إن كنت نسيت تفصيلات القصة فالحق على جدتي، أو على ذاكرة الطفولة التي تعبت الآن، لكنني -على أية حال- لم أنس فكرة القصة، ولا أكتمكم أنه يمكن أن نجد لها مرتسماً أو إسقاطاً عصرياً يرى الإنسان العربي صلاحيتها لتمثيل واقعه، أو يجد لذة في إعادة قراءتها، في ضوء العصر والمستجدات! قالت جدتي: كان هناك كلب مسكين، جائع. والجوع قد يكون للحصول على الطعام، أو قد يكون للوصول إلى الحقيقة.. وكان هذا الكلب يتفاءل بسماع صوت قرع الطبول ويقول: "هانَتْ"، لأن قرع الطبول يعني أن هنالك عرساً أو فرحاً فيه ذبائح، ولا بد -عند ذبح الذبائح- من نصيب للكلاب... على الأقل من العظام، أو مما يرمى من نفايات لا يأكلها الآدميون.. ويوماً سمع الكلب قرع الطبول في قرية مجاورة، فسُرَّ أيما سرور، ونبح، وعوى، ودار حول نفسه قبل أن ينطلق كالريح نحو تلك القرية... وكانت الليلة عاصفة، ومع ذلك قبل المخاطرة ومضى لكنه قبل أن يصل إلى مصدر أصوات الطبول... إلى القرية إياها، سكتت الأصوات.. فوقف وتسمع وفكر، وراح يتشمم بتركيز من غير جدوى... وفجأة سمع قرع الطبول في جهة أخرى، وفي تلك الجهة كانت قرية لها مكانتها، فظن الكلب نفسه واهماً، وعزا سرعته إلى خطأ في السمع، وهكذا عدَّل اتجاهه وانطلق مسرعاً نحو القرية الأخرى... نحو أصوات الطبول...ولكنه قبل أن يصلها بقليل توقفت الأصوات... ومرة أخرى، وقع في الحيرة، وعزا ذلك إلى التسرع وسوء التقدير، ولعن الشيطان وأقعى يتسمع فتناهت إليه أصوات الطبول من قرية ثالثة في الاتجاه المعاكس اللَّذي كان يقصده.. فتريث قليلاً، ثم انطلق إلى حيث تصدح الطبول من جديد... وراح يحث الخطا ويلهث آملاً بالخير الذي حلم به منذ البداية... ولكنه قبل أن يصل هذه القرية أيضاً انقطعت الأصوات، فوقف يلهث دالعاً بلسانه، حزيناً، موزعاً بين الحيرة واليأس.. وبقية أمل يتشبث به بغباء مضحك، أو بتفاؤل لا يريد أن يتخلى عنه... وفي تلك اللحظة تناهى إليه صوت قرع الطبول مجدداً من الجهة الأولى التي كان انطلق إليها فقال في نفسه: لا بد أنها الحقيقة -الأصل.. وأطلق ساقيه للريح باتجاه الصوت من غير أن يقبل بترك الفرصة لليأس أن يحل في أي موضع من ساحة تفكيره، أو ينال من عزيمته.. وظل يجري ويلهث حتى أوشك أن يصل إلى تلك القرية التي تَنْقَحُ فيها الطبول... لكنه قبل أن يصلها بقليل انقطعت الأصوات... وسكت كل شيء... وبدأ الفجر الواضح يقترب. ومع خيوط الفجر بدأت خيوط الحقيقة تتمزق وتتكشف عن الخيبة والوهم...وأشرفت القصة على نهايتها.. ذهب الصوت مع جدتي إلى المقبرة، وبقي الصدى.. ونحن يا جدتي مرميون في العراء.. نسمع الطبول تقرع، وننصت أو نلهث، نلتمس الحقيقة.. كلما سمعنا الأصوات ظننا أنها هناك وصدقنا حواسنا أو حدسنا، وعند التحري والاستقصاء يتكشف لنا أنها من المحتمل أن تكون في جهة أخرى كما تنبئ الأصوات.. لكنها لا تكون.. لم تعد الحقائق على الأرض ولا أصحابها، لقد تغربت الحقائق وتغربنا، صارت الحقائق ككلمات السر في الجيوش، وقفاً على قلة قليلة، وكي لا يُنازَعوا فيها ارتفعوا عن الأرض، وعلوا وعلوا حتى اجتازوا منطقة الجاذبية.. ونحن مرميون على الأرض مشدودون إليها انتماء وبفعل الجاذبية، ومصنفون كالفواكه الفاسدة التي سقطت على الأرض وتفرقت فلا شيء يجمعها.. ولأن الطبول لم تعد تستثير لهاثنا بقرعة أو قرعتين توالى القرع، وتعددت مصادره.. وأوشك العالم من حولنا أن يتحول إلى جوقة من الطبول لا يتحرك لها أحد...ولكن أحداً لا ينام.. لأن يداً دافئة كيدك صارت أشبه بالحلم... كل أصبع فيها كانت ناياً يفتح مخمل النوم.. أما الآن، فكل أصبع صارت سبابة مرفوعة لنا أمام الشفتين!!
إن كنت نسيت تفصيلات القصة فالحق على جدتي، أو على ذاكرة الطفولة التي تعبت الآن، لكنني -على أية حال- لم أنس فكرة القصة، ولا أكتمكم أنه يمكن أن نجد لها مرتسماً أو إسقاطاً عصرياً يرى الإنسان العربي صلاحيتها لتمثيل واقعه، أو يجد لذة في إعادة قراءتها، في ضوء العصر والمستجدات!
قالت جدتي: كان هناك كلب مسكين، جائع. والجوع قد يكون للحصول على الطعام، أو قد يكون للوصول إلى الحقيقة.. وكان هذا الكلب يتفاءل بسماع صوت قرع الطبول ويقول: "هانَتْ"، لأن قرع الطبول يعني أن هنالك عرساً أو فرحاً فيه ذبائح، ولا بد -عند ذبح الذبائح- من نصيب للكلاب... على الأقل من العظام، أو مما يرمى من نفايات لا يأكلها الآدميون.. ويوماً سمع الكلب قرع الطبول في قرية مجاورة، فسُرَّ أيما سرور، ونبح، وعوى، ودار حول نفسه قبل أن ينطلق كالريح نحو تلك القرية... وكانت الليلة عاصفة، ومع ذلك قبل المخاطرة ومضى لكنه قبل أن يصل إلى مصدر أصوات الطبول... إلى القرية إياها، سكتت الأصوات.. فوقف وتسمع وفكر، وراح يتشمم بتركيز من غير جدوى... وفجأة سمع قرع الطبول في جهة أخرى، وفي تلك الجهة كانت قرية لها مكانتها، فظن الكلب نفسه واهماً، وعزا سرعته إلى خطأ في السمع، وهكذا عدَّل اتجاهه وانطلق مسرعاً نحو القرية الأخرى... نحو أصوات الطبول...ولكنه قبل أن يصلها بقليل توقفت الأصوات... ومرة أخرى، وقع في الحيرة، وعزا ذلك إلى التسرع وسوء التقدير، ولعن الشيطان وأقعى يتسمع فتناهت إليه أصوات الطبول من قرية ثالثة في الاتجاه المعاكس اللَّذي كان يقصده.. فتريث قليلاً، ثم انطلق إلى حيث تصدح الطبول من جديد... وراح يحث الخطا ويلهث آملاً بالخير الذي حلم به منذ البداية... ولكنه قبل أن يصل هذه القرية أيضاً انقطعت الأصوات، فوقف يلهث دالعاً بلسانه، حزيناً، موزعاً بين الحيرة واليأس.. وبقية أمل يتشبث به بغباء مضحك، أو بتفاؤل لا يريد أن يتخلى عنه... وفي تلك اللحظة تناهى إليه صوت قرع الطبول مجدداً من الجهة الأولى التي كان انطلق إليها فقال في نفسه: لا بد أنها الحقيقة -الأصل.. وأطلق ساقيه للريح باتجاه الصوت من غير أن يقبل بترك الفرصة لليأس أن يحل في أي موضع من ساحة تفكيره، أو ينال من عزيمته.. وظل يجري ويلهث حتى أوشك أن يصل إلى تلك القرية التي تَنْقَحُ فيها الطبول... لكنه قبل أن يصلها بقليل انقطعت الأصوات... وسكت كل شيء... وبدأ الفجر الواضح يقترب.
ومع خيوط الفجر بدأت خيوط الحقيقة تتمزق وتتكشف عن الخيبة والوهم...وأشرفت القصة على نهايتها.. ذهب الصوت مع جدتي إلى المقبرة، وبقي الصدى..
ونحن يا جدتي مرميون في العراء.. نسمع الطبول تقرع، وننصت أو نلهث، نلتمس الحقيقة.. كلما سمعنا الأصوات ظننا أنها هناك وصدقنا حواسنا أو حدسنا، وعند التحري والاستقصاء يتكشف لنا أنها من المحتمل أن تكون في جهة أخرى كما تنبئ الأصوات.. لكنها لا تكون.. لم تعد الحقائق على الأرض ولا أصحابها، لقد تغربت الحقائق وتغربنا، صارت الحقائق ككلمات السر في الجيوش، وقفاً على قلة قليلة، وكي لا يُنازَعوا فيها ارتفعوا عن الأرض، وعلوا وعلوا حتى اجتازوا منطقة الجاذبية.. ونحن مرميون على الأرض مشدودون إليها انتماء وبفعل الجاذبية، ومصنفون كالفواكه الفاسدة التي سقطت على الأرض وتفرقت فلا شيء يجمعها.. ولأن الطبول لم تعد تستثير لهاثنا بقرعة أو قرعتين توالى القرع، وتعددت مصادره.. وأوشك العالم من حولنا أن يتحول إلى جوقة من الطبول لا يتحرك لها أحد...ولكن أحداً لا ينام.. لأن يداً دافئة كيدك صارت أشبه بالحلم... كل أصبع فيها كانت ناياً يفتح مخمل النوم.. أما الآن، فكل أصبع صارت سبابة مرفوعة لنا أمام الشفتين!!