المرأة والمقاطعة

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : د. احمد نوفل | المصدر : www.muslema.com

بقلم: د. احمد نوفل

قبل ثلاثة عشر عاماً اجتمعنا في الدوحة في رمضان: الشيخ الغزالي رحمه الله والشيخ صلاح ابو اسماعيل رحمه الله، وانا معهم وكنا نسهر حتى السحور، الشيخ صلاح وأنا، وينام الشيخ الغزالي بعد التراويح مباشرة، وكان مما اتحفنا به الشيخ صلاح، هذا الجبل من العلم، والنموذج الفذ على الخلق والاعتدال، كان مما أمتعنا به من حديث: حديثه عن تخرجه من الأزهر، واشتغاله بالدعوة في منطقة من ريف مصر البحيرة إن لم أنس ، يقول: ومضت على هذا الحال شهور، لم ألمس أثراً لدعوتي. فقلت: فلأتوجه بدروسي إلى النساء، فهن الزوجات والأمهات، فإذا التزمن غيرن معهن الرجال. قال: ونفذت ما عزمت، فما مضى بضعة أسابيع حتى كانت البلدة قد تغير وجهها، وبدا الالتزام ظاهراً عليها.
استحضرت هذه القصة في مطلع حديثي إلى المرأة العربية والمسلمة لتأخذ موقعها الفاعل والمؤثر في حملة المقاطعة..

وفي بريطانيا عندما رفعت محلات البقالة سعر القهوة قاطعت النساء الإنجليزيات القهوة، وهذا قبل عدة سنين، فرضخت الشركات، وبدأت المساومات، فقالت الشركات: نعيد السعر إلى ما كان قبل الرفع، فأبت النساء أن يكسرن المقاطعة إلا إذا خفضت الشركات. سعر القهوة عما كان قبل الرفع، وأخيراً رضخت الشركات وكذا حصل عندما ارتفعت أسعار اللحوم، وفي كل مرة يكون الدور المؤثر للمرأة.

أقول:
واليوم، وقد أسفرت أمريكا عن وجهها القبيح، وصرحت بالمخفي أوضح تصريح، وأعلنت علينا الحرب، وساندت عدونا، وأوقعت فينا الآلاف بين قتيل وجريح.. بل إنها تقتل في العراق كل ست دقائق طفلاً بمنع الدواء والحليب والغذاء، في حصار ظالم لم يسبق له مثيل في الجغرافيا ولا في التاريخ. أفلا يدفع المظلوم عن نفسه ويرد على الحصار بالحصار؟
اقول:
واليوم، وقوى الشر والاستكبار قد شمرت عن ساعدها وساقها، وقامت تعيد استعمار بلادنا لتعيد عجلة الحياة والتاريخ قروناً إلى الوراء، في مثل هذه الأيام الحاسمة المصيرية، ومعركة الوجود دائرة، بل مستعرة، والأمة كالطفل يحاول أن يحبو أو يبتدئ المشي في طريق النهوض، لتقابله قوى الطغيان الخارجي، وقوى التبعية الداخلية لتحرمه من محاولات المشي التي بها يضع رجله على طريق الاستقلال عن عالم الكبار. في مثل هذه الأيام الفاصلة التي هي من منعطفات التاريخ، ينبغي أن نشد العزم، ونشحذ الإرادة لنصنع تاريخنا، ويومنا، وغدنا..

من هنا نخاطب أختنا، المرأة العربية، والمرأة المسلمة، لا باعتبارها نصف المجتمع، ولكن باعتبارها المجتمع، إذ هي نصف المجتمع الذي يربي نصفه الثاني..

نقول لأختنا:
أنت في المعركة الطرف الأفعل والأقوى، فأنت التي تمسكين الأسرة من أولاد وبنات،
وأنت التي تمسكين موازنة البيت، ونفقات العائلة.. فإن أنت غرقت في الانجرار إلى حمأة الاستهلاك وأُترفت، وتوسعت في النفقات وتبجحت، ضاع المجتمع إرادة واقتصاداً وصموداً وأجيالاً. فيا أختاه أنت بعد الله أملنا في نجاح هذه الحملة، تسلحي أولاً باليقين والإيمان الواعي بهذا الدين، وحرري ولاءك، فإياك أن تصرفيه لأعداء الدين. ثم انتمي لأمتك، واستشعري ملء قلبك الاعتزاز بها والثقة بماضيها ومستقبلها، وما الحاضر الحالك الحائر إلا سحابة صيف ظلها عما قليل عابر.. وقلصي من الكماليات والإغراق فيها، اختصري مصاريفك إلى الحدود الدنيا. بثي روح الوطنية في أبنائك وبناتك.

أختاه..
أيتها الأمل، سيقول لك المخلفون والمثبطون:
هل تعلمين ما هو اقتصاد أمريكا؟ إن اقتصاد امريكا من الفخامة بحيث لا تهزه مقاطعاتنا ولا تضره امتناعاتنا، ولا ينفعه شراؤنا
فتسلحي بالمنطق الذي يرد على كل انتهازي مستفيد، ووكيل لأمريكا ومروج لمصالحها وثقافتها. وذلك بأن نعلم علم اليقين أننا إن لم نضر أمريكا - وهو غير صحيح- فإننا ننتفع نحن بأن نكسب إرادتنا، واستقلالنا الاقتصادي.

ثم هل يعقل أن تقف منا أمريكا كل هذه المواقف ولا تصلها رسالة انزعاج من أي نوع؟ وهل في أي منطق في الأرض يقبل أن تحاصر أمريكا شعبنا في العراق والسودان وليبيا وفلسطين.. ولا ندري من تحاصر غداً، ثم لانفكر في مقاطعة بضائعها؟
اجعلي مسألة المقاطعة جزءاً من حياتك، حوليها إلى ثقافة معاشة وجزءاً ثابتاً من الممارسة وتقاليد البيت، ينشأ عليها الصغير ويعيش عليها الكبير.

لقد تأخرنا عن واجبنا عقوداً طويلة، وأن التدارك خير من التمادي في الغي. واعلمي، أختاه، أن الكَذَبَة الذين يروجون ما يروجون من أننا أهون من أن نضر امريكا، وأن أمريكا أعظم وأكبر من أن تتضرر بنا وبمقاطعتنا ومنا ومن انفعالاتنا، اعلمي أن هؤلاء كذبة إلى حد الخيانة..
من قال إن ألف مليون مسلم لا ينفعون ولا يضرون؟ ومن زعم أن ثلاثمئة مليون عربي من بينهم لا قيمة لهم ولا وزن؟ اعلمي أن الإمارات وحدها تنفق على مستحضرات التجميل وحدها قرابة الخمسة مليارات من الدولارات.

فهل كل هذه النفقات لو وجهت لا تؤثر في مجرى الاقتصاد العالمي؟ ثم لماذا تنزل قيمة الدولار ويرتفع اليورو كل يوم؟ ولماذا انهالت الإفلاسات على الشركات الأمريكية والفضائح الاقتصادية؟

هؤلاء المثبطون الناشرون اليأس فينا ما أصدق فيهم قول ابراهيم طوقان:
واسلك بهمتك السبيل ... ولا تقل كيف السبيل
ما ضل ذو أمل سعى ... يوماً وحكمته الدليل
كلا ولا خاب امرؤ ... يومـاً ومقصده نبيل
وقوله:
أضحى التشاؤم في حديثك بالغريزة والسليقة
مثل الغراب نعى الديار وأسمع الدنيا نعيقه
تلك الحقيقة، والمريض القلب تجرحه الحقيقة
أمل يلوح بريقه فاستهد يا هذا بريقه
إن المسألة فوق ما هي اقتصاد، إنها ثقافة، ونحن نريد أن نغير الثقافة من ثقافة الهبوط إلى ثقافة النهوض. من ثقافة التبعية للاستعمار ثقافياً واقتصادياً وسياسياً إلى ثقافة العزة والسيادة والاستقلال، ما هذه الاستقلالات العربية إذا كان اقتصادنا مربوطاً بهذا العمق والشد الوثيق إلى انحطاط ثقافي هو تسميم غذائي. فهذه المأكولات والمشروبات، السجائر ضرر كلها، فما وجه الاستماتة في الترويج لها والدفاع عنها؟

آن أن ندعم استقلالنا بتدعيم اقتصادنا، واستقلال ثقافتنا. لا يعقل أن يملأ العقل بالثقافة الامريكية، والمعدة بالمأكولات الامريكية، ويكسى البدن بالجينز الامريكي وفي اليد علبة سجائرهم، ثم هم يدعمون ذابحنا في فلسطين، ويذبحوننا في العراق، هل يعقل هذا؟

وإذا كان جواب إحدى قناصل أمريكا قولها عندما سئلت: لماذا تدعم ماكدونالد إسرائيل بمبيعاتها في يوم كامل؟ فتقول: مالها وهي حرة فيه.

ونحن يا حضرة القنصل نجيبك بجوابك: مالنا ونحن أحرار فيه لا للتبعية لكم بعد اليوم. لا لسجائركم ولا لبرغركم ولا لمشروباتكم التي ليس لنا فيها وطني إلا الماء. ولعل لنا عودة إلى هذا الموضوع، ونختم اليوم بما قال الشاعر خليل رقطان:
أخي ما قيمة الإنسان أن يحيا على الهون
وأن يرضى من الدنيا بعيش غير مضمون
فهذا الخبز أمريكي وذاك الجبن سكسوني
وقوله:
أنا من هناك فكيف أحيا هكذا في الكون عالةْ؟
ويظل مأكلي الفتات ومشربي هذي الفضالة؟
وأظل مرتقباً مصيري إذ تقرره الحثالة
لا كان يا دنيا الذي لم يسمع الدنيا نضاله

المصدر الشبكة النسائية العالمية