التشرد... للمرة الرابعة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد نديم | المصدر : www.awu-dam.org

الشمس في منتصف السماء، تلهب رأسه، في حزيران من العام الماضي، لم تكن الشمس كهذه قاسية، كانت تواريه عنها، فروع وارفة لأشجار حديقتهم في نابلس.‏

عندما تبدأ عطلة الجامعة الصيفية، كان يجد السعادة، وهو يعمل، في حديقة الفاكهة التي يملكونها.‏

أبواه عجوزان، لذلك كانا يشعران ببعض الراحة، لمشاركته إياهما العمل، شهور الصيف.‏

كانت أمه تنظر إليه بعينين تغسلهما الدموع، عندما تراه، معفراً بالتراب. يحمل الفأس بيده، وتقول:‏

- آه.. ياصغيري العزيز، لو بقي أخواك على قيد الحياة. لكنتم الآن ثلاثة رجال.. لا تحتاجون إلى عجوزين مثلنا.‏

لا يعرف أخويه فعندما قتلهما اليهود في حيفا منذ عشرين عاماً. كان في الثانية من عمره، لقد حمله أبواه وفرا به إلى نابلس، بعد أن تركا في حيفا كل شيء..‏

لا يذكر الآن شيئاً، لا يبصر الآن إلا صورة واحدة.. رغم الشمس التي مازالت تلهب رأسه.. صورة منزلهم في نابلس، وقد أصبح انقاضاً.. وتحت الأنقاض جثتا أخويه.. بلون الفحم. وعشرات الجثث، انتشرت هنا وهناك، دون أن يتمكن أحد من رفعها، فقد أمر القائد اليهودي بطرد السكان إلى شرقي النهر..‏

دون مقاومة، أخذ الجنود اليهود يجمعون الناس، ويسوقونهم خارج المدينة.. باتجاه النهر..‏

لا يحس الآن بشيء حتى ولا بأنه يمشي. النهر الزاخر من البشر، يدفعه إلى الأمام. يصدم رجلاً أمامه، وتصدمه امرأة خلفه، فلا هو يشعر، ولا من يصدم يشعر. والعرق البارد يستقر في أعماق ثيابه، وعلى رقبته، وحاجبيه عرق لزج، ممزوج بتراب خشن.‏

منذ الصباح، وهم يمشون وعندما كان النهر البشري يبطئ في سيره، كانت تحركه طلقات المدافع الرشاشة، فوق الرؤوس، وبين فترات من السكون، كانت الطائرات تمرق كالشهب، تحرك الأحاسيس المخدرة.‏

حاول تركيز تفكيره، على أي شيء، فلم يستطع ذلك، نقل الصرة التي يحملها، إلى يده اليسرى ليريح اليمنى، إنه حتى لا يعرف ماذا تحوي تلك الصرة التي يحملها منذ الصباح.‏

كيف حدث ذلك.. آه.. ما أصعب الإجابة على هذا السؤال...‏

متى حدث ذلك. منذ شهر أم شهور، منذ يوم.. أو بعض يوم. إنه ليعجز، حتى عن تركيز ذهنه، على أي شيء، مهما صغر..‏

وكلما حاول أن يركز بصره، على ماحوله، ليعي مكان وجوده، ارتسمت أمامه، جثتا أبويه المتفحمتين، كلما رفع رأسه، إلى العجوز الذي يمشي، إلى جانبه.. رآه، بعيني خياله، أبوه يمشي... جثة متفحمة، وتعثرت به امرأة، تحمل طفلاً صغيراً بين يديها، عمره عامان. كاد الطفل أن يقع تلقفه منها، ومن ثقل الطفل والوهن الذي أثقله، سقط على الأرض وهو يحضن الطفل الصغير، محاولاً حمايته من الوصول إلى الأرض الخشنة، قام معتمداً على ذراعي رجلين، نظر في عيونهما، فلم يجد شيئاً، وأخذت المرأة صغيرها، دون أن تقول له شيئاً.‏

وهو يعاود المسير. تذكر شيئاً، حدث في الماضي البعيد، وهو يرى في المرأة... صورة أمه. وفي صغيرها، صورته، منذ عشرين عاماً، مضت، وقد حملته أمه كهذه المرأة وسارت به، يومين كاملين، من حيفا إلى نابلس.‏

والنهر يبدو من بعيد، لم يعد يبصر جثتي أبويه المتفحمتين، أخذ الواقع ينتشر في نفسه المخدرة، وأخذ يجمع شتات فكره، وسطع الواقع أمام عينيه فجأة. آه.. إنه التشرد للمرة الثانية.‏

***‏

خمسة عشر عاماً أخرى، مرت، وصورة التشرد، للمرة الثانية، مرسومة، أمام عينيه. وصورة التشرد، للمرة الأولى مترسبة، في أعماق نفسه.‏

من أجل ذلك، ألغى من حياته كل اهتمام.. إلا العودة إلى فلسطين. وإلغاء التشرد من قاموسه.. فالتحق بالمقاومة وتدرج، في صفوفها، من القاعدة إلى القمة، فقد فرض نفسه، منذ البداية. وأخذ كل من يتعامل معه. يجد قضية فلسطين، مختزلة في ذاته.‏

في الأعوام الأخيرة. استقر به المقام في لبنان، قائداً لأحد المواقع، أحس بالغريزة التي عاشت التشرد مرتين أن العدو يلاحقه مجدداً.. إلى هذا المكان.‏

ولم تخطئ غريزته. فهاهي الأوامر، تصدر إليه بالتوجه مع مجموعته إلى خارج لبنان..‏

لقد كان خلال خمسة عشر عاماً قائداً مثالياً، منضبطاً، ماعارض في أمر، ولا امتنع عن تنفيذ مايطلب منه. لكنه... ولأول مرة، اعترض بقوة، اعتراضه أذهل كل الرؤساء.. لأنه يحدث للمرة الأولى صاح في وجوههم:‏

- لقد ألغيت كل شيء، في حياتي، من أجل أن ألغي التشرد، عملت كل شيء، من أجل، أن أعود إلى فلسطين. والآن تريدون مني أن أعاود التشرد، سأبقى هنا. لن أسمح لهم بتشريدي.. مرة ثالثة..‏

وبقي صامداً، في بيروت، وعندما أجتاجه الهجوم الأخير. شاهد رفاقه المغادرين، جثته، تحت الأنقاض. في الخندق الأخير، شاهدوه وهو جثة، متشبثاً بالأنقاض... كأنما، كان يخشى أن يلقوا بجثته، أبعد من المكان الذي قتل فيه.. أن يشردوه للمرة الثالثة...‏

***‏

لم يعرف بالتحديد من قام بنقل جثته من الخندق الأخير، في بيروت، إلى الجنوب. وإلى هذا المخيم بالذات. فقد مرت أكثر من عشر سنوات. ونمت حول قبره أكثر من شجرة زيزفون.‏

كان قبره، يتوضع في منخفض من الأرض، في عمق المقبرة، ينتهي إلى سد من الصخور الكبيرة، لذلك كان يتوجب على الساعي إلى قبره أن يسلك طريقاً وعرة. في الذهاب والإياب، رغم ذلك لم تكن تخلو ساعة، من النهار دون أن يتواجد أكثر من واحد حول القبر..‏

كان أكثر الزوار، من الأطفال كانوا يلعبون حول المقبرة. ثم يأخذون بالتسرب، من خلال الممرات الضيقة، منحدرين حيث يجعلون استراحتهم حول القبر. هناك يهدؤون. كما ينقطع صياحهم. وتخفت أصواتهم، يقرأ أحدهم الفاتحة، ويمسح البقية وجوههم وصدورهم فجأة يستذكر أحدهم:‏

- أبي زرع هذه الشجرة..‏

يرد عليه آخر:‏

- أبي شارك في حمل نعشه..‏

يقول كبيرهم، بحزن:‏

- لا أحد يعرفه، هنا، كل رفاقه، في تونس.‏

ولما كان الكبار، في المخيم، يعرفون حكايته، وهي حكاية، ليست غريبة، على أي منهم، فكل واحد منهم، قد تشرد، وانتقل من مكان إلى آخر، وفي كل مكان يلاحقه العدو، إلا أن حكاية صاحب القبر. تظل متميزة، فهو وإن لم يستطع العودة إلى فلسطين، إلا أنه بقي قريباً منها.. ولو جثة، في قبر.. وبمرور الزمن، أخذت الأساطير تنسج حوله. وهكذا اشتهر أمره، وذاع، وسمي قبره.. قبر الشهيد، رغم أن كثرة الأموات في المقبرة، هم من الشهداء، لذلك وعندما دخلت قوات الحكومة، إلى المخيم، في هذا الصيف للبحث عن سلاح المقاومة الثقيل، أحاط الجنود وبعض الآليات، بالمقبرة، وأخبر قائد الجنود مندوب المقاومة، أن المعلومات المتوفرة لديه تؤكد أن بعض السلاح الثقيل... مدفون في المقبرة.‏

بعد سبر سطحي، في طول المقبرة، وعرضها. توقف الجنود، عند قبر الشهيد. وطلب القائد رغم اعتراض سكان المخيم- آلية، لحفرالقبر.‏

الرجال فهموا.. أن الجنود. يريدون حفر القبر. بحثاً عن السلاح الثقيل.‏

الأطفال فهموا.. أن الجنود. يريدون حفر القبر، بحثاً عن عظام الشهيد. ليلقوا بها، إلى أبعد نقطة.. عن فلسطين، واختلط احتجاج الرجال، مع صياح الأطفال. وعندما جاءت الآلة، وأدخلت مخالبها في القبر. وارتفعت حاويتها، في الفضاء، ثم ألقت حملها، جانب القبر.. تراباً ناعماً، وزهوراً برية. حاول بعض الرجال أن يوقفوا عمل الآلة. إلا أن بعض الكبار تدخلوا. وعملوا على تهدئتهم. وسار العمل. خلال حلقة الناس. الحزينة، والدموع تلمع، في العيون، والهمهمات تختنق في الصدور، أما الصغار، فقد كانوا يقفون خلف الكبار، يدسون رؤوسهم الصغيرة، من خلال الحلقة الواسعة، وفي عيونهم تصميم على أمر ما.‏

وماإن وصلت مخالب الآلة. ومن خلال الحفرة الواسعة، إلى قلب القبر. وأخذت تلقي بعظام الشهيد، على تل التراب الناعم، حتى اندفع الصغار، من بين أرجل الكبار، ومن كل الاتجاهات. هجموا على تل التراب، واخترقوا الحلقة خلال الدهشة، التي أصابت الجميع، وخطفوا العظام، التي كانت تلمع بين التراب الناعم، واخترقوا الحلقة.. عائدين. وانتشروا بعيداً... في كل اتجاه. إلا أن كبيرهم، توقف قريباً من الجميع. وكان خالي الوفاض إلا أنه رفع يديه بإشارة النصر، وصاح:‏

- لن نجعلكم تشردونه، للمرة الرابعة، وعندما نكبر سنعيد عظامه معنا إلى فلسطين...‏

حواشي‏

* كتبت هذه القصة، ونشرت لأول مرة في عام 1968، تحت عنوان، التشرد للمرة الثانية.‏

** أضيف هذا القسم، إلى القصة في عام 1982 ونشرت تحت عنوان، التشرد للمرة الثالثة.‏

*** أضيف القسم الأخير إلى القصة عام 1992 وأصبح عنوانها، التشرد للمرة الرابعة.. وقد تبقى النهاية... مفتوحة.‏