تعرفوا إلى الله -عز وجل- في الرخاء يعرفكم في الشدة، تعرفوا عليه بطاعته رغبة في ثوابه، وبالابتعاد عن معصيته خوفًا من عقابه، إن رخاء العيش وطيب الحال من النعم التي تستوجب الشكر على عباد الله لله -عز وجل-، وتستلزم القيام بطاعة المنعم الجواد لمن كان له قلب، وإن الإنسان في حال الرخاء، في حال الصحة، في حال الآمن، يستطيع أن يعمل ما لا يمكنه القيام به في حال الشدة؛ لأنه معافى في بدنه آمنٌ في بلده، مترفٌ في جسده؛ لكن هذه الأحوال لا تدوم، فقد تعقبها شدة فيصبح مريضًا بعد العافية، وخائفًا بعد الآمن، وجائع بعد الشبع والترف.
فإذا كان العبد متعرِّفًا على الله -عز وجل- في حال الرخاء، عرفه الله تعالى في حال الشدة، فلطف به، وأعانه على شدائده، ويسَّر أموره، قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}[الطلاق:2: 4]
ولقد ضرب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأمته مثلًا على ذلك فيما قصَّه علينا في نبأ ثلاثة ممن كانوا قبلنا: (انطلقوا فآواهم المبيت إلى غار، فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت الغار عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي طلب الشجر يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أحدًا، فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي حتى استيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إني كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلًا، وقال الثاني: اللهم انه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما كان يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها، فامتنعت مني حتى ألمَّت بها سنة من السنين – احتاجت- فجاءتني ، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قعدتُ بين رجليها، قالت: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فقمت وانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة إلا إنهم لا يستطيعون الخروج منها، وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أُجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحدٍ ترك أجره وذهب، فثمَّرت له أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال يا عبد الله: أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من الإبل، والبقر، والغنم، والرقيق، فهو لك من أجرك، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا استهزئ بك فأخذه كله واستاقَه ولم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون).
فالأول من هؤلاء قد ضرب مثلًا عظيمًا في البر بوالديه، بقي طوال الليل والإناء على يده، لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله وماله، ولا أن ينغِّص على والديه نومهما حتى طلع الفجر.
وأما الثاني فقد ضرب مثالًا بالغًا في العفة الكاملة؛ حيث تمكَّن من حصول مراده من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه؛ ولكن لم ذكَّرته بالله -عز وجل- تركها، وهي أحب الناس إليه ولم يأخذ شيئًا مما أعطاها.
وأما الثالث فضرب مثلًا في غاية الأمانة والنصح؛ حيث نمَّى للأجير أجره، فبلغ ما بلغ، وسلَّمه إلى صاحبه، ولم يأخذ على عمله شيئًا، فكان من جزاء هذه الأعمال الصالحة التي تعرفوا بها إلى الله في حال الرخاء أن الله عرفهم في حال الشدة، فأنقذهم من الهلاك.
وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم القيامة، من تعرَّف إلى ربه حال الرخاء عرفه في حال الشدة، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: ( تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ).
إن الشدائد أنواعٌ منوعة، وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شدة الموت عند فراق المألوف، واستقبال المخوف، فإذا كان العبد ممن تعرَّف إلى الله في حال صحته وحياته، عرفه الله تعالى في حال شدته عند وفاته، فهوَّن الأمر عليه، وأحسن له الخاتمة، وانتقل من الدنيا على أحسن حال.
أما إذا كان معرضًا عن الله، لم يزده الرخاء إلا بطرًا وبعدًا عن الله تعالى، فحري بأن يكله إلى نفسه، ويتخلَّى عنه حال الشدائد فتحيط به سيئاته، ويموت على أسوأ حال وأخبث مآل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ *وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
الضياء اللامع من الخطب الجوامع
لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-