وإذا أُميط اللّثام عن وجه الحق، فظهرت أعلامه، وسطعت أنواره، وجب الإذعان له واتباعه، لأن الحقّ أحقّ أن يُتّبع. ولكن قد تتعدد أوجه الحق وأدلته، فيتعدد بذاك حملة الحق ودعاته، وتتباين أدلّتهم، وتتنوع مسالكهم، ويكون الاختلاف الواقع في مثل هذه الحال عائداً إلى سنّة مسموعة وحجّة مشروعة.
ولعل أظهر دليل على الاختلاف المشروع ما وقع للصحابة بعد غزوة الأحزاب، حين قال لهم النبي [: «لا يُصَلِّينّ أحد العصر إلا في بني قريظة» رواه الشيخان؛ فخَفّوا سِراعاً لامتثال أمره رغم المشقّة التي أصابتهم في الحرب! حتى إذا أدركهم العصر في الطريق، تخوّف فريق منهم فوات وقت العصر، فصلّوا قبيل الغروب دون بني قريظة، وتخوّف فريق فوت الأمر، فقالوا لا نصلّي إلا حيث أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغوا المكان صلّوا العصر بعد العشاء الآخرة! فلما ذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم ما وقع لهم لم يَعِب أحداً منهم، فانظروا كيف جعل الرسول صلى الله عليه وسلم التوسعة في فهم ما يحتمله النص، يُسْراً في الدين ورحمة للمسلمين؛ وقد ورد عن عمر بن عبد العزيز قوله: «ما يسرّني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن لنا رُخصة»!، ورُوي في الأثر: «اختلاف أمتي رحمة».
فالصّراع والنّزاع في ذلك حُمق وخفّة، ولو حُملت الأمة على سَنن واحد في الفروع لذاقت الوبال والإصر والأغلال التي حملها الله على أمم سابقة في قرون خَوال.
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعتني بتسوية صفوف المصلين، ويبالغ في ذلك كأنما يُسوِّي القِداح، فكان يقول لهم: «استووا ولا تختلفوا فتختلفَ قلوبكم» رواه أحمد، مما يشير إلى أن الاتفاق في الأمور الظاهرة، كالاعتدال في الصلاة، وعدم العِوَج، وترك الفُرَج، ينزع بذور الخصام ويستلّ السَّخائم، ويُفضي إلى دنوّ الفَرَج.
إن الاختلاف من سُنن الحياة، ومن طبائع البشر، لا مَعْدى لهم عنه، ولا محيص لهم منه، وذلك أمر مسطور في كتاب ربنا عز وجل في قوله: {ولا يَزالونَ مُخْتَلِفينَ إلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ ولِذلِك خَلقَهُمْ} هود - 118، 119. ولكن البلاء الزاحف يكمن في عواقب الاختلاف، وما تجره علينا من تخاصم وتفرق، فإذا نزلت بساحتنا فساء صباح المتخاصمين! انها تدهمنا كالإعصار، وترمينا بالكوارث، وتجعل ربوعنا دوارس! فلا مندوحة لنا من العودة إلى كنوز السيرة النبوية لنعتبر بأروع الأمثال في شرف الخصومة ونبلها بين نخبة خير القرون؛ وكان الوحي يهبط، والقرآن ينزل، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يسددهم بضياء حكمته، ونور هديه، كمثل خصام الصاحبَيْن الخَيِّرين، اللَّذين كانا في وقائع متعددة، يختلفان وسرعان ما يأتلفان، ويرجعان إلى ما هو أقوم قليلاً، وأهدى سبيلاً!
أما إنه لا يوجد تجمّع بشري ضاق أم اتّسع يبرأ فيه العباد من اختلاف في الرأي والاجتهاد. فإن قال أحد إني زعيم بدليل يثبت وجود عُصْب يتحقق فيها الائتلاف، ويحتجب الاختلاف، قلنا له إن الذي يتولى أمرها إما أن يكون زعيماً مستبداً، يستخفّ قومه، ويُذلّ لسلطانه الجباه، أو وليَّ نعمة بطرت نفسه معيشتها، يقود القوم من أحشائهم ويكممّ الأفواه، أو رجلَ قداسة مستكبراً، يَحْذوه مريدوه من أعمال التعظيم والاجلال، ما مِثْله لا يكون إلا لله! فكيف تُعَدّ هذه الكُتل مِثالاً لنظام البشر؟! إنه ليحق لنا أن نقول فيه:
الأمر فيها ليس شورى بينهم والحرّ فيها لا يُرَجِّي عدلَهم إنا لا نطمع في حياة يذوب فيها الخصام، فهذا لن يكون للأنام إلا في دار السلام، ولكنا نطمع في عيش تُحفظ فيه وشائج الأخوّة، ويسود الوئام. فاللهمّ صبراً على ما ابتُلينا به وأنت المستعان.
المصدر / الأمان اللبنانية