كأننا لم نفترق

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ماري رشو | المصدر : www.awu-dam.org

قبل أن أحتسي القهوة، شعرت بوقع خطوات تتوقف، أتاني صوت نسائي بطريقة أقرب للتمني منها للسؤال:‏

-هل أستطيع الجلوس؟‏

قلت وأنا أرفع عينيّ عن محتويات حقيبتي:‏

-طبعاً.‏

جلست بهدوء وهي تضع قدح القهوة أمامها، لاحظت ابتسامتها، وعينيها اللتين تشعّان ببريق، أضفى على وجهها الأسمر الممتلئ، مسحة من الجمال.‏

جلت ببصري فيما حولي، كانت الاستراحة تغصّ بالمسافرين، حركة متواصلة سريعة مسافرون إلى دمشق، عائدون منها، وجوه متعبة، أجساد مرهقة، الوجوه تبتسم، بعض آخر قلق. عدت إلى المرأة، كانت مكتنزة، ترك الزمن بصمات فوق الوجه، كانت عيناها لا تفارقان وجهي. لاحظت رغبتها في الحديث، في السؤال. تعمّدت تجاهلها، فقد مللت من السفر والمحطات، من الأسئلة والأحاديث، فالسفر منذ الفجر الباكر أرهقني، في كل الأحوال، هي مسافرة عابرة، تجمعني بها المنضدة الواحدة، بين الضجيج والحركة، والصمت الذي أطبق علينا.‏

بدت المرأة مرتبكة. ملت برأسي جانباً"، فلكل همومه، ومشاكله، غير أنها سحبتني من الهدوء. الذي كنت بحاجة إليه قائلة:‏

-هذا الحر مزعج!‏

عرفت أن الحديث موجه إليّ، قلت بتكاسل:‏

-أجل!‏

تابعت قائلة:‏

-الحر في دمشق مقبول. أنا أحب مناخ دمشق، أما اللاذقية ورطوبتها؟ يا إلهي كم هي مزعجة!‏

قلت أصطنع اللطف:‏

-الحق معك.‏

اعتقدت أن الحوار انتهى، غير أنها سألتني بجدّية، لا تخلو من الاهتمام قائلة:‏

-هل أنت من دمشق؟‏

قلت باقتضاب وأنا أحاول إخفاء ضجري:‏

-لا.‏

بدا الانشراح في نبرات صوتها، قالت:‏

-أنا أيضاً لست من دمشق، كنت أقيم مع زوجي وأبنائي في الخارج، والآن في دمشق بسبب العمل.‏

أنهت حديثها ورمقتني بنظرة، وكأنها توحي لي بتفاصيل أوسع، كان عليّ الهروب من حديث لا أرغب فيه في وقت كهذا، أخرجت بعض الأوراق من الحقيبة، فكّرت بكل ورقة، ورحت أحسب الوقت الذي كلّفني لتصديقها. تذكّرت سائقي سيارات الأجرة. شعرت بالامتعاض لعنت العدّاد الذي خرّب ضمائر السائقين الذين يمارسون الشطارة على الغرباء.‏

أعدت الأوراق. كان قدح القهوة يشارف على الانتهاء. نظرت إلى الساعة. تململت.‏

ألقيت نظرة فيما حولي. التقت عيناي بعيني المرأة التي ابتسمت. بادلتها الابتسام. فكرت بالنهوض والتحرك نحو الباص. غيّرت رأيي إذ وجدت السائق غارقاً في صحن طعام أمامه، بينما انهمكت يداه بتقطيع رغيف الخبز.‏

شغلت نفسي بمراقبة الآخرين. امرأة مسنّة تراقب الرجل المسنّ الذي يجلس قربها شذراً، بينما هو يتابع بعينيه المتهدّلتين إحدى الصبايا العابرات. ضحكت في سري. قفزت طفلة تلاحق ولداً يقاربها في السن وهما يتضاحكان. كان المشهد ممتعاً حين سحبتني المرأة من تفكيري. وقد حمّلت السؤال مزيداً من اللهفة قائلة:‏

-هل أنت ذاهبة إلى دمشق؟‏

أجبت على عجل:‏

-لا.. إني عائدة منها.‏

-أنا عائدة من اللاذقية. كنت بزيارة لإحدى قريباتي.‏

هززت رأسي في اللحظة التي تابعت متسائلة:‏

-من أين أنت؟‏

نظرت إليها ملياً ثم قلت بنزق:‏

-من اللاذقية.‏

لاحظت تبرمي، لجأت إلى صمت قصير، أعقبته بحركة من يدها وهي تتأفف، وفجأة بدت وكأنها قرّرت الحديث، سألت:‏

-إذن أنت من اللاذقية؟‏

لم أجب، غير أنها أصرت على المتابعة:‏

-لقد عشت في اللاذقية بضع سنوات. كان هذا قبل ثلاثين عاماً.‏

هززت رأسي. بدت محبطة. غير أنها استعادت ثقتها بنفسها، وهي تحاول إثارتي:‏

-اللاذقية في الصيف لا تطاق، وتدعو إلى الملل في بقية الفصول، لا منتزهات، لا أماكن خاصّة بالرفاهة.‏

لاحظت خلال ثوان عذوبة ابتسامتها، غير أنني لم أستسغ حديثها، وكنت أفكر بدمشق الحارة جداً، فكرت أن أقول شيئاً، تراجعت، فأنا أهوى اللاذقية، فهي أجمل المدن، الحرّ فيها جميل، والبرد، والدفء، والرطوبة، وكل ما فيها جميل، قفز إلى ذاكرتي شريط من الذكريات، هنالك عند الشاطئ الصخري الذي كان يفصلنا عن البحر خطوات، كنا نرتاح هناك، نعبر الطريق بمحاذاة الشاطئ الجميل، كنا أكثر من صديقة، نحلم بالحب، فتأتي المواعيد مع الغروب، مع الأمل والانتظار، وكنا نثرثر، نضحك لأي شيء، وكان لكل منا حبيبها الوهمي الذي سيعبر بعد قليل، قد يلقي السلام، أو الكلمات، أو يسرق نظرة، تلك الأيام التي ما برحت تهاجم الذاكرة بين الحين والحين، توقظ ما يشبه الحنين إلى أيام مضت، كان كل شيء مختلفاً، البحر والسماء، الشمس والقمر، الأرض والشجر، والعلاقات بين الناس، الحب، الصداقة، وأكثر الأشياء، كان في وجوه الأطفال إشراقة الصبح، وصفاء النهار، واستراحة الحلم، كان الحاضر يبشّر بالآتي الجميل، كان بلدنا ينتظر امتداده الكبير، هكذا حلمنا تلك الأيام. سينطلق كل منا على امتداد الوطن، محققاً مع الآتي الحلم والأمل اللذين كانا أقرب إلى الحقيقة، بل كانا الحقيقة، لم لا، وكيف لا؟ وربما يكبر الحلم ذات يوم مع اللاذقية التي كبرت، وأصبحت أجمل، لتبقى الذكرى تعرج دون موعد، كما هي الآن.‏

سحبتني المرأة من أفكاري، وكأنها تصر أن تخطف الحلم من عيني، وهي تردد ببساطة:‏

-بماذا تفكرين؟‏

أصابتني الدهشة لسؤالها، ها هي تتدخل بشؤوني، وخلال لحظات انتابتني موجة من الضحك، رحت أفرغ تعب النهار بلحظات من المرح، أو أن حالة الإرهاق التي أعيشها تبحث عن ثغرة للهروب، وتذكرت أن النفس والجسد، يستطيعان الدفاع عن وجودهما، بطريقة من الطرق، وكنت ألملم الدمع من عيني، وألاحظ أن امرأة تمعن النظر إليّ. تبادلني الضحك، ثم تشرد قليلاً، إلى أن قالت:‏

-كان لي صديقة من اللاذقية!‏

تجاهلت كلماتها التي حمّلتها مزيداً من النقاء، ورحت أشغل نفسي بأشياء أخرى، وقد لازمني شعور المرح. نظرت إلى الساعة، ثم إلى السائق الذي نفض يديه ونهض، نهضت، وكنت أفكر بالإسراع واللحاق به.‏

اكتشفت أن المرأة تسير بمحاذاتي. ضحكت ثانية. هززت رأسي باستغراب، لكنها أصرت على الإمساك بي. خفت أن تعود للأسئلة التي على بساطتها كانت مملّة. كان في نظرتها شيء غريب، مختلف، شيء يذكر بأشياء، ترى ما الذي ستقوله أيضاً"؟ ومع نداءات الباص المتكرّرة، سألتها لأول مرة وعلى عجل:‏

-ماذا لديك؟ قولي!‏

أجابت بطريقة جادة:‏

-قلت لك، كان لي صديقة في اللاذقية!‏

قلت على عجل أيضاً:‏

-سمعت هذا، وماذا أيضاً؟‏

كان وجهها ينضح بالذكرى، وقد انبثقت من عينيها، ألوان من بحر وأرض وسماء، وهي تحدّق بعينيّ وتردّد:‏

-كان اسمها ليلى. ربما تعرفينها!‏

خفق قلبي، غير أن صوراً كثيرة استيقظت في داخلي، سألتها وقد تهدج صوتي:‏

-من أنت؟ ما اسمك؟‏

قالت وهي تحدّق بعيني أكثر:‏

-اسمي حياة!‏

كانت تتابع، وأنا عبر الدهشة والتذكّر، وربط الصور، والأسئلة، وتقاطيع الوجه التي جسّدت صورتها كما أعرفها، وخلال ومضة تأكدت أنها هي. إنها هي، حياة الجميلة التي أحبت، وتزوجت، ووفت، ثم رحلت مع الزوج إلى الخارج.‏

علا صوتها وهي ترتمي علي. عانقتها وأنا في ذهول. كانت كل منا تردّد اسم الأخرى بفرح ولهفة، وخلال لحظات تلاشى كل شيء. احتللنا المكان والزمان، كنا معاً نبتعد عن الآخرين، عن الباص، عن السائق الذي استشاط غضباً، وكأننا نعبر شاطئ اللاذقية الجميل، كما في الماضي، نثرثر. نضحك لأي شيء، وكأننا لم نفترق أبداً