مـــحطـة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

أنت على مشارف محطة أخرى، تجلس كالمسافر شارداً زائغ العينين بجوار النافذة، تود أن تغفو لتستريح من إدامة التأمل، أو توشك أن تغفو... ومن أمام العينين تهرب المرئيات سابحة نحو الخلف كلها.. بفتور ومحايدة ترسل إلى الأرض المتراجعة نظرة غير عابئة بفكرة الدوران أو الاتجاه: ثمة سهول تقترب من النافذة كحلم مخادع والفجر قريب، وتبتعد كذكرى طفولة هجرتها التفاصيل..‏

ثمة منخفضات وتضاريس ومنعطفات.. وحال متأرجحة بين الصحو والغفو.. ومحطات بين الظهور والغياب، وقطار الفلوات يعيد لفظ المسافرين أو ابتلاعهم... ثم يحشرج صوته في مسار صدر الزمن الآفل...‏

على صفحة أخرى تعدل من جلستك، تبدو أيضاً غير عابئ بما حولك، بل ربما يزيدك اللون المتشابه استغراقاً وغيبوبة: ثمة زرقة لا انتهاء لعمقها.. بحر على المدى مستميت، وسماء واقفة.. والسفينة تكبو مستسلمة لوسن المقيل والانقياد.. والمياه كالأرض والهواء تحملك على مركب آخر... بقليل من الحسرة تنظر إلى الخلف وتستقرى ما كتبت السفينة على مسارها، فينطوي الماء على الماء، وتغلق ارتعاشة الجراح بوجه الذاكرة. وتنظر من نافذة القطار الخلفية فينخطف من العين خط يبدو كالسهم مضيئاً.. ثم كالشعرة... ثم يغيب...‏

تنظر إلى الأمام بغير لهفة: بين الحين والآخر يتلامع ضوء كليلٌ في أفق بعيد... ويعرف من جرب الترحال أنه ضوء لا يعد بشيء.. والزمن لا يني يزرع في حقول الذاكرة خيبات، وبفعل الزمن تنمو، وتتقوى كالصبار، أشواكاً ومرارة.. في مرافئ الفصول والوصول.. في الحدود والمحطات تتناهب المسافرين هواجس شتى. ولكلٍّ رياحه.. في المحطات ثمة أبواب تفتح للتنهد واستراد الأنفاس، أو ثمة غربة، وعذاب جديد، وبدء من الصفر ربما... أو وصول إلى استراحة الأمان. وقد تكون هناك في المحطات وجوه مرحبة... وربما دموع وضياع، وفقد.. فماذا واجد أنت في محطتك المقبلة؟! يعرف من جرب السفر أن المحطات لا تحمل إلى المسافر شيئاً... هو الذي يحمل إليها ما يحمل... ويعرف من أعاد النظر من خلف زجاج نوافذ المراكب والقُطُر كيف تتراجع من حوله المرئيات، وتختفي طي الزمان والمكان... وكيف يتقدم هو مثقلاً بحقائبه داخلاً من حال في حال.. ويعرف أيضاً أن نزعة التشاؤم والتفاؤل في المحطات الجديدة ضرب من عجز العقل، أو إلغاء الفعل.. والعلم لا يقوم على أساس من المصادفات، والطموح إلى تحقيق الآمال لا يقوم على التمني والتوقع، وإن قالوا: إن الأمل عشبة تنبت حتى بين القبور.‏

المحطات الجديدة ليست مناسبة للتخلي عن الإرادة، بل هي حافز لحشد الإرادة وتنشيطها... لأنه ما من طريق إلى القمم العالية أقصر من طريق التصميم، وما من قوة لقطعه كقوة الإرادة.. أجل، يصادف أحياناً أن تقذف الثورات أو المناسبات رجالاً هملاً إلى الأعلى، ولكن منطق الأشياء والتاريخ يقول إن الرجال هم الذين يصنعون المناسبات ويفجرون الثورات بالعقل والإرادة قبل كل شيء...‏

يبدو المسافر في صحراء الزمن أحياناً وحيداً إلا من ظله وقواه.. والمسافر المبصر لا تضيعه مفارق الطرق، إنما هو الذي يعرف بالخبرة والمعاناة كيف يختار الطريق الصحيح...‏

ويبدو أحياناً كالرياضي المدرب المتباري في إحدى اللعب الصعبة، وعند المراقبين معروف أن اللاعب الجيد لا يستجدي أكف المصفقين، بل ينتزع التصفيق انتزاعاً.. أنت إذن على مشارف محطة جديدة، وربما كنت تستعجل الوصول ولكن تأن قليلاً، فقد لا تجد غير الخيبة المعتقة، ولا تستعجل الزمن، فليس العاقل من يفعل ذلك، إنما العاقل من يعرف كيف يعيش زمنه... إن لِلهَّفة المجانية بريقاً يأسر العين، ولكنّ للخيبة المجانية جرحاً يدمي القلب... صحيح أن الرجاء والتوقع والحلم أشياء تسكن الحواس، لكن بمقدور الإنسان أن يحلم مفتح العينين. بل ينبغي أن يفعل ذلك في المحطات الجديدة.. حيث يفتح لك باب جديد ويغلق خلفك باب غادرته، وتقول "هيلين كلير": "كلما أغلق باب السعادة فتح باب آخر، ولكننا ننسى لكثرة ما ننظر إلى الباب المفتوح، الباب الذي أغلق"... ولكي تبحث في المحطات الجديدة عن السعادة التي تتمنى، عليك أن تبحث في المقابل، عن العناء الذي بذلته من أجل ذلك في المحطات القديمة