العش

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : علي عبد الأمير صالح | المصدر : www.awu-dam.org

من خزانة الملابس اختارتْ ثوباً أخضر، ووقفتْ أمام المرآة المشروخة فلمحتْ فتاةً ذات بشرة قمحية، عارية الذراعين والكتفين، ضربتْ بكعب حذائها الآجرة المربعة واستدارتْ فواجهت فرساً بيضاء تركض خبباً عبر مرج أخضر.‏

بخطواتٍ ثقيلةٍ دنتْ منها وجعلتْ تنظر إليها عن كثب، مررتْ أصابعها الطويلة على ظهر الفرس. فجأةً دونما شعور أغمضتْ عينيها وبدتْ على مدى لحظات قلائل كالنائمة، عادتْ خطوتين إلى الوراء ومسحتْ بأصابعها فوق زندها العاري. شرعتْ تحدق بحنو في الفرس الجريحة. كانت الفرس هزيلةً بوضوح وأضلاع صدرها بارزةً تماماً، فيما كانت قائمتها الأمامية تنز دماً قانياً كالشفق؛ وعلى الرغم من ذلك رفعتْ رأسها بإصرار، منطلقةً نحو عالم هادئ وجميل.‏

دارتْ على عقبيها وسحبتْ ستارة النافذة، ألقت نظرةً إلى الزقاق الوسخ. كان ثمة أطفال يلعبون، ونساء افترشن دكات المنازل يتكلمن بصوت عال، تركت النافذة واتجهتْ نحو الباب، وظلتْ مسمرةً في مكانها برهةً ثم اتجهت صوب الجدار إذ لمحتْ نادية فوق السطح. كانت نادية ذات بشرة بيضاء ترتدي ثوباً أزرق. اقتربتْ نادية من الجدار ووضعتْ كفها على الحائط الواطئ، تطلعتْ إلى السماء وأردفتْ:‏

-بدأت ملامح الربيع تطل علينا.‏

هزتْ سلمى رأسها بالإيجاب، رفعت بصرها إلى السماء التي تناثرت فيها سحب ناصعة البياض، ألصقتْ ذقنها فوق الجدار. همستْ نادية وهي تعبث بحلية فضية تتدلى فوق صدرها.‏

-هل تحبينه كثيراً؟‏

برقتْ عينا سلمى ببراءة، هزتْ رأسها ثانيةً وابتسمتْ برقة. كان الوقت عصراً والشمس تسكب ضياءها الرائع على الشرفات وسطوح المنازل وجدائل النخل الخضر، فيما تهب ريح باردة تهز جدائل النخل وغصون الأشجار، وعادت نادية تسأل من جديد:‏

-هل تعتقدين بأنه سيعود؟‏

أدارت سلمى رأسها ونظرتْ إلى المنازل الواطئة، ثم قالت وعيناها تلتمعان:‏

- بالطبع سيعود. يعود حتماً.‏

ألقتْ سلمى شعرها فوق كتفها، مضتْ تلف ذيل جديلتها حول سبابتها، وفي قاع عينيها لاح شعور غامض بالكآبة.‏

- هل أنتِ واثقة من ذلك؟‏

نظرتْ سلمى إلى نقطةٍ ما في اللانهاية، وقالت بلبق:‏

-أنا واثقة من عودته. نعم واثقة. هل تعتقدين بأن طائر السنونو الذي بنى عشه في باحة دارنا يقدر العيش وحيداً؟ بالطبع لا. منذ عشرة أعوام وأنا أرقب طيور السنونو تأتي وتبني أعشاشها في أركان الباحة. وفي كل عام تغادر صيفاً ثم لا تلبث أن تعود من جديد. هل يمكن أن تتصوري سنونوةً تقضي النهار وحيدةً؟ لا يمكن أن يبقى هو بعيداً، لا بد أن يعود إلى عشه، نعم عشه، هنا، في صدري.‏

لمحتها نادية تشير إلى صدرها، وحينما أطبقتْ سلمى شفتيها بإحكام أحستْ نادية أن جارتها تبكي بصمت، بعد صمت مطبق انهمر الصوت:‏

-هل ترينه في الأحلام؟‏

-أراه كثيراً. مرةً لمحته يحمل بين ذراعيه بدلةً من (التول) مزينةً بأشرطة الدانتيلا البيضاء. كان وجهه مشرقاً بالفرح وثمة أطفال بثياب خضر يلتفون حولنا مرحين. حين ناولني البدلة الجميلة وضع إكليلاً من الزهور البيضاء حول عنقي وقبلني في ثغري.‏

توقفتْ سلمى عن الكلام وتابعتْ:‏

-كان يحدثني كثيراً عن الوطن والفقراء.‏

أخذتْ نادية تنقر بأصابعها على الجدار، وتفرستْ في وجه سلمى الذي كساه الأسى.‏

-لماذا لم يطلب يدك من والدك؟‏

-أوه، إقتادوه قبل أن يفعل ذلك.‏

رفعت نادية شعرها، واستدارت واتجهت صوب باب السطح وبعد قليل سمعت سلمى انصفاقه. اتكأتْ سلمى بظهرها إلى الحائط وشرعتْ تتأمل السماء ثم رنتْ ببصرها إلى المنازل البعيدة، وخيل إليها على مدى لحظات قلائل بأنه سينبثق فجأةً من بين تلك المنازل ويأتيها فاتحاً ذراعيه وخلفه يهرول أطفال يرتدون ثياباً خضر.‏

مضتْ تسحب قدميها بتثاقل، سمعتْ صهيل الفرس يأتيها عبر المسافات. وقبل أن تلج غرفتها أرهفتْ السمع لدقات خافتة على السلم. وعندما انبثق جسد طفلة صغيرة شدتْ ظفيرتيها بشريطين أحمرين، عادت إلى الوراء خطوةً واحدة وبدتْ جامدةً مثل تمثال إغريقي.‏

قالت الطفلة وهي تدق الآجرة بمقدمة حذائها الأبيض:‏

-أرسلتني والدتي. البسي ثوبك الوردي وانزلي إلى الباحة.‏

اختلجتْ شفتها السفلى وخفق قلبها كالجناح فسألتها بدهشة:‏

-لماذا؟‏

-ثمة نساء غريبات في الأسفل يردن رؤيتك