الرذاذ وحبات اللؤلؤ

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : علي عبد الأمير صالح | المصدر : www.awu-dam.org

 

دخلت غرفتي. ترفل بفستانها الأبيض. الغرفة دافئة. خلعتْ جاكتتها الصوفية الحمراء. بانت ذراعاها النحيفتان. فستانها الأبيض عديم الأكمام.‏

يزينه في الصدر، عند ملتقى نهديها الصغيرين، بروش) لماع ذو شذرة وردية.‏

دنت السكرتيرة السمراء من مكتبي. سلمتني بطاقتها الوردية. انتظرتْ واقفةً. لم تقلْ كلمة. قرأتُ المعلومات المدونة في البطاقة: الاسم، العمر، العنوان، تاريخ آخر زيارة. رفعتُ بصري إلى السكرتيرة. أومأتْ لي بيديها علامة الانتهاء. تراجعتْ خطوتين إلى الوراء. دارتْ على كعبي حذاءيها الأسودين الواطئين. انصرفت بهدوء.‏

فتحتْ الشابة حقيبتها الجلدية. أخرجتْ مرآةً صغيرةً. راحتْ تتأمل أسنانها. مددتْ لسانها فوق أسنانها الأمامية العليا. أعادتْ المرآة إلى الحقيبة واعتدلتْ في جلستها.‏

تضوّع عطرها في حجرتي الصغيرة الواقعة في عمارة تطل على دجلة.‏

تأملتها. شابة في العشرين. بشرة بيضاء، صافية. وجه باسم. مخلوق سماوي، آتٍ من كوكب آخر. قادرة على إثارة الدهشة والخيال. ذراعان شفافتان كالبلور. عينان واسعتان، سوداوان، ضاحكتان. حين تراهما تشعر أنك رأيتَ العالم الواسع، الرحب.‏

جلستْ على كرسي الفحص المائل قليلاً إلى الخلف.‏

سألتها: "أنتِ، إذاً، لم تجلسي على هذا الكرسي منذ عشرة أعوام تقريباً، أليس كذلك؟"‏

أجابت: "بلى. آخر مرة زرتُ فيها طبيب الأسنان كنتُ في الثانية عشرة."‏

قلتُ وأنا أتأمل ملامح وجهها: "حتماً قال لك طبيب الأسنان، آنذاك، أنك تودعين الطفولة. ففي الثانية عشرة، تقريباً، نودع الطفولة."‏

ضحكتْ. ردتْ خصلة من شعرها إلى الوراء.‏

سألتني فجأةً: "دكتور، أتخرجتْ منذ أمد طويل؟"‏

أجبتها بحزن: "أجل. سنوات طويلة. تلقفتني الطرق الموحشة. محطات الانتظار والأنين."‏

نظرتُ في بطاقتها الوردية ثانيةً وسألتها بصوت راعش: "ياسمين، أأنت متزوجة؟"‏

أجابت بصوت ناعم، سمعته بصعوبة بالغة: "لا"ابتسمتْ ابتسامةً طفيفةً وأكملتْ قولها: "إني أدرس الباليه في روسيا".‏

قلتُ لها مشجعاً: "عظيم! هذه مهنة شاقة. مهنتنا أيضاً شاقة وخطيرة."‏

قالت بلباقة وذكاء متقد: "أحببتُ الباليه منذ نعومة أظفاري. كنتُ أتدرب على ألعاب الجمناستك مذ كنتُ طالبةً في المتوسطة. ما مبرر حياتنا إذا لم نفعل ما نريد ونتمنى."‏

أدهشتني كلماتها. لزمت الصمت.‏

بعد قليل، قالت ياسمين: "سأسافر، دكتور، في غضون أسبوع. أرجو أن تتمكن من معالجتي في أيام قلائل."‏

ابتسمتُ بأسى. تنهدتُ. لم أجب.‏

ساد صمت قصير. قالت: "أتسمح لي، أن أخلع حذاءيّ. إني لا أحب العلاج على هذا الكرسي. أحس بالضيق."‏

قمتُ من وراء مكتبي. جلستُ على كرسي دوّار، قريباً من كرسي الفحص.‏

قلتُ لها: "هذا غير ضروري. العلاج سيكون بلا ألم. أما إذا كانت هذه مشيئتك فلا بأس."‏

خلعتْ حذاءيها. شاهدتُ جوربيها الأبيضين. لفتْ ساقاً على ساق. وضعتْ قدمها اليمنى على قدمها اليسرى بصورة عمودية وكأنها تستعد للرقص.‏

انحنتْ قليلاً وردتْ حاشية فستانها الأبيض.‏

قلتُ لها: "ياسمين، ما كان يجدر بك أن تأتي إلى هنا. فهذا المكان ليس مرسماً بل هو عيادة طبية، وأنتِ لا تحتاجين إلى طبيب أسنان بل إلى رسام مثل ديفا. يخيل لي، من اليسير أن يتحول من يعالجك إلى رسام عظيم."‏

استلتْ ياسمين منديلاً زاهي الألوان من حقيبتها الجلدية الأنيقة.‏

"لماذا حضرة الطبيب؟"‏

"أصابعي لا تطاوعني للعمل في أفواه الجميلات. ينبثق السؤال في ذهني، الآن، هل الجمال خلق الفن أم الفن هو الذي خلق الجمال. أحياناً تهيمن قوة السحر والأبهار على كل أحاسيسي الأخرى."‏

مستْ أهداب عينيها السوداوين بسبابتها الوردية.‏

قالت: "ألا تجعلك قوة السحر تسرح في خيالك؟"‏

"بلى. سرح ذهني في كل أرجاء الدنيا. تارةً أسرد لمن يجلس على هذا الكرسي حكايةً من نسيج خيالي. أو أسطورة قرأتها. كان أستاذي في الكلية يدعوني بـ شارد الذهن. أتخيلك، الآن، راقصة باليه شهيرة ترتدين غلالة وردية وخفين ورديين. أما أنا فأسترخي على كرسي الظلام. أنتِ تسبحين في النور المتوهج وأنا أغرق في الظلام الداجي."‏

أخرجت حبة هيل من فمها وألقتها في المبصقة البيضاء. مسحتْ فمها بالمنديل الملوّن. أجالت بصرها في عيادتي. نباتات الظل تزين النافذة المطلة على الشرفة. فجأة نهضتْ. طوّحتْ شعرها الأسود إلى الوراء. مشتْ على أصابع قدميها كراقصة باليه حقيقية.‏

قالت وهي تومئ إلى نباتات الظل:‏

"هي لا تنال كفايتها من النور."‏

"هي مثلي تسكن في العتمة. أنا وهي بحاجة إلى النور."‏

"أتسمح لي أن آخذها إلى الشرفة؟"‏

هززتُ رأسي بالإيجاب.‏

فتحتْ باب الشرفة. انحنتْ ورفعتْ الأصص، الواحدة تلو الأخرى. أخذتها إلى الشرفة.‏

قالت: "هنا، في هذا الموقع، ستنال نباتاتك كفايتها من ضوء النهار. هي شبه ذابلة. في شقتي بموسكو، تنال نباتاتي كفايتها من ضوء النهار، رغم الثلوج والأمطار. وأن أنال كفايتي من دروس الرقص."‏

ارتأتْ ياسمين، بغتةً، أن تغير موقع إحدى الأصص، فأقعيتُ كي أساعدها. لكنني أحسستُ بألم حاد في أسفل ظهري. عبستُ وجهي، وزممتُ شقتيّ.‏

سألتني الشابة بدهشة: "ما بك، دكتور؟"‏

أجبتها وأنا أكتم الألم: "آلام الفقرات. أعاني من آلام الفقرات منذ خمس سنوات تقريباً."‏

رفعتْ ياسمين النبتة ووضعتها في مكان آخر.‏

قالت: "هل أساعدك كي تنهض على قدميك؟"‏

أجبتها: "نعم."‏

عدتُ إلى الكرسي الدوّار. كان الألم قد بدأ يخف. قلتُ لها. "شكراً" ياسمين." بعد برهة أضفتُ قائلاً: "ألم الفقرات يضايقني أحياناً. الآن، أعالج مرضاي وأنا جالس على هذا الكرسي."‏

عادتْ وجلستْ على كرسي الفحص.‏

تنهدتُ بارتياح. رحتُ أتأمل تقاسيم وجهها. هي ذي موناليزا مدينتي تجلس باسترخاء على كرسي الفحص. كم انتظرتك يا ياسمين. طوال عشرة أعوام كان باب حجرتي هذه منفرجاً قليلاً. تخيلتك تدخلين عيادتي مثل شعاع فضي، فيلامس أضلاعي التي يعربد فيها الحزن. كم تمنيت أن تضرم فتاة مثلك النار في قلبي الذي شرع يشيخ.‏

بقيتُ أتأمل وجه ياسمين الهادئ، الباسم. نسيتُ سنواتي العجاف. نسيتُ الطرق الموحشة التي اختارتها أقدامي طوال أربعين سنة. نسيتُ الحربين الضروسين.‏

نسيتُ الماضي. نسيتُ الحاضر. نسيتُ المستقبل. نسيتُ كل شيء. أصبح تأمل وجهها المليح هو الخلود بعينه. كنتُ سجين أيامي الكئيبة، الرمادية، الكالحة. وهأنذا أغادر زنزانتي. إني أطير. روحي تطير. تطير إلى الفضاء. "الجمال ينقذ العالم"(1) . موناليزا مدينتي تنقذني من الألم، التعب، اللوعة. تنقذني من الملل والرتابة والهواجس والحزن الصحراوي. الجمال يجعلني أحلم. لا أدري، الآن، هل أنا فعلاً في عيادتي الخاصة المطلة على دجلة أم في مكان آخر من العالم. ربما أنا الآن في وادي الدوردون أو شلالات بيخال أو إحدى جزر اليونان.‏

شعرتُ بالراحة، غسلتُ كفيّ. أشعلتُ الضياء.‏

فتحتْ الشابة البيضاء البشرة فمها الوردي. بهرتني أسنانها البيض ولثتها الوردية. انتزعتُ دبابيس شعرها الواحد تلو الآخر. وضعتها على صينية أدواتي الطبية. تأملتُ خصلات شعرها الأسود كالليل. كان حريرياً مرسلاً. أخذتُ سرنجتي المعدنية الثلاثية. صرتُ أنثر الرذاذ. أصابعي الراعشة ترقص في غابة شعرها.‏

كم انتظرتْ أصابعي هذا الرذاذ. آن لك أيتها الأصابع أن ترقصي في غابة شعر موناليزا، بعد أن رقصتِ طويلاً فوق حبات اللؤلؤ. الرذاذ يسّاقط مثل حبات الندى. الرذاذ يسّاقط على شعر موناليزا. ياسمين، الرذاذ يسّاقط كرقائق الثلج على أشجار البتولا وغابات التايغا. الحجرة دافئة. عزيزتي، لن يصيبك البرد. أنتِ سترحلين إلى روسيا حيث الصقيع يغطي كل شيء.. وأنا هنا أكتوي بنار الوحشة واليأس والقلق. ياسمين صدريتي البيضاء تنادي غلالتك الوردية. اقتربي مني. فلنرقص معاً تحت المطر الناعم. ولنتعطر معاً بشذى ربيع متأخر. ياسمين، ليتني رأيتُك قبل الآن. ياسمين، أين كنتِ طوال هذا الوقت. أربعون عاماً مرتْ من حياتي. أربعون ربيعاً تصرم بلا رجعة. انتظرتك طويلاً، حتى قبل أن أعرفك. ياسمين، من أين أتيتِ؟ أأنت خارجة من إحدى لوحات ديفا؟ هل نزلتِ من السماء؟ ياسمين، كم أنا مسرور برؤيتك. سأتطلع إلى نباتاتي يومياً. سأتذكر عطرك الرائع. سأتذكر قدميك النحيلتين تخطوان إلى الشرفة. سأتذكر غلالات راقصات الباليه، خفافهن، سيقانهن العاجية الرشيقة. سأتذكر مايا بليسيتسكايا(2) . سألفك بصدريتي الطبية وسنرقص معاً في "باليه من البياض"(3) .‏

رأيت الشابة ذات الفستان الأبيض تفتح فمها الوردي. كانت عيناها مغمضتين والرذاذ يسّاقط فوق حبات اللؤلؤ.‏

الكوت 1994.‏

(1) قول شهير لـ مشيكين بطل دويستويفسكي.‏

(2) مايا بليسيتسكايا: راقصة باليه روسية شهيرة.‏

(3) وردت هذه الجملة في رواية "البحيرة" لـ كاواباتا