كان ذلك في عصر يوم جميل.
كانت الساعة تقارب الرابعة.
حلّق الطائر الأخضر ذو المنقار الأحمر فوق بيوتٍ من الطين وأكواخ من القصدير. في الختام شاهد حديقةً واسعةً تحيطها منازل شاهقة وعمارات ضخمة وفنادق راقية ذات أثاث فاخر ومسابح نظيفة يقطنها التجار الأجانب.
دخل الطائر الحديقة الجميلة، فألفى البستاني حزيناً، مطأطئ الرأس، مجللاً بالكآبة. ألقى عليه السلام فلم يردْ، وحين حياه ثانيةً رد التحية دون أن يرفع عينيه عن الأرض المكسوة بالخضرة.
قال الطائر الأخضر: "لم أنتَ حزين؟ حواليك الزهور والطيور والأطفال الحلوين. عليك أن تحمد الله، فأنتَ تعمل في هذا الحي الراقي، حيث العمارات السامقة والفنادق الكبيرة والتجار الأجانب الأنيقون النبلاء."
رد البستاني: "إني أسكن هناك، في الضاحية الجنوبية، في بيت من الطين. أرجو أن تكف عن التفكير في هؤلاء القوم الأنيقين ببدلاتهم الإنكليزية، إذ إنهم لا ينثرون دولاراتهم في الحدائق كما يفعل الناس حين ينثرون الدراهم على رأس العروس، إنك تسألني لم أنا مدلهم الوجه، لكنني أقول لك إنني أعاني من آلام المفاصل. فقد قضيتُ عشرين عاماً أعمل في الأرض حافي القدمين والرطوبة تتسلل إلى عظامي النحيفة. وها أنا ذا صفر اليدين لا أملك من الدنيا شروى نقير."
تجول الطائر في الجنينة، فشاهد نافورة ماء تتدفق منها المياه إلى الأعلى ثم تسقط في الحوض الذي تطفو فيه زوارق من ورق، أخيراً صادف ثلاث زهرات وحياهن ببسمةٍ صغيرة. ردتْ الزهرتان البيضاء والسوداء التحية. أما الصفراء فقد ظلتْ صامتة واجمة.
سأل الطائر بدهشة: "ماذا حل بأختكما الزهرة الصفراء؟"
فأجابت الزهرة البيضاء بصوت هادئ: "هي الآن شاحبة ومريضة. في الأصل كانت زهرةً حمراء كشقائق النعمان إلا أن المغني الذي جرح في السجن الكبير أراد أن يواصل أغنيته فهرعت إليه ومدته بالدماء الحمراء. وفي الحال عزف على قيثارته فتصاعدتْ الأنغام وراح ينشد مقطعاً جديداً من أغنيته ثار السجناء. بيد أن المغني ما لبث أن سقط صريعاً برصاصاتهم الغادرة التي طرزتْ صدره. أما هي فقد أمستْ شاحبةً، ممتقعة الوجه، عابسة، ومنذ ذلك الحين أصبحت صفراء، هي، طبعاً، لا تتحدث إلا لماماً"
تطلعتْ الزهرة البيضاء إلى الزهرة الصفراء، وتنهدتْ بعمق.
قال الطائر ذو المنقار الأحمر مواسياً: "مسكينة." ونظر إليها بعينين يطل منهما الحنان والرأفة، التفت إلى الزهرة البيضاء قائلاً: "ولماذا أصبحتِ زهرةً بيضاء؟"
تأملت الزهرة البيضاء نفسها وكأنها عروس شابة ترتدي ثوب الزفاف الأبيض. قالت: "ولدتُ في مدينة أناسها طيبون شرفاء. في تلك السنة أمم الشعب النحاس. وزعتْ الأراضي على الفلاحين، صدرتْ الصحف. وأُقيمت مهرجانات للفرح والغناء والموسيقى والتسلية البريئة. وجاءت أطيار بيض فملأت المدينة ورفرفت فوق رؤوس الناس وحطت على أبنية المدارس والنقابات العمالية.
وتأملت الزهرة السوداء نفسها وكأنها أرملة بائسة ترتدي ثوب الحداد الأسود. لمعت الدموع في عينيها وهي تقول: "أما أنا فقد ولدتُ في مدينةٍ ترتكب فيها الأفعال السوداء. وتنتشر فيها الأمراض ويشيع الفساد. كان الأطفال يرتجفون من البرد الشديد وتصاب النسوة بالسفلس، ويستشهد النقابيون في الشوارع.
يترك الشيوخ والعجائز في أكواخ وضيعةٍ حقيرة ليموتوا في صمت، بسبب الجوع أو السل أو الحزن العميق"
خيم صمت ثقيل، بعد برهة سألت الزهرتان البيضاء والسوداء في وقت واحد: "ولماذا صرتَ طائراً أخضر؟"
أجاب الطائر: "ولدتُ في يوم صيفي. كسرتُ القشرة بمنقاري وخرجتُ إلى الدنيا. كانت السماء تنثُ مطراً أخضر فنبت لي ريش أخضر زاه. حين تعلمتُ الطيران صرتُ أرى العشاق الحلوين يحفرون أسماءهم على الأشجار ويرسمون أفئدةً تخترقها السهام. عندما كبرتُ أنبأوني بأن مدينتنا كانت تشتهر بالحب الوفي والعواطف النبيلة السامية".
وفي تلك اللحظة لوت الزهرة الصفراء عنقها، اندهش الطائر الأخضر والتفت مذعوراً إلى الزهرتين البيضاء والسوداء.
بعد قليل قال بصوت هامس: ماذا حل بها؟ هل أصابها مكروه؟" فانتهرته الزهرة البيضاء وقالت بصوت متهدج: "صه، إنها تحتظر"
ران صمت حزين وظل الجميع واجمين، فاضت الدموع في عينيّ الطائر الأخضر وفي نفسه قال: "حقاً، هناك من يموت في صمت وهدوء، دون أن يعرف بهم أحد، ودون أن تتناقل أخبارهم، وكالات الأنباء".
بعد برهةٍ ماتت الزهرة الصفراء. دفنوها في طين الجنينة، كان البستاني مغتماً مطعوناً من الداخل، يسكب العبرات.
وفي النهاية حلق الطائر الأخضر ذو المنقار الأحمر مودعاً البستاني وصديقتيه الزهرتين وصفق بجناحيه تحت سماء زرقاء كوبالتية.
ظلت الزهرتان السوداء والبيضاء وحيدتين. وظل العالم مشطوراً إلى نصفين أبيض وأسود. أبيض منّور بهيج وأسود قاتم حزين