترك ما لا يعني لا تقوى عليه إلا القلوب السليمة والنفوس الزاكية، نفوس تنطوي سرائرها على الصفاء، فأصحابها في راحة والناس منهم في سلامة.

 دخل رجل على أبي دجانة -رحمه الله- وهو في مرضه ووجهه يتهلل ويقول: ما من عمل أوثق عندي من شيئين لا أتكلم فيما لا يعنيني وقد كان قلبي سليما
 ويقول الإمام مالك -رحمه الله-: لايفلح الرجل حتى يترك ما لا يعنيه ويشتغل بما يعنيه فإذا فعل ذلك يوشك أن يُفتح له قلبه.
 ويقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: كم ترى رجل متورع عن الفواحش والذنوب ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي بما يقول وربما أوبق نفسه

 عباد الله: إذا  حسن إسلام العبد تجلّى ذلك وظهر في الابتعاد عمّا لا يعنيه من الأقوال والأفعال فضلا عمّا لا يعنيه من المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات مما لا تتعلق به حاجاته ويحفظ عليه وقته ويجمع له أمره ومهماته.
 وإن من أولى ما تجب ملاحظته ومراعاته في إدراك ما لا يعني شهوة الكلام وفضول التصنت والاستماع، فكم من مجالس عقدت وولائم نصبت وليالي قطّعت يخوض فيها أصحابها في ما لا يعنيهم ويتكلمون فيما لا ينفعهم ويستمعون إلى أمور طهر الله منها أيديهم وأرجلهم فأبوا إلا أن يلوكوها بألسنتهم ويفتحوا لها أذانهم وقد تكون موبقات الأسماع والألسن أعظم من موبقات الأيدي والأرجل (وهل يكب الناس في النار على وجوههم، إلا حصائد ألسنتهم).
 نعم عباد الله إن من أعظم الدلائل على الاشتغال بما لا يعني مدى حفظ العبد للسانه وسمعه وبصره وصيانته لكلامه وأذنه.

والكلمة في هذا الزمان اتسع ميدانها وتنوعت وسائلها فهي مسموعة ومكتوبة ومشاهدة في صحف ومجلات وإذاعات وقنوات وشبكات معلومات، في فضول كلام ولغو حديث من الخوض في أعراض الناس وتتبع عوراتهم والاشتغال بعيوبهم ومثالبهم والفرح بسقطاتهم والتلذذ بإشاعتها، ومن ذلك:
التوسع في السؤال عن أحوال الناس وأخبارهم ودواخل أمورهم والخاص من شؤنهم من غير داعِ صحيح ولا سبب مشروع.
ويزداد الأمر هلكة حين يخوض الخائض في أعراض أهل الخير والصلاح والكفاف والعفاف، ناهيكم إذا كان من مقاصده التحريش الخفي والجلي والتصنيف الظالم مع غمز وهمز ولمز واتهام في العقائد والنيات.
 
من الاشتغال بما لا يعني -معاشر المسلمين-:
تكلم المرء فيما لا يحسنه ولا يتقنه ولا يعلمه مما ليس داخلاً في تخصصه وخبرته وما ليس من مطلوباته ولا من شؤونه.
كيف وإذا كان هذا المنسوب للناس من مسائل الخلاف؟
 ما بعث في الخوض عند هذا المبتلى إلا نوازع الطيش وحب الغلبة والرغبة في التعالي وانتقاص الآخرين والحط من قدرهم مع ابتغاء التصدر والتعالم وصرف الأنظار.

 ويزداد الأمر بلاء إذا قاد ذلك إلى المشاكسات والملاسنات والدخول في المسائل الشخصية ونشر قالة السوء وبث الشائعات والأكاذيب والملفقات والأخبار المفتريات ثم دخل في دائرة التخمينات والظنون والتكهنات والاتهامات { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}. [الحج: 8]

 معاشر الأحبة:
لو سكت من لا يعرف لقل الخلاف. والسكوت في موضعه صفة الرجال والكلام في مناسبته من أشرف الخصال.

 ومن الاشتغال بما لا يعني، الإفراط في تتبع دقائق الأخبار والأحوال وتفاصيلها وتحاليلها بما لا تفيد ولا يفاد منها، والعاقل الناصح يستفتي بذلك قلبه ويلتفت إلى صلاح شأنه.
 ومن مسؤوليات المسلم ولاسيما طالب العلم والمثقف والمفكر أن لا يغرق في مستجدات هذا العصر وثانوياته، وليحرص وليمحص فيما يقرأ ويسمع ويشاهد.
 فكل مسألة أو أمر لا ينبني عليها عمل مفيد فالخوض فيها من التكلف والدخول فيما لا يعني، فليحذر الإفراط في تضييع الوقت والجهد والمال.

 عباد الله: الاشتغال بما لا يعني يورث
- قلة التوفيق
- وفساد الرأي
- وخفاء الحق
- وقسوة القلب
- ومحق بركة العمر
- وحرمان العلم
- وقلة الورع.
 (وربكم قد كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال)، يقول سهل التُستَري: من تكلم فيما لا يعنيه حُرم الصدق.

 ويقول معروف: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل.
 توفي رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله سلم- فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله سلم-: (أوَ لا تدري فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه) حديث صحيح الإسناد.
 الاشتغال بما لا يعني يقود إلى التثاقل عن الطاعة والتقصير فيما ينفع ويصرف عن معالي الأمور وبواعث أعالي الهمم.

الاشتغال بما لا يعني هروب من المسؤولية وأمارة عجز وكسل وضعف الصلة بالله وغفلة عن سننه وجهل بالمصالح، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما حرم الله وكفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع.
 وبعد يا عباد الله فالمسؤليات أكثر من أن يتسع لها عمرك القصير وأقصر من أن يصرف فيما لا يعني.

 وترك ما لا يعني -حفظك الله- حفظ للدين وزكاء للنفس وتربية على الجد فلا تضيع نفيس أنفاسك ولا دقيق دقات قلبك فيما لا يعني { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114].

 نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.