الزلزال

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : غسان حنا | المصدر : www.awu-dam.org

 

الزلزال (1)‏

المدينة الساحلية تتابع النشرات المصوّرة للزلازل التي تفرغ طاقاتها المدمّرة هنا وهناك دون حسابات مسبقة أو استنتاجات لاحقة.. جاء نصيب البلد المجاور فادحاً.. مشاهد مروّعة لقرى وأحياء تحوّلت إلى تلالٍ من الركام... النجدات تتوافد من الحكومات والهيئات الخاصة.. سباق محموم مع الموت للظفر بمحاصرين تحت الهدم مازالوا على قيد الحياة.. الكلاب المدرّبة ترشد المنقذين إلى رائحة إنسانيّة قد تنقطع بين لحظة وأخرى.. الأوضاع السياسيّة المحتقنة تجد لها متنفساً في زحمة المبادرات الإنسانية المتفلّتة من أدلجة السياسة.. وزئير المنازعات أمّا الأضرار فتقدّر بالمليارات والخشية من وقوع زلازل أخرى ماتزال قائمة على ذمّة مراكز الرصد وتقارير الخبراء... الصحف في البلد المنكوب تشن حملة عنيفة على المقاولين ومكاتب السماسرة، وتجّار البناء.. سكان المدينة الساحلية يغرقون في أحاديث الزلازل لأنّهم لا يجهلون أبداً أنّ مدينتهم هُدِمَتْ وأعيد بناؤها على مراحل متلاحقة. وربما تقف الآن على الدور.. ليس كما يقف المواطنون على الدور أمام الأفران وشركات التجزئة.. ليؤّمنوا حاجاتهم... وإنّما لتواجه قدراً غامضاً.. مفتوحاً على كلّ الاحتمالات.. الرجلُ المنكوب بزوجته يعلّق بلهجة ملتاعة: كلّ مايحدث في الكون من كوارث من فعل النساء..... من يصمد أمام النكد... والمطالب المنهمرة.... وتأليب الأولاد... ومنافسة نساء الحيّ...؟....‏

ثمّة كتاب صغير عن تاريخ المدينة بات الآن متداولاً أكثر من أيّ وقت مضى... ومن المرّجح أن ما كتب فيه عن الزلازل التي ضربت المدينة قد حفظ عن ظهر قلب وصُدّر بالتواريخ المحدّدة.. تلقّت المدارس والمؤسسات توجيهات صريحة بتخصيص حصص تثقيفية. بما يكتنف عالم الزلازل من أسرار وحقائق.. وركّز المحاضرون على الوسائل والكيفيّات الكفيلة بإزالة الخسائر الحياتية و المادية إلى الحدّ الأدنى.. ضحك أحد السامعين عالياً وهو يقول: كم أتمنّى أن يكون الزلزال القادم ذكيّاً، وحازماً يلتهم مَنْ نحن بحاجةٍ ملحّة إلى غيابهم ويهدّم الجدران التي تضغط على رئة الأرض ومسافاتها.. فترغمها على الاختناق التدريجي... كلّ هذا يحدث والكرة بين أقدام الأولاد في الحديقة المواجهة لم تهنأ بدقيقة واحدة من الهدوء... والأهداف تتالى وكذلك الكدمات.. أما فهيمة الجارة التي لا يخلو منها أيّ بيت فتكشف في فنجان جارتيها: لمياء.. وجاهدة فتبشرّ الأولى بأيّام مفرحة... وتحذّر الثانية من نوايا الأقرباء ومكائدهم....‏

تبقى المدينة في أهلها لأنّ الزلازل تأتي وتذهب... ولا يمكن انتظار الموت في أيّ زمانٍ أو مكان. لذلك يقلب الشيخ عارف نظره بين أولاده وأحفاده ويوصيهم بصوتٍ مضرّج النبرات : ليمضِ كلٌّ إلى عمله فقد يأتي الزلزال فلا يجد أحداً إلاّ أنا... فيضع يده بيدي، ونمضي معاً... مهما غيّرنا مجرى النهر، سيبقى نهراً.. الحياة يا أبنائي تنتظركم.. بل تتقدّم نحوكم....‏

فلا تتركوا الكارثة تسبقها..‏

*****‏

الزلزال (2)‏

الناس في المدينة الساحلية يتابعون ملاحقة الزلزال في البلد المجاور على حدّ ما يقوله المثل السائر: إذا كان جارك بخير فأنت بخير أيضاً.. لكنَّ مضمون المثل في مثل هذه الأوضاع معكوس: فالشر الذي أصاب جارك يلوّح لك بقبضته الساحقة.. وهذا الشر ليس محصوراً بلصّ خطير يتعاون الجميع لتضييق الخناق عليه واعتقاله: أو بموجة حرِّ شديد نلوذ بالماء والكهرباء واللبن والمرطبات لتعديل حدّتها... إذن، لا مهرب من الاعتماد على التقارير والملاحق الصادرة عن مراكز رصد الزلازل والهزّات الأرضية... وهي بدورها مثار جدلٍ وتفسيرات متعدّدة...‏

لم يغبْ المنجمّون والفلكيون عن مسرح الأحداث. بل وجدوا ظروفاً مثاليّة لتسويق آرائهم وقراءاتهم الخاصة.. لقد دخلوا كتبهم ومصادرهم وأغلقوا باب القدر عليهم وخرجوا بنتائج مشروطة.. فإذا حدث كذا حدث كذا وإذا لم يحدث هذا لن يحدث ذلك.. ووصلت أبخرتهم إلى الغيم ولم يظهر ماردٌ أو شفيع يحذّر أو يبشّر... أضحى أيُّ اهتزاز عفويّ لحركة عادية رعشة الصخور المتأهبّة للانفلاق.. تساؤلات مريرة كالرصاصات الطائشة تذهب في كلّ اتجاه....‏

طالما أنَّ هذه المدينة هي إحدى نقاط الضعف في القشرة الأرضيّة فلم أُعيد بناؤها في المكان ذاته...؟!‏

هذه العمارات بطوابقها المتراكبة أليست لو وقع المقدور نعوشاً مسبقة الصنع....؟!‏

وَيلَهُمْ من الله.. إنَّ الحديد المصنوع في أساسات هذه العمارة لا تكفي لسرير طفل..‏

البلدية.. المجلس البلدي.. أين هو....؟.. ما دورهُ..؟ إذا كان جاهلاً بشؤون مدينته فهذا مصيبة... أمّا إذا كان عارفاً وتجاهل فهذا مصيبة المصائب.. أين التشدّد في منح رخص البناء... ومراقبة التنفيذ للتقيّد بشروط السلامة ممّا قد يحدث؟....‏

ودون القياس على المنطق والموضوعيّة تأتيك بعض التعليقات على قدر مقبول من تلطيف الأجواء: لا يموت الإنسان إلاّ في يومه، ماذا تقدّم لنا هذه الحياة إلاّ المصائب.. فلتذهب إلى جهنّم في أي وقت تريد، الله.. لا يفرّط بأبنائه... دعوكم من الثرثرة الفارغة.... الزلازل غضب الله على ما اقترفه البشر من شرور ومآثم...‏

أرأيتمْ...؟ حتىِ الطبيعة لا تستقرُّ على حال، ولا تستسلم للركود، وليست مستعدّة لتحملنا أكثر من اللزوم... إنّها في حركة عضوية دائمة... لا ترحم أحداً حين تقرّر تحرير قوانينها ونواميسها من قيودنا وعبثنا وتجنّياتنا..‏

لعلّ مناخ ماقبل ومابعد الكوارث وسط مناسب للتأملات المصيرية..وفتحة اعتراضيّة للنظر إلى الأعماق.. التي غمرها الاسترخاء بطبقة هلاميّة‏

من روتين الحياة المُتغافل..المدينة تهجع دون أن يكفَّ عقلها الباطني عن نسيج الصور والهواجس المنسولة من ذاكرة الزلزال المتربّص خلف كلِّ سكنة أو حركة... تهجع المدينة دون أن تغلق عينيها تماماً.. تهجع وهي تحاول قياس الزمن بالمواليد الجدد.. بتعاقب الليل والنهار.. بدورة الفصول... بالوفيّات بعدد الأثرياء... بالسّيارات الحديثة تمزّق وجه الشوارع.. وتزعق في المنعطفات كجنٍّ علىجثّة يمرحون.... وتطرح الزمن، بالأوراق المتساقطة على قارعة النسيان... بأصوات الباعة الذين يجرّون عرباتهم أمامهم وأقدارهم خلفهم... يبحثون عن أيّة التفاتةٍ من عابر سبيل تشي برغبته في الشراء... بمن ينتظرون طوال أعمارهم القصيرة قدراً لايأتي.‏

في الشرفة المطلة على البحر.. كانت الأمواج الدمثة قد تجاوزت كلَّ الحواجز والارتفاعات، واستقرّت في الجسدين المتحاورين بلهفةٍ متصاعدة وبإشارة غامضة من غيب الأعماق حضن الشاب حبيبته واستسلما لزلزال سمفونيّ...‏

الزلزال (3):‏

المدينة الساحلية تعاقب ذاكرتها المثخنة بالبرامج الترفيهيّة.. متعالية علىمخاوفها... بانفعالٍ مصطنع تجهدُ ليظهر طبيعيّاً.. كعاشقةٍ تتحاشى الإعلان عن غيرتها وهي تئنُّ من نار الأحشاء.. نزهات الجبل والبحر قد تزايدت وكلُّ يتلمّس موضعاً قد يأوي إليه في يوم ما.. المدارس خصّصت بعض الحصص لتدريب التلاميذ والطلاب على كيفيّة التصرّف إبّان الزلزال.. في حديقة أحد المشاريع السكنية افترش العشب الشاحب رجلٌ مسنٌّ وحفيده.. قلَّب الصبيُّ النظر النبيه في هيكل جدّه وأخاديد وجهه، ثمَّ مدَّ كفّه الصغيرة إلى تلك التضاريس المتهدّلة متفّحصاً برؤوس أصابعه طبيعتها.. فحضرَ على الفور.‏

السؤال التالي:أهذا ما فعله الزلزال بك يا جدّي...؟! شعر الجدُّ أنَّ كفَّ الصغير قد صفعته فأيقظته من غفلةٍ ساهمة...‏

ـ ماذا قلت يا جدّي...؟ نعم إنَّه الزلزال يا بني.. ضربني في كل مكان وكلِّ زمان.. وأقسى مافي الأمر أنَّه ضربَ ولم يقتل...ولو أجهز عليَّ لأراحني... نعم يا جدَّي إنَّها الحياة.. واسترسل الرجل في تداعياته الرماديّة وذكرياته القانية عاتباً وشاكياً ورافضاً ومستدركاً...ولم يصحُ إلاّ علىصدمة تلقّاها على رأسه من كرة حفيده الذي طرح السؤال ومضى دون أن يأبه لما سيكون عليه الجواب.‏

الاضطراب صفق بعرض الحائط كلَّ الأوجه المستعارة لإخفائه.. الليل هو الليل مهما توسَّلت الشموع وعربد الساهرون.. القمرُ هو القمر ولو وضعه الشعراء في خزائن الصور والرموز.. واقتسمه العشّاق فيما بينهم... والمدينة ليست هي المدينة السابقة.. ثمّة إجراءات تلقائية طارئة يقوم بها الناس:‏

تحويل الأموال والأرصدة / نقل الأثاث الفاخر والتحف الفنية إلى أمكنة آمنة تصفية بعض الديون المستحقّة أو تعليق وفائها إلىوقت لاحق.. حشود إضافية في دور العبادة.. تأجيل عقود الزواج أو مباشرة إجرائها..‏

نقل العواطف والمشاعر من صقيع الإهمال والترفّع إلى هجير التودّد والمطارحة الوجدانية... والأحاديث العاطفية العابقة بالرقّة والاحتفال.‏

الاستعلام الدقيق عن مواعيد إقلاع الطائرات وهبوطها في العواصم العربية والعالميّة في الصباح علمنا أنَّ الجارة وضعَتْ طفلاً في الشهر السابع...‏

الزلزال (4):‏

حين راهن رجل ريفيٌّ أنَّ قضيب الرمان أنفذ بصراً في الكشف عن المياه الجوفيّة من الآلات الحديثة أنهالت عليه عبارات السخرية والاستهجان ممّن لا يؤمنون إلاّ بالعلم ومخترعاته، وحين نجح رهانه وتدفّق الماء من البئر المحفورة غزيراً ردَّ الدين لهم بأن سكب على كلٍّ منهم دَلْواً من المياه الموحلة... جابر هذا الذي ربح الرهان ليس من ذوي العقول المتحجرة... وهو أوّل من استقدم إلى القرية جهاز تلفزيون.. ولا يتوانى عن متابعة كل المسلسلات والبرامج التي تعرض فيه وبخاصة البرامج المختصّة بعالم الحيوان شاهد يوماً تحقيقاً مفاده أنَّ الطيور المهاجرة.. وبعض فصائل الحيوانات تشعر بالارتعاشات الأرضيّة الأولى المنذرة بوقوع الزلزال فإذا هي مضطربة تنفر في جماعاتٍ وقطعانٍ وتشرع بالرحيل ما الذي يمنع أن يكون حماره من هذه الطليعة اللاقطة للذبذبات المنداحة من الأعماق.. فليراقبْ كلٌّ حماره.. هذا هو التوجيه الوقائي الذي أوصله إلى كلِّ من يقتني حماراً في القرية.. أمّا حماره فأضحى لديه أثِيراً... وأضحى نهيقه قطعة غنائية غنيَّة بالرموز والإيحاءات... جاره استأذن بقرته في البقاء إلى جانبها ومراقبتها بكلِّ الجوارح... هذا السلوك الجديد أبهج أحد الشباب المدافعين عن البيئة والحيوان فزار أصحاب البهائم المحترمة وهنأهم واحداً واحداً ورفع توصيّة بتكريمهم.. رفع جابر عينيه إلى السماء ضارعاً.. ياربُّ.. كلّ هذا يحدث بسبب الخوف على الحياة والممتلكات... لابأس.. إذا حدث وأنقذ حماري حياتي وحياة العائلة.. فربّما انتسبت إليه.. حانت من جابر التفاتة إلى بيته المتصدّع الجدران.. هزّ رأسه وقال: سوف أبني منزلاً جديداً ولكن بعد أن يمر الزلزال.‏

الزلزال: (5)‏

أخذ صالح يمشّط بعينين لاهبتين القصر المنيف الذي يبعد عن بيته بضع مئاتٍ من الأمتار.. يمشّطه من اليمين إلى اليسار... ومن الأعلى إلى الأدنى.. ثبّت نظره بالسطوح القرميدية المائلة، والمداخن الساهمة.. لم يوفّر الجمل والمقاطع الشجرية المدوزنة في مدارج الحديقة وممرّاتها الأنيقة.. السور الذي يحيط بالقصر يتيه برخامه المرصوف وفق أشكال هندسيّة بديعة.. تبدو المصابيح الملوّنة على عاتقه كالنجوم الفخريّة لقائد الجيوش في دولة عظمى الزجاج الملوّن على الأبواب والنوافذ يشبه حرّاساً ملائكيّين بتهذيبهم الشّفاف... والأعشاب المحظوظة في المساطب المنتشرة حول القصر تكاد لا تسمع وقع الأقدام التي تدوسها.. وكم اختلست من قبلات ناعمة لأقدام رقيقة حافية.. حاضنة القصر تتضمّن مختاراتٍ من حيواناتٍ أليفة ذات نسب دمويّ عريق: كلبان للصيد وللمتعة/ غزالان بقرنين ودونهما/ حصانان للسياحة والمسابقات... روى له أحد الذين عملوا في حديقة القصر أنَّ سيّده يهوى مصارعة الديوك وهو يقتني أصنافاً شهيرة منها.. وأبدى أكثر من مرّة رغبته في أن يكون مصارعاً للثيران.. وقد رآه يوماً يخرج من حائطِ جانبيّ ليس فيه مايدلُّ على وجود باب.. أمّا سيّدة القصر فلها أمزجة مختلفة كالسباحةِ عاريةً في منتصف الليل.. دون إيصاد الأبواب المشرفة على حوض السباحة.. إشعال الموسيقى الصاخبة وإيقافها فجأة بموسيقى حالمة ارتداء أزهى ثيابها والتجوّل بين العمال وهم يقلّمون ويشذّبون.. قيادة السيارة السوداء وارتياد القرى الفقيرة القانعة ورمي النقود من النافذة دون التوقّف.. إطفاء أنوار القصر والاستبقاء على أنوار غرفتها الخاصة فتبدو كأنَّها مقصورة متوهِّجة معلّقة بين السماء والأرض..‏

صالح ينتبه أنَّه قضى ساعتين كاملتين من التأمل بإرادة مسلوبة،، وأنّه نسي في رحلته الخياليّة أولاده وزوجته الذين ينتظرون إضافة الدسم إلى وجباتهم الهزيلة.. يتذكّر أن زوجته طالبته أكثر من مناسبة بأنْ يتودّد إلى صاحب القصر وليس إلى سيّدته علّه يحظى بفرصةٍ للعمل فيه..‏

وأنَّ مسؤوليّة إعالة الأولاد أهمُّ من الكرامة أحياناً.. ولا غفران لأبٍ يضع مصلحته فوق مصلحة العائلة.. صالح يطيل الطريق ليهتدي إلى موقف مناسب.. يطوف بنظره على السفوح المترامية وقد انتصبت فيها العمارات والمزارع وارتفعت أشجارها الخضر المرتوية كأنَّها تمسك القمم عن الترجّل والهبوط ما إنْ رسا نظره على منزلـه الضرير حتى قدحت وجدانه توصية أبيه له وهو على فراش الموت:‏

" يا ابني... يا صالح... هذا القصر مشيّد على أرضي.. فلا تقتلْني مرّتين.. شدَّ الرجل قامته إلى أعلى بنزق عارم.. وصاح بأعلى صوته.. لا تخف يا أبا صالح.. الزلزال قادم..".‏

الزلزال (6)‏

ـ يا أبا نديم من القادم إلينا أوّلاً.. الزلزال أم الامتحان؟..تندُّ عن أبي نديم ابتسامة هادئة ويحرّك إصبعه قبل أن يقول: إنهما متشابهان... وإذا كان لا مفرَّ من وقوع الاثنين فليأتِ الامتحان أوّلاً..‏

ـ يا أبا نديم.. ماجدوى الامتحان قبل الزلزال؟..‏

ـ إذا مات الإنسان ناجحاً شرفٌ له من أنْ يموت راسباً..‏

ـ في حضرة الموت تتساوى كل الأشياء..‏

ـ بل تتحددّ قيمة الأشياء الحقيقية...‏

ـ أنت رجل عجيب يا أبا نديم.. مَنْ يسمعك يظنَّ أنَّك الطالب الذي ينتظر الامتحان وليس ابنتك علياء...‏

ـ علياء ابنتي يا يوسف... ولو أنَّها ابنتك لكان موقفك من الامتحان شبيهاً ولاشكَّ أنَّ الأهل لا ينحنون إلاّ لأبنائهم كي يتسلّقوا مصيرهم ووجودهم لبلوغ الأهداف العليا.. التي يسعون إليها..‏

يسكت يوسف بتأثّر عميق.. ويسود الصمت المشحون بالمشاعر العاطفيّة.. لدقيقتين من الزمن.. فيبادر أبو نديم إلى استئناف الحوار بالاعتذار من يوسف ممّا قد سبّبه له من ألم.. ذلك أنَّ الأخير متزوّج منذ عشر سنوات ولم يرزق بولد.. ردَّ يوسف الاعتذار بأحرَّ منه لأنَّه سمح لنفسه بمناقشة قضيّة إنسانية سامية دون اختبار أو تجربة.. وغالب شعوره بذرف بعض الدموع وغلبه‏

تدفّقَتْ علياء إلى الجلسة بحيويّة الطالبة الطامحة للعب دور هام في المجتمع حَيَّتْ بتهذيب وكانت يد يوسف أسرع من يدها في ترجمة الرغبة الداخلية ...‏

بادرها والدها: استريحي يا ابنتي قليلاً.. لجسدك عليكِ حقُّ الراحة.. واستعدادك للامتحان ممتاز.. والنتيجة مضمونة بإذن الله... همَّ يوسف بإبداء اعتراضٍ على العبارة الأخيرة.. لكنَّه كتم اعتراضه وسأل الفتاة..‏

ـ يقولون إنَّ بيع الضمير في الامتحان يتمُّ بأسعار مغرية....‏

ـ ضمير أبي فوق أيّ مبلغ.. فنصف اجتهادي لي والنصف الآخر لكرامة أبي..‏

ـ ما هذه الفتاة يا أبا نديم؟ إنَّ شأنها في المستقبل سيكون عظيماً.. ولكنْ..؟‏

ـ ولكنْ ماذا أجاب أبو نديم‏

ـ مَنْ سيرعى شعورها وشعور أمثالها في الامتحان وخارجه.. قد يرغمونها على نقل الحلول والمعلومات إلى طالباتٍ معروفات.. وإذا رفضت وازداد إلحاحهم بلبلوا خواطرها.. وشتّتوا تركيزها العقلي.. وجعلوا ذاكرتها خليطاً شاذّاً من المحفوظات المتداخلة.. وعلى أقل تقدير منعوها من تحصيل الدرجات المطلوبة لبلوغ الاختصاص الجامعيّ الذي تخطّط له....‏

ـ ماذا تقول.. ارأفْ.. بنا يارجل.. علياء قادرة على المواجهة.. وذكاؤها يتجاوز كلَّ الصعوبات والمضايقات.. وهي ليست غريبة على الأحوال التي تصفها وقفَتْ علياء واستأَذَنَتْ بالانصراف.. لكنَّ والدها تمنّى عليها الردّ قبل الانسحاب.. ومرّة أخرى التمسَتْ الانصراف.. وبالمقابل تحوّل تمنَّي والدها إلى طلب بإبداء رأي على ما سمعَتْ.. قالت علياء بصوت متهدّج: سأتحوّل في الامتحان إلى لبوة كاسرة لأدافع عن تعبي واجتهادي خلال هذه السنوات الدراسية الطويلة، وأدافع أيضاً عن ضمير أبي وهناءة أخوتي.. لن يرغموني على مالا أرغب به حتّى لو قاتلت بأسناني.. واستدارت بأنفة عارمة وغاصت في كتبها وأوراقها.. امتقع وجه يوسف بالخجل من إيصاله الفتاة إلى هذا المستوى المتفجّر من الانفعال وفرك كفّيه بتأزّم بالغ.. ونهض معتزماً الخروج دون أن يقوى على الاعتذار لكنَّ قبضة أبي نديم المتينة أطبقَتْ على معصمِهِ كالطوق الحديديّ.. وشدّته إلى الأسفل فإذا هو مكومٌ على الأريكة بلا حول ولا قوّة.. كمن سقط من الطابق العلويّ على فراشٍ من الاسفنج المضغوط...‏

ـ وَلَوْ يا يوسف أنت تمون عليَّ وعلى ابنتي.. وتصرّف علياء لم يكن موجّهاً ضدّك.. لأنَّ مخاوفك ممّا قدتتعرّض له مشروعة.. وقد حرّض كلامك في نفسها طاقة المقاومة والتصدّي الشرس لأيّ مراقب ملغوم.. وهذا ما كانت بحاجة إليه.. ورجائي حارٌ بأنّ الله سيمنحك ولداً بعد حين يساعدك على تجاوز الزلزال... لم يحر يوسف جواباً على ما سمعه.. بل شكر أبا نديم على طول باله وراح يخبُّ إلى بيته.. في الطريق كان أطفال كثيرون يهزّون عواطفه بعنفٍ لم يذق أعذب منه وأغلبهم أبناء رفاقه الذين سبقوه في شرف الأبوة.. توهّم للحظات أنّ لـه ابناً بينهم لكنَّ أصابعه ارتشفت ماانثال على خدّيه من دموع.. وراح يسترجع ملامح آخر طبيب أبلغه الصعوبات التي تحول دون الإنجاب.. مع إبقاء أمل ضئيل قد تتمكّن بويضة ونطفة فيه من جرّ الزلزال خارج مستقبل العائلة وصل باب المنزل وهو يردّد: لقد قصدْتُ هذا الرجل بزلزالٍ فعدْتُ باثنين...‏

الزلزال (7):‏

خضع جميل لسلسلة متلاحقة من المعاينات السريريّة، والفحوصات المخبريّة واخترقته الأشعة التصويرية مرّات عديدة حتّى بات يتساءل بدعابة مرّة: هل يبحثون في هذا لجسد المضنى عن المعادن النادرة... وُصفَتْ له العلاجات وحدّدتِ الأدوية ثمَّ تغيّرت الأوصاف وعُدِّلت الأدوية.. إضبارة الاستطباب أصبحت في حجم رواية متوسطة.. ومازال جميل رهين الفراش أفراد العائلة لازموه.. والأقرباء والأصدقاء تقاطروا إليه.. وتنافست طاقات الزهور على تزيين الغرفة الواسعة التي خصّته بها إدارة المشفى.. التمنّيات بالشفاء التام تكدّستْ في أثير أذنيه وازدحمت عيناه بملامح الزائرين.. خارج غرفته تنعقد حلقات الهمس والتداول بحالته الصحيّة.. ثم تنحلُّ في تكّهنات وافتراضات تذهب في كلِّ الاحتمالات.. الوجوه حول سريره تكتسي بابتسامات مبطّنة الاتصالات الهاتفيّة أرهقت الأسلاك الناقلة.. وكلُّ متصّل يتلهّف لسماع صوته وإلقاء صُرّةٍ من الشفاعات في دماغه...‏

جميل المُحتفى بمرضه منع من متابعة نشرات الأخبار. والتعليقات السياسيّة وأفلام العنف حرصاً على أعصابه.. التي تلقّت صدمتين عنيفتين: الأولى تعطّل جهاز التصوير الشعاعي واضطراره لإجراء التصوير في مركز طبّي آخر والثانية افتقاد المستشفى إلى الأدوية اللازمة لعلاجه.. ولم يحل أبناؤه دون وصول صوته المدوّي إلى غرف المرضى والأطباء والممّرضات:‏

ـ أهذا مشفى أم فندق يستقبلون فيه المرضى..؟‏

كبير أبنائه حاول التخفيف عن كربه قائلاً: يا أبي المهمُّ سلامتك وأيُّ أمرٍ دونها يهون.. وجاء ردُّ الأب بغضبٍ أقلّ: أيّة سلامة يا بنيّ إذا كنّا سنخسر كلُّ شيء مقابل حياة لا معنى لها.. دخل الطبيب المشرف على حالته... طلب من الجميع الخروج لمساعدة المريض على نيل قسط كافٍ من الراحة.. الوقت يقترب من التاسعة مساءً والأفضل أن يعود كلُّ إلى منزله ما عدا أحد أفراد العائلة.. اعتبر كلُّ الزائرين أنَّهم عائلة الرجل.. وأبدى كلُّ منهم رغبته في المكوث إلى جانبه والسهر عليه.. وتحوّلت الرغبات المتنافسة في صيغةٍ استعراضيّة إلى مظاهرة مسرحيّة ضربت أعصاب الرجل من جديد فاستحلفهم بالله أن ينصرفوا مشكورين تفرّق القوم كما تتفرّق كلُّ المظاهرات المعروفة.. ولبث أفراد الأسرة في الخارج وبقيت الزوجة إلى جانبه معزولة إلاّ عن الاستغراق في حالة زوجها المحاطة بلغط معقّد ووشوشات ملغوزة.. كأنَّ كلَّ شخص من العائلة والأقرباء والأصحاب يعرف شيئاً ويخفيه عن الآخر.. وكأنِّهم متِّفقون على إبقائها خارج دائرة الشكوك والافتراضات.. نظرت إلى زوجها وقد خلّف الراحلون وراءهم سكوناً عميقاً مكّنه من التغلب على آلامه فغفا... إنّه الرجل الذي حمل إليها الدنيا، وأنساها بيت أبيها، وأخصب وجودها بالسعادة والبنين، وسكب من تعبه ورجولته فوق نضال الحياة المرّ فحلا.. همّت برقة متناهية أن تمسَّ بشفتيها أصابع كفّه فخشيت إيقاظه من غفوة افتقدها طويلاً.. كان فمه مرتاحاً في إطباق شفتيه.. إنَّهما الشفتان اللتان أضرمتا في كيانها لهب الأنوثة المقدس.. ونفحتاها بأعمق ابتهالات الشغف... وباركت فراشها كالبخور العطر.. إنّهما الشفتان اللتان ما نسيتا أبداً كلمات الشكر والعرفان حتّى في أحلك الظروف حيث يستحيل الشعور بركاناً والكلام رشقاً من الحمم.. ضمَّتْ يديها إلى صدرها، وفاضت عيناها بدموع حمراء.. حنَتْ رأسها برفق ووضعته على الوسادة قرب رأسه وهي تعمّده بحنانها المقطّر من أعشاب الأرض، والموسوم بصفاء الينابيع وبهاء الملائكة فإذا بإغفائه الهانئ يتسرّب إليها فيتقاسمان الشهيق والزفير.. ويهيمان على غيمة وردّية في سماء تطلُّ على الأرض بكلّ مافيها.. أخذَتْ جدران الغرفة تتباعد وانفلتت الأزاهير من طاقاتها لتعود إلى مساكبها وسفوحها في الحدائق والربى ظهرت قُبَّة السماء بزرقةٍ وسوادٍ متداخلين.. لمحت أطفالاً على رابية قريبة يلوّحون بأيديهم وينادون.. تبيّنت من تردّد الأصوات أنَّها تنادي زوجها ترى.. لماذا ينادونه دون غيره... ولماذا الأطفال دون غيرهم من البشر..‏

تصوّرته يتحرّك.. يفرك عينيه.. يرفع رأسه.. يبتسم.. يتأمّل الأولاد الملوّحين بدعة وإيناس، يبادلهم التلويح، ثُمَّ يرسم إشارة القبول على المدى الفاصل بينهما.. يستدير.. يُنزِلُ ساقيه.. يتحرك أوّل الأمر بصعوبة على أرض الغرفة ثمَّ يتسارع ويغيب.. هتفَتْ نائحة.. لا.. ليس من المعقول أن تبتعد عنّي.. أنت كلُّ شيء في حياتي.. لمن تتركني في غيابك.. رمت نفسها على قدميه، تشبّثت بهما وكورّت جسدها حولهما.. لكنَّها وَعَتْ أنَّ قوامهما لم يعد كما عرفته.. وتحسّست حرارته.. وأدمنَتْ ملامسته.. لذلك تملّص من يديها دون صعوبة وقبل أنْ يغيب عن عينيها التفت آملاً منها الالتحاق به بعد حين.. انتفضَتْ الزوجة من كابوسها المزعج فوجدت زوجها إلى جانبها وطاقات الزهور تفرض عليهما طوقاً محكماً.. لكنَّها شرعت بالذبول.. تفحّصت الغرفة كأنَّها تراها للمرّة الأولى.. ولم تكن تختلف عن الحجرة التي يودعون فيها توابيت الموتى.. وانتبهت فجأة فرأت أوراق الأزهار متصلّبة بوقاحة ولكل زهرة عين جائرة التحديق.. في جسد زوجها النائم.. راودها شعور بالصراخ لإيقاظه لكنَّها تراجعت عنه في اللحظة المناسبة.. راقبت صدره برعب فوجدته يعلو ويهبط بسلام، نهضت بدموعها المسبلة.. وشرعَتْ بلا رأفة.. تلقي بهذه الزهور الجنائزية خارج الغرفة... ولو كان الوقت مناسباً لداست عليها زهرة زهرة ومحت ألوانها وسحقتها... الممرَّضة الليلية للجناح سمعت في هذا الوقت حركة غير اعتياديّة.. أسرعت للتعرّف على مايجري فرأت السيّدة كاللبوة الجريحة وعلى أرض الرواق تتناثر الزهور كقتلى في معركة دامية.. مشهد غريب لم تتعوّد عليه جعلها حائرة ومرتبكة.. أمسكت بيدها وهمست: ماذا يجري يا ست؟.. هل هناك لا سمح الله أمرٌ خطير...؟.. لم تأبه الزوجة لتدخّل الممرّضة واستمرّت في سفك دماء الزهور.. وهُرعت الممرّضة لتتفقّد الزوج النائم فوجدت أحواله في الحدود الطبيعيّة.. وعادت إلى الزوجة لتهدّئها بدعابة رقيقة: ألا تتركين زهرة تقدمينها عربون حبّ ووفاء لزوجك العزيز..لم تقو المرأة الهائجة على الإجابة الفوريّة لأنَّ صدرها كان يخفق باللهب المستعر... جلست على كرسيّها المعتاد إلى جانب زوجها ورفعت رأسها إلى الممرّضة قائلة بانفعال هادئ العبرات:‏

ـ سمعت أنَّ زلزالاً قد يضرب المدينة..‏

ـ هكذا يقولون.. دون أن يقطعوا بالأمر قطعاً نهائيّاً...‏

ـ أرجو من الله أن يحدث هذا الزلزال ونحن في المشفى..‏

ـ عفواً يا ست.. ماذا قلت؟.. هل هناك من يتمنّى وقوع زلزالٍ في مدينته..‏

ـ نعم يا ابنتي أنا أتمنّى..‏

ـ لا بأس يا سيّدتي فأنا أتفهّم وضعك الحالي.. ولكن ليس إلى حدّ تأييدك في رجاء حدوث زلزالٍ مدمّر..‏

ـ زلزال واحد يا ابنتي.. أفضل من زلزالين..‏