حــــيرة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

تسقط ورقة يوم آخر، وكبعض الأزهار التي تغلق ضوءها وأريجها ليوم مقبل يتجمع ضوء النهار في هدوء وينسحب، ثم يغيب كصوت امتصته الأشجار والدروب.. ومن خيمته الكبيرة كالكون يمتد المساء كحبر على ورق النشاف... أحياناً يهبط ثقيلاً ويتوغل كالهم إلى القلب.. يلتف حولك كالقماط المطبق على سرير طفل لا تدري كيف بقيت صورته في الذاكرة... تتنفس بمشقة وتفكر بأشياء وموضوعات تحار في تقدير قيمتها، وتتردد في إعلانها... وتبحث عن مخرج منها، أو من نفسك.. تتساءل إن كان من المعقول أن يكون المرء ضحية كابوس وهو يقظان؟!‏

قلَّتْ أصوات السيارات والدراجات النارية، واختفت أصوات الباعة المتجولين والأطفال، والريح ساكنة، بل غائبة كلياً... والشرفات خالية من السكان... لابد أنه وقت "المسلسلات".. من هنا إذن هذا الصمت حولك في غرف البيت؟! ترى هل تبدو البيوت فعلاً محزنة بغير الأبناء؟! ماذا تعمل؟! تسمع نشرة الأخبار مرة أخرى، تصنع فنجاناً من القهوة، تتأمل محتويات البيت، تصل رائحة زهر الفل فتخرج، تجلس معها تتنشقها بعمق عن قرب، تأتي بكتاب، بعد قليل تعيده إلى مكانه وتأتي بآخر، لا، الأفضل الآن ديوان شعر.. يبدو الشعر كوجبة طعام اقتصرت على البطاطا المسلوقة!! تقول كالفرنسيين: أين يُذْهَب؟! الذاكرة متعبة والنفس لا تطلب شيئاً، تستعين بدفتر الهاتف وتستعرض الأسماء من الألف إلى الياء.. تستعيد قولة ذلك الأمير العباسي لوصيفه: "إنني بحاجة إلى حديث قصير قصير، ولو بطول الإصبع" أحقاً؟! مع من، وفيم؟! حتى لو كانت تلك حاجة إنسانية تحس أن هناك شيئاً ما أعلى منها.. إن هموم الناس تتغلغل في خلاياك ودمك بغير إرادتك، إلا إن كنت حجراً!! كيف قال تميم بن مقبل: "ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر.. " لو أن الفتى حجر!! لو كان كذلك ربما طحنوه لغرض ما، أو قطعوه للبناء أو ليصنعوا منه رخاماً، أو لتتقاذفه الأرجل... أكان يعني أن يعيش بغير إحساس؟! لا معنى للعيش بغير إحساس...‏

كل هذا باطل، وضيق، والوقت يتراكم فوق القلب... هل تشعر أنك تقترف خيانة أو ترتكب حماقة إن مر الوقت بغير معنى، بغير عطاء؟! هؤلاء الذين يقتلون الوقت كأولئك الذين يقتلعون الأشجار الفتية من الأرصفة، أو يدعسون البشر بسياراتهم...الوقت ثمين كالأشجار والأطفال، ومن العبث أن يمضي وأنت تحملق في الجدار.. ولكن الأتربة تملأ الذاكرة وتعيق التنفس، فافتح لنفسك نفقاً واخرج إلى... إلى أين؟!‏

تتوقف الموسيقى.. حسناً، ضع شريطاً آخر وحاول أن تتوهم أنك تتواصل مع هؤلاء الذين أحسنوا الإصغاء إلى نبض القلب وأعادوا الغناء في زحمة الأصوات، تجد للموسيقى وقعاً آخر، تحسها هجرة طيور مُفزَعة ومحزونة وهي تسلم أجنحتها لرياح الأرض.. يبدو أمام الذاكرة خريف سلبوه زينته فأرسل أوراقه دموعاً تنحدر على خد الأرض... لا، هذا زمن فصل من أحجار وأقيسة ولقد مضى زمن الأحلام والتخيلات، وعليك أن تتلمس طريقك فيه بواقعية مرة، بإجراءات وإنجازات وبألف حساب وحساب.. وإلا فستظل طيور ترحل حائرة، وسيظل الخريف يفتتح كل عام مقابر لورق الشجر، والبحر يأخذ من الرمل ويعطي، وأنت واقف نهباً للتوزيع والحيرة والتساؤل!!‏

وبعد، فهذه وحشة الليل التي يتساوى فيها الخروج والدخول.. وقت يخلط الممكن بالمستحيل، وحالة من الحيرة التي تُصعِّدها النفس بحثاً عن معنى أعمق لهذا العمر الذي يجري فوق الأرض كالسراب... وكالسراب يرحل، وما تزال العيون تظنه ماء، ولاهثة تجري إليه، وتظل ظمأى، ولعلها من أجل ذلك تتعزى في الليل بجرعة ماء تسعى بها إلى يباس العروق