الطــيور

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

 

من جسد الأرض المخنوقة يتفصد المُهْل، وعلى سيف الخليج يسيل،... تنحني الريح العابرة مستطلعة في ذهول.. تتقرى الشاطئ الغائص في وحل المساء.. تتشمم رائحة القطران قليلاً، ثم تتقلب في كدرة المساء وترحل مجفلة. وعلى امتداد الخليج يَسْمَع احتقانُ الماء صوت اعتفاد الطيور.. أهذا زمن اعتفاد الطير، وكمد الحبارى؟! تقول العرب في قديم تراثها إن أصل الاعتقاد أن يغلق الإنسان بابه على نفسه لا يسأل أحداً حتى يموت جوعاً...

ومثل الإنسان كانت بعض الطيور تعتفد غارقة في الحزن والكمد حتى تموت... كان ذلك كمد الحبارى.. وكانت الحبارى تحسر مع الطير أيام التحسير... تلقي ريشها القديم لتتجدد بالريش... ثم يبطئ نبات ريشها فإذا طار سائر الطير عجزت عن الطيران.. فتموت كمداً:

 

 

وزيد ميِّتٌ كَمَدَ الحبارى
 

 

 

 

 

 

 

إذا ظعنت هنيدة أو مُلِمُّ
 

تخفق الريح في المدى المباح مولية لقيح الماء المسودّ ظهرها.. تاركة أجنحة الطيور تتمرغ في لزوجة الماء الملوث وكمد الموت الدبق.. وفي مكان ما يتساقط من السماء الصافية النقية مطر أسود!!.. وعلى خد الماء يستنقع قمر أسود.. وفي حمأة هذا السواد تفقد الطيور ألوانها الزاهية... تغيب في زحمة السواد.

تقول العرب في قديم تراثها إن طيور القطا أكثر المخلوقات اهتداء إلى منابع المياه، إذا ظمئت اعتلت في فضاء اللّه.. ثم اتجهت نحو مواردها لتروي ظمأها. وكان العربي القديم يلحق بها كي لا يموت ظمأ. كانت دليله إلى الحياة.. وكان العربي أول من اصطاد القطا. والقطا أكثر الطيور جفولاً!!

تُخرج الأرض أثقالها عنوة. تلد بقيصرية قبل الأوان.. يُبْقَر بطنها.. يصير التيمم بالرمل صعباً... ويصير الوضوء بالماء أصعب.. ويصير البحث عن التطهر، وعن الاتجاه متاهه..

من جسد الأرض يتفصّد المهل ويتدفق إلى الماء غير مصفّى، فتقتل ثروة الأرض ثروة الماء.. تُراق الثروة في غيرمكانها. تُراق الدماء في غير مكانها.. ويُؤذّن للصلاة في غير أوانها... ويستحيل الآذان إلى ندم شجيِّ ويتناهى إليك من منشدٍ بعيد: "وكنّا أناساً قبل غزوة حَرْمَلٍ"... ينظر المسنّون إلى الأطفال ويتذكّرون: ذاك زمنٌ كانت فيه سماؤنا، وصحراؤنا، ومساجدنا مراحاً للطيور.. تغدو فيه آمنةً مطمئنّة، في الأعشاش والشواطئ.

ويجيء زمنٌ قد لا يبقى لنا منها سوى ذكرٍ مرميٍّ في مطاوي الكتب والأغاني.. وفي الذاكرة تحيك الأيّام على دوامّة الترجيع حالة من التداعي والتوالد والتجليات.. تستعيد رحلة أجنحة طيور مازالت تُقَصُّ وتصاد من جاهلية العرب حتى حروبهم المعاصرة... تطير من الماضي لتسقط في العين والذاكرة. تبدو خفق عاطفة، تستحيل أطفالاً خليين نفرش لهم دماثة الرمل شواطئ آمنة يلهون على هناءتها.. ثم نًصيِّرهم فئران تجارب بالسوائل والغازات والأدخنة، نطرز ليل أمهاتهم بكوابيس الضفاف، تجدد الآصال والأصباح فيها ببهاء الأشعة الملطخة بزيت نفط الخليج المترقرق على وجنة الماء.. تستحيل رحلة الطيور قُطُراً من النوق الكريمة المعبَّدة المعطرة بالقطران غير عابئة بجرب الأرض... تستحيل أفواجاً من الشهداء أو الضحايا. تصير نحن.. وتصير زمننا المعطوب... لا.. لا الماء آمن، ولا البر آمن..ولا مافوقهما أو تحتهما ملاذ.. ولا مابين الماء والصحراء آمن، ولا مابين السماء والغبراء آمن..ولا مابين الحاضر والماضي آمن، ولا نظيف... العلن ملوث كما السر ملوث.

والرمل والماء وما بينهما.. والليل والنهار ومابينهما، العقل والفعل ومابينهما.. الحاكم والمحكوم ومايدب أو يزحف أو يطير أو يجري.. فأين تمضي؟!.. وإلى متى نستمر في الاجترار كالجواميس المسترخية الأطراف؟ نغوص طيوراً غرقى في مياه ملوثة أو نطفو طيوراً موتى على سطح مياه ملوثة؟!..