فكرة أن أكتب لك وردتني لحظة ضياع في المدينة الفارة من جلدها نحو المجهول، حيث لم يعد يعرفني أحد وأشبحهم جميعاً. تحديداً، على شاطئ المتوسط، أمام فيللا تطل بكثير من الصمت ومن الحنين على أفق يرسل أمواجه عند قدميها سيدة من السيدات الغابرات، تلثمها ثم تعود، لا تني تكرر، تستنطق الباب الحديدي طاله الصدأ، تنخره الرطوبة كما قلبي يغشاه صقيع الوحدة، فلا يجيب. تأثيث صديقي الكاتب إياها بتذكاراته الصغيرة تقاسيم حزن خجول على جدران صالتها، وبعض الكتب والمجلات والأوراق الأخرى تشكيل عبثي لإقامة مؤقتة حتمتها الأسباب الأمنية، وصمت، وأشياء هنا وهناك ينفلت منها سر أطفال كانت لهم كراريس وكتاب وأقلام وجورب وبعض لعب، وورقة مقطوعة على عجل فوق المدفأة الباردة: قد لا نعود. قبل أن يغادر إلى مكان جديد بالتعب والخوف، في حظيرة الموت المطلوب فيها هو وزوجته وولداهما على رأس حربة مكسورة أو في راية مهزومة ولكني لم أستطع، خلال إقامتي القصيرة، أن أخط أي شيء من تلك الفكرة، ستة أيام في عاصمة مهووسة بالعبور إلى المجهول، لا تسعف حتى على ترتيب ضرورات التعيش. لست أعلم إن كان يجب أن أذكر لك أن صديقي كان يصحبه "مسعود"، أنيسه، وواهبه شيئاً من الأمن. النار هي الخلاص برغم برودته، فحين لمسه تنبجس الحرارة تفعم قلبي أمناً، غير أني أشعر أن كل شيء ينهار في جزء من الثانية. سماء الله، والجمهورية، والخلافة، حين تغمرني بأن أدخل البحر، أتوغل إلى أن أتيقن أن بابه ورائي قد أقفل كيما أقطع حبل الرجعى وأغيب في عمق مداه. آخر شاعر عرفته كان نهض فجراً وعلى الشاطئ خلع ملابسه تحت أمطار ديسمبر وغادر في العمق. زوجة صديقي الشاعرة، راهبة الدير، كما كنت أكنيها وهي طالبة تشبك صديقي، لها صورة من دمشق تجنن اليأس، هي كل ما بقي قوياً على الحزن في الجدران، وظلت غائبة طيلة فترة إقامتي، انكسر في شيء من شجاعتي المتبقية من عهد السرية، كنت سآراها كما عهدتها بإصرارها على رؤية أخرى لوطن ممحون فأتماسك خجلاً من فزعي. وكان طفلاهما، هما الآخران، غائبين، كم هو معذب عيش الغياب في زمن حاضر غائب. لا أعلم أين، ولكن المؤكد أنهما عادا لا يذهبان إلى مدرستهما الصغيرة، وأنهما فقدا أصدقاءهما الصغار الجدد. وجدتني أسكن فراغ الفيللا الكبير ستة أيام فأصير الفراغ، برغم سعة البحر العظيمة تملأني أنفاسه اللامتناهية هدهدت في حنينا إلي رذاذ المطر على قرميد بيتنا ليالي الخريف. أكتب لك لا أدري سبباً محدداً، وأقول لك أشياء لا أستجلي دافعاً إليها، غير رؤيتي نهاراً بلا شمس. ربما لأني أتجرع، هنا، في هذه القرية الكبيرة، تأخذ مدى مدينة فوضوية متوحشة، عبات العزلة المدمرة. وربما، لأن حزني الذي أحمله تمزقاً قاضياً في قلبي يجبرني على أن أخرجه شيئاً مما يحسب هلوسة. وربما، أخيراً، لأقول لك، في هذه الظروف التي أنفك فيها أي منطق، أن في هذه الجزائر المجنونة السريالية الخابلة، رجالاً ونساء لا يزالون يعشقونها حد الإبادة، وقد لا يصرحون بأي صوت، بأي درجة، عن أي نية، لأنهم يعيشون عشقهم بالأعصاب كلها، وبالعرق وبالقلق وبالحزن أجمعه، ولكن بالشجاعة وحدها أيضاً. إني أعتقد أن تلك المجنونة موجودة هناك، في عمق ذاكرة البحر والشجر وفي جرح الصحراء، في القلب نبضاً، وإنما المعيش، الواقعي مجرد سراب للحمق كله. أكتب لك هذا بنوع من الوثوق يزكيه دم صديق آخر، كاتب، خبله التحبير لعيني المجنونة، نجا بمعجزة، هو وحده يعلم كرامتها، من اغتيال محقق، بعد أن اخترقت رقبته وقفاه رصاصتان، وهو منكب على كتاب، في رحبة الحومة، أثر إحداهما لا يزال حيا على خده، وأثر الأخرى يكاد يعطل الصوت القادم من صدر مفعم بالحياة والإيمان، يكابر جرحه بإصراره الأمازيغي المعهود. هذه الجزائر وجدت من أجلنا نحن، فهي لن تركع، لأن قلبها الممون بدم الشهادة يأبى أن يسلم لنهاية الظلمة، ترى البحر، هذه العظيمة تملك كل ما يمكن لبحر أن يحتويه، وأن يهبه، وأن يدمره، إنها دائمة السخاء، غير مؤتمنة أبداً. وقلت له أشكره على قهوة المساء. لحليبك لونها، ولمعجون الفراولة البلدي مذاقها، سلمت يدا السيدة. حيث أقيم لا وجود لقباضة بريدية، ويتعذر على أن أتنقل إلى الحي، يجب أن أنتظر متى سنحت فرصة الخروج لأرمي هذه الرسالة. فقد تصل، ومهما يكن فإني أحس شيئاً من الانبساط في قلبي، لأني تحدثت. ينبغي أن نعترف بأن ما يصيب هذا الوطن الجميل لا يصدر، كوباء إلا من الحماقة التي خلفتها العقلية الهلالية. إنه لشر عظيم وبأس مستديم أن تدمر هذه الحياة الرائعة في هذه الجزائر الجميلة، وأن تُرى شناعة الفعل في سلبية قاسية فلا توقف. ولكنه عزاء أن يحصل الإحساس بأن هناك، دوماً، رجالاً يشاطرونك نصيباً من قلقك المدمر
فكرة أن أكتب لك وردتني لحظة ضياع في المدينة الفارة من جلدها نحو المجهول، حيث لم يعد يعرفني أحد وأشبحهم جميعاً. تحديداً، على شاطئ المتوسط، أمام فيللا تطل بكثير من الصمت ومن الحنين على أفق يرسل أمواجه عند قدميها سيدة من السيدات الغابرات، تلثمها ثم تعود، لا تني تكرر، تستنطق الباب الحديدي طاله الصدأ، تنخره الرطوبة كما قلبي يغشاه صقيع الوحدة، فلا يجيب.
تأثيث صديقي الكاتب إياها بتذكاراته الصغيرة تقاسيم حزن خجول على جدران صالتها، وبعض الكتب والمجلات والأوراق الأخرى تشكيل عبثي لإقامة مؤقتة حتمتها الأسباب الأمنية، وصمت، وأشياء هنا وهناك ينفلت منها سر أطفال كانت لهم كراريس وكتاب وأقلام وجورب وبعض لعب، وورقة مقطوعة على عجل فوق المدفأة الباردة: قد لا نعود. قبل أن يغادر إلى مكان جديد بالتعب والخوف، في حظيرة الموت المطلوب فيها هو وزوجته وولداهما على رأس حربة مكسورة أو في راية مهزومة ولكني لم أستطع، خلال إقامتي القصيرة، أن أخط أي شيء من تلك الفكرة، ستة أيام في عاصمة مهووسة بالعبور إلى المجهول، لا تسعف حتى على ترتيب ضرورات التعيش.
لست أعلم إن كان يجب أن أذكر لك أن صديقي كان يصحبه "مسعود"، أنيسه، وواهبه شيئاً من الأمن.
النار هي الخلاص برغم برودته، فحين لمسه تنبجس الحرارة تفعم قلبي أمناً، غير أني أشعر أن كل شيء ينهار في جزء من الثانية.
سماء الله، والجمهورية، والخلافة، حين تغمرني بأن أدخل البحر، أتوغل إلى أن أتيقن أن بابه ورائي قد أقفل كيما أقطع حبل الرجعى وأغيب في عمق مداه. آخر شاعر عرفته كان نهض فجراً وعلى الشاطئ خلع ملابسه تحت أمطار ديسمبر وغادر في العمق. زوجة صديقي الشاعرة، راهبة الدير، كما كنت أكنيها وهي طالبة تشبك صديقي، لها صورة من دمشق تجنن اليأس، هي كل ما بقي قوياً على الحزن في الجدران، وظلت غائبة طيلة فترة إقامتي، انكسر في شيء من شجاعتي المتبقية من عهد السرية، كنت سآراها كما عهدتها بإصرارها على رؤية أخرى لوطن ممحون فأتماسك خجلاً من فزعي.
وكان طفلاهما، هما الآخران، غائبين، كم هو معذب عيش الغياب في زمن حاضر غائب. لا أعلم أين، ولكن المؤكد أنهما عادا لا يذهبان إلى مدرستهما الصغيرة، وأنهما فقدا أصدقاءهما الصغار الجدد.
وجدتني أسكن فراغ الفيللا الكبير ستة أيام فأصير الفراغ، برغم سعة البحر العظيمة تملأني أنفاسه اللامتناهية هدهدت في حنينا إلي رذاذ المطر على قرميد بيتنا ليالي الخريف.
أكتب لك لا أدري سبباً محدداً، وأقول لك أشياء لا أستجلي دافعاً إليها، غير رؤيتي نهاراً بلا شمس.
ربما لأني أتجرع، هنا، في هذه القرية الكبيرة، تأخذ مدى مدينة فوضوية متوحشة، عبات العزلة المدمرة.
وربما، لأن حزني الذي أحمله تمزقاً قاضياً في قلبي يجبرني على أن أخرجه شيئاً مما يحسب هلوسة.
وربما، أخيراً، لأقول لك، في هذه الظروف التي أنفك فيها أي منطق، أن في هذه الجزائر المجنونة السريالية الخابلة، رجالاً ونساء لا يزالون يعشقونها حد الإبادة، وقد لا يصرحون بأي صوت، بأي درجة، عن أي نية، لأنهم يعيشون عشقهم بالأعصاب كلها، وبالعرق وبالقلق وبالحزن أجمعه، ولكن بالشجاعة وحدها أيضاً.
إني أعتقد أن تلك المجنونة موجودة هناك، في عمق ذاكرة البحر والشجر وفي جرح الصحراء، في القلب نبضاً، وإنما المعيش، الواقعي مجرد سراب للحمق كله.
أكتب لك هذا بنوع من الوثوق يزكيه دم صديق آخر، كاتب، خبله التحبير لعيني المجنونة، نجا بمعجزة، هو وحده يعلم كرامتها، من اغتيال محقق، بعد أن اخترقت رقبته وقفاه رصاصتان، وهو منكب على كتاب، في رحبة الحومة، أثر إحداهما لا يزال حيا على خده، وأثر الأخرى يكاد يعطل الصوت القادم من صدر مفعم بالحياة والإيمان، يكابر جرحه بإصراره الأمازيغي المعهود.
هذه الجزائر وجدت من أجلنا نحن، فهي لن تركع، لأن قلبها الممون بدم الشهادة يأبى أن يسلم لنهاية الظلمة، ترى البحر، هذه العظيمة تملك كل ما يمكن لبحر أن يحتويه، وأن يهبه، وأن يدمره، إنها دائمة السخاء، غير مؤتمنة أبداً. وقلت له أشكره على قهوة المساء. لحليبك لونها، ولمعجون الفراولة البلدي مذاقها، سلمت يدا السيدة.
حيث أقيم لا وجود لقباضة بريدية، ويتعذر على أن أتنقل إلى الحي، يجب أن أنتظر متى سنحت فرصة الخروج لأرمي هذه الرسالة. فقد تصل، ومهما يكن فإني أحس شيئاً من الانبساط في قلبي، لأني تحدثت.
ينبغي أن نعترف بأن ما يصيب هذا الوطن الجميل لا يصدر، كوباء إلا من الحماقة التي خلفتها العقلية الهلالية.
إنه لشر عظيم وبأس مستديم أن تدمر هذه الحياة الرائعة في هذه الجزائر الجميلة، وأن تُرى شناعة الفعل في سلبية قاسية فلا توقف.
ولكنه عزاء أن يحصل الإحساس بأن هناك، دوماً، رجالاً يشاطرونك نصيباً من قلقك المدمر