المرافق

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد نديم | المصدر : www.awu-dam.org

هبطت المصيبة، على رؤوس الجميع، فجأة، فأطاشت صوابهم، وكان وقعها شديداً عليهم كونهم أسرة بسيطة، لم يسبق لهم، أن تنازعوا مع أحد على ملكية أرض، أو على مرعى، أو قامت أغنامهم، برعي مزروعات الغير، إذ كانت قريتهم، قرب الحدود. بعيدة عن كل القرى الأخرى.‏

صاح الجد. وهو يبعد الضوء. عن عينيه الكليلتين، بكفه المبسوطة، لصق حاجبيه:‏

- هي مكيدة. من صنع عدو لنا...‏

أخذ كل واحد، من الحضور، ينقب في ذاكرته، عن عدو محتمل، فكثر اللغط. واحتدم النقاش، حتى أصابهم الإعياء، أخيراً، وأسقط في أيديهم.‏

قال الجد: بعد فترة من الصمت الثقيل، وهو يخبط بعصاه الرفيعة، على (دلة) القهوة:‏

- أرسلوا في طلب ابن عمكم، حمدان...‏

مرّ صغير، حافي القدمين، من الباب، كالسهم. يلبي نداء العجوز.‏

تابع العجوز:‏

- حمدان، الفهمان الوحيد، بينكم، لقد خدم، جنديته.. في العاصمة. وقادرعلى أن يعرف، ماذا جرى، وكيف نتصرف.‏

المصيبة، التي حصلت كانت مشروعاً لحدث سعيد، في العائلة. فقد تقرر تزويج حفيد العجوز، وهو الشاب الوحيد الباقي، دون زواج، وكان هذا المشروع، قد تأخر، حتى تمكنوا من تجميع قطيع من الغنم، يفي بالغرض، فأرسل إلى سوق القامشلي. كلاً من "حميدي وصفوك"، مع قطيع الغنم، في صباح هذا اليوم. وعند العصر. جاءت الأخبار السيئة. فقد تم القبض، على حميدي وصفوك. وجرى مصادرة قطيع الغنم، من قبل (الجمارك).‏

كانت هناك (إخبارية) تقول.. إن الأغنام، مهربة، من خارج الحدود.‏

في اليوم التالي. جاءت الأخبار الأكثر سوءاً، فقد تم سوق، حميدي وصفوك إلى العاصمة... ليحاكموا هناك.‏

وإلى هذا الحد... انتهى ادراك، الأسرة المنكوبة، مما استلزم تجنيد حمدان، لمهمة اللحاق بالموقوفين، إلى العاصمة، وتدبير الأمور، هناك.‏

أخرج حمدان (الزبون) والسترة، من تحت (مطوى الفرش) وبعد أن ارتداهما. وشد الحزام حول خصره. أخذ يثبت (العقال) على (المحرمة) التي غسلتها زوجته، ترفه، جيداً، حتى راق لونها، ودس قدميه المشققتين في الحذاء، الذي شعر به ضيقاً، من قلة الاستعمال، وبعد دقائق. كان يقف أمام العجوز... كبير العائلة، في وضعية (الاستعداد) كما كان يقف أمام (الرقيب) في الجيش، وقال بصوت سعيد، كان يخنقه بتصنع اللامبالاة:‏

- أنا جاهز، ياعمي..للسفر.‏

- لا أريد أن أوصيك، فأنت تعرف شغلك، نحن نعتمد، بعد الله، عليك.‏

ورمى إليه، برزمة مالية، كبيرة. ملفوفة في خرقة، بالية حائلة اللون:‏

- هذا، كل ماكنا ندخره، ياولدي، للأيام السوداء، وهو مبلغ كبير، حاول أن تجعله، يفي بالغرض.‏

- لا توصي، حريصاً ياعمي.‏

وصل إلى العاصمة، بعد منتصف الليل، فأخذ غرفة، في أحد فنادق (المرجة) وغط في نوم عميق، بعد أن تأكد من إقفال باب الغرفة، جيداً، من الداخل، وبعد أن دس صرة المال، تحت وسادته.‏

أفاق، في اليوم التالي، والشمس في كبد السماء، فلعن نفسه، والفرشة اللينة، والغرفة الهادئة، التي جعلته يخرق عادة الاستيقاظ على صياح ترفه، مع شروق الشمس.‏

لبس ثيابه، مسرعاً، وهو يدس صرة المال، في عبه. وقبل أن يتجه إلى هدفه. عرج على أحد المطاعم. وطلب فطوراً.. من الكباب، لديه يوم شاق، وليس مثل الكباب، يلغي الجوع.. حتى المساء.‏

كان هدفه مقهى الحجاز، هناك، سوف يجد ضالته، حتماً، وما إن جلس، خلف طاولة فارغة، وصفق للنادل، وهو يتلفت حوله. حتى وجد ضالته. أو أن ضالته، بالأحرى.. هي التي وجدته. فقد كان يسعى إلى طاولته، في هذه اللحظة، رجل قصير. يحضن محفظة منتفخة. ضاقت بالأوراق. كان يبتسم له، والسيجارة لا تبارح شفتيه، سلم عليه بحرارة، قائلاً:‏

- ياهلا.. بالشيخ..‏

حمدان يعرف، أمثال، هذا الرجل، ولو لم يقتحم عليه طاولته، لكان هو الذي سعى إليه، إنه أحد الوسطاء، الذين يعرفون مفاتيح، كل الأمور، ولا يعجزون عن تدبير أي أمر، في أي مكان.‏

جلس على الكرسي، أمامه، وهو يخرج علبة (الكنت) ويشعل له سيجارة، قال وهو يربت على يده:‏

- كيف حال الموسم، عندكم في...‏

أكمل حمدان:‏

- في الجزيرة.. أنا من الجزيرة.موسم جيد.‏

قص عليه حمدان، حكاية، ولدي عمه، بكثير من التفاصيل، وأبو مسعود.. وهذا اسم الرجل. يصغي إليه بشغف، وهو يداوم على إشعال السجائر له، ولحمدان، ران صمت طويل. انكمش حمدان خلاله، وهو يرقب أبا مسعود، الذي كان يحك رأسه، ويقلب السيجارة بين شفتيه، وهو يهمهم، ثم قام فجأة، بعد أن ألقى السيجارة، بعيداً. وأمسك حمدان من يده، وهو يشير إلى النادل، ليأخذ الحساب:‏

- هيا معي. قبل أن يغادر الأستاذ المكتب.‏

في الطريق.افهمه.. إنه لابد من توكيل محام. لأنه. وإن كان العمل. في الحقيقة، هو الذي سيقوم به كله، إلا أن وجود المحامي، ضروري، حتى تبدو الأمور.. ضمن القانون.‏

قاطعه حمدان:‏

- اسمع، يا أبا مسعود، أنا لا أفهم، في مثل هذه الأمور، لا تتعب رأسي، أنا خلعت هذه المسألة من عنقي، وووضعتها في عنقك، وأنا تحت أمرك، في كل مايلزم.‏

أجاب، أبو مسعود، وهو يسرع في مشيته:‏

- أبشر، ياشيخ حمدان، حاجتك مقضية.. بإذن الله.‏

في مكتب المحامي. تركه واقفاً، في الصالة، وغاب داخل غرفة موصدة، وخرج إليه بعد دقائق وهو في غاية الانشغال، قال وهو يحرك يديه مستعجلاً:‏

- هيا.. أعطني مبلغاً من المال.‏

أخرج الصرة من عبه، وهو يستدير إلى إحدى الزوايا. وأخرج قسماً من المال. تناول أبو مسعود المال. وأخذ يعده مسرعاً، ثم شاهده حمدان، وهو يتجه إلى الغرفة الموصدة، يقسم المبلغ إلى قسمين، وضع قسماً، في جيبه، ودخل الغرفة.. بالثاني.‏

خلال الأيام التالية..لم يعد حمدان، إلا تابعاً، لأبي مسعود، يجول معه، كل النهار، بين السجن، والمحاكم، ودوائر أخرى. وفي المساء، كان يجلس، إلى يمين أبي مسعود، في مطعم السياحة، مع مدعوين... يتغيرون.. كل يوم، كان يؤكد له، أبو مسعود أنهم أصحاب علاقة.. بالقضية.‏

كانت الحفلة، تبدأ في الثامنة مساءً، وتنتهي في الواحدة، بعد منتصف الليل في البداية، كان أبو مسعود، يقوم بمهمة التعريف، بين حمدان والضيوف، ثم لم يعد، يفعل ذلك.‏

في الأيام التالية، أخذ حمدان يشعر، أن دوره أصبح معروفاً للمدعوين.. وله. أنه مرافق، أبو مسعود. صاحب القضية. وهو يصرف على قضيته، وفي النهاية، لم يعد ينظر إليه، سوى أنه صندوق أبي مسعود المتنقل.‏

يجلسون جميعاً، حول الطاولة الكبيرة، يصفق أبو مسعود، يأتي جملة، من الخدم يتقدم كبيرهم هاشاً باشاً. فهذه الطاولة، ستكون عامرة وباذخة وفي النهاية. سيكون البخشيش مجزياً.‏

أصبح أبو مسعود لا يسأله.. ماذا يأكلون، يطلب من (الشيف) أن يضع كل (السرفيس) الموجود في المطبخ، على الطاولة، وإذا أشار (الشيف) على مساعده.. أن يحضر زجاجة (ويسكي) يسارع، أبو مسعود ويطلب ثلاث زجاجات. ويطلب للجميع علب (الكنت)..‏

لم يعد حمدان يعترض على أي أمر يجري أمامه، خلال الأيام الماضية حصل اتفاق غامض، بينه وبين أبي مسعود، فهم كل واحد منهما مايضمره الآخر، استطاع أبو مسعود أن يعرف مقدار المبلغ المتبقي في عب حمدان. وكان قد قرر أن يستولي عليه كله، وكان حمدان قد سلم بذلك. ولكنه أضمر الشر لأبي مسعود، إذ نفض عبه، ولم ينه القضية كما يريد، هذه النوايا التي لم يسفر عنها أي تلميح، من الطرفين، جعلت حمدان يستسلم كلية، إلى صاحبه.‏

في أول سهرة، عرض عليه المشروب، رفض حمدان بشدة، فلم يعاود أبو مسعود ذلك. كان المدعوون بعد ساعة لا يعودوا يلاحظون وجود حمدان بينهم، كانوا يشعرون به وكأنه تمثال (فولكلوري) ينتصب بينهم، لكن هذا الشعور، لم يكن يمنعهم، عندما يسكرون أن يرفعوا الأقداح في صحته. وكان يشاركهم هذه اللفتة وهو يضحك بحبور. رافعاً في وجوههم كأس (اللبن الرائب) وكان أكثرهم، فقداناً للوعي، صاحبه أبو مسعود، لكن هذا الأمر لم يكن يمنع الأخير من حشر اللحم في صحن حمدان الكبير. كلما وجده قد أصبح شبه فارغ. اللحم هنا له أكثر من شكل ولون، وليس مثل اللحم في القرية، يعملون منه (حميساً) فقط.‏

كان إهمال الجميع له. وعدم شعورهم بوجوده بينهم لا يعكر صفو نفسه، إطلاقاً كان هذا التجاهل يجعله يأخذ حريته في جلسته. فقد كان بإمكانه أن يغير من جلسته باستمرار، مثلما كان يفعل في (الربعة) حتى أنه بعد ساعة كان يخلع حذاءه العتيق. وكان إهمالهم له يجعله يأخذ حريته في تناول الطعام، فلا يجد نفسه مضطراً إلى مجاراتهم في استعمال (الشوكة) والسكين في تناول اللحم. أو (السلطات) و(المتبلات) كان يستعمل أصابعه في أكل اللحم. والملعقة. في تناول السلطة، والخبز، في غمس المتبلات.‏

عند انتهاء الحفل، كان الجميع يقومون بعد شرب القهوة، ويغادرون المكان ويظل هو ينظر بحسرة إلى أكوام اللحم المتبقية في الصحاف الكبيرة ويشتم أبا مسعود في سره، الذي منعه منذ أول سهرة، عندما اقترح عليه أن يجمع اللحم المتبقي في ورقة كبيرة ويأخذه معه إلى الفندق.‏

يسدد الحساب مع (البقشيش) الكبير، الذي يظل أبو مسعود رغم سكره وترنحه ينبهه.. وهو يبتعد عنه، إلى زيادة مبلغ (البقشيش) ويمد يده، إلى كبير الخدم بالمال، فيما الأخير، وصبيانه يديرون له، ظهورهم وهم ينحنون إلى أبي مسعود، الذي غاب تماماً، خارج المطعم.‏

وأخيراً انتهت القضية على خير، وسلمه أبو مسعود كتاباً إلى السجن، بإخلاء سبيل حميدي وصفوك، ولم يسلمه الكتاب إلا بعد أن سحب حمدان الخرقة من عبه وهي فارغة، وبعد أن حلف له برأس أولاده.. أنه لم يعد يملك أي مبلغ من المال، وتصور حمدان، أن أبا مسعود سوف يودعه بالأحضان. كما استقبله. لكن الأخير وضع سيجارة جديدة في فمه، وهو يبتعد عنه، ملوحاً بيده، وهو يقول:‏

- إذا احتجت إلي، مرة أخرى، تعرف أين تجدني...‏

نظر حمدان، إلى الورقة، بذهول، ثم خبط الأرض بقدميه، وهو ينظر إلى طيف أبي مسعود الذي أخذ يغيب في البعيد همهم:‏

- رجل.. بلا أصل..‏

- ثم تلمس جيبه العميقة، داخل بطانة (الزبون) واطمأن إلى المبلغ الذي أخفاه هناك، بعيد عن عيون أبي مسعود، همس لنفسه بعد إخراج حميدي وصفوك من السجن. وقبل العودة إلى القرية.. سوف يخطف رجله إلى سوق الحميدية فقد وعد ترفه بثوب أحمر.. ترتديه عند النوم، كما وعد كل ولد من أولاده ببذلة وحذاء.‏

في السجن فوجئ حمدان.. بأن عليه، أن يدفع لقاء الإفراج عن الموقوفين... إكرامية لعدد لا يحصى، من الأشخاص واكتشف وهو يخرج مع ولدي عمه من السجن أن ماتبقى معه من مال بالكاد يوصلهم إلى قريتهم، لذلك ظل يلعن نفسه طوال الطريق... وبعد وصولهم إلى القرية.‏

ومن شدة سخطه على نفسه نام يومين متتالين.. من القهر...‏

في صباح اليوم التالي. استيقظ حمدان، كعادته، في السابق، على صياح زوجته ترفه، قابلت تجهم وجهه، بامتعاظ لم تحاول إخفاءه، فهو منذ وصوله... لم يقل لها حتى ولو كلمة حلوة...‏

عادت إليه. بعد ساعة، وكان قد انتقل من الفراش إلى البساط الأحمر، وكان يلف سيجارة، من العلبة أمامه، وضعت صينية الفطور أمامه، أبعد الصينية وهو ينقل بصرهُ بين زوجته، وبين صحن اللبن، ورغيف الخبز الأسمر وإبريق الشاي المصبوغ بالشحوار، نظرت إليه زوجته بشماتة وقالت:‏

- ألا يعجبك الطعام...‏

لم يرد عليها، فقد راح خياله يطوف بين الأيام الخوالي وموائدها العامرة. والتي تبدو له الآن، وكأنها لم تكن أكثر من حلم جميل.‏

أفاق، من شروده، على وجود ترفه أمامه. سمعها تقول:‏

- ستحتمل الجوع يوماً آخر، لكنك ستعود حتماً إلى الخبز واللبن والشاي كالحمل الوديع.‏

وأخذت تهمهم وهي تبتعد عنه:‏

- الله، لا يديم نعمة على عباد..تنسيهم حتى زوجاتهم