أُخرج الصوت إليك من القلب، فيستحيل نشيجاً تغصّ به الحنجرة.. وأتسمّع في سعفك كيف تجهش ريح الفصول، وكيف يفيق حداء القوافل.. وأُعليك عن وقع الخطا، وعن غبار الرياح العابرة.. أُعليك عن الانحناء والرثاء وأُحدّث عنك إن كان الحديث عن النخيل مباحاً..
وأُعليك عن المراحل والكتابة والعتاب.. وأفيء إلى ظلّك "كمريم" مؤمناً بالله وبالولادة. أعيد مد أشرعة جريدك فوق جيوش الفتوح الإسلامية.فوق جموح الخيول الظماء الماضية تسابق ظلالها.. أعيد مدّ أشرعة جريدك فوق ماسيجري من جداول، وفوق ما سينمو ويكبر، ويُكتب، ويكون.. فوق ذلك الماضي العريق، والمستقبل المرتجى... وأشيح بوجهي عن هذه الحرائق إن استطعت.. وأُعليك على الجراح، والدم كدجلة والفرات، من قبل ميلاد السيد المسيح إلى اليوم يتدفق.. والنخيل يموت ويحيا..
"يانخيل العراق جرحك جرحي"، والطريق إلى ظلالك شوق يسبق المسافر.. أَعْرفك تاريخاً، وضفائر، وقامات، وأغاني، وأردد:
حييت سفحك عن بعد فحييني
يادجلة الخير يا أم البساتين
وآن أستعيد صورتك المقيمة في القلب يمتد في الذاكرة ألف جسر ومعبر لأقدام الشعراء والعشاق الذين غادروك كرهاً، وأمضوا ليالي الغربة يطرزون السهر الحزين "بسواد العراق".
أوشَكَ الواهمون أن يضيّعوك إن لم يفعلوا حين مدّوا ظلالك نحو الشرق، وحجبوا وجه الشمس.. حجبوا عنك الحقيقة فضاعت بعض ظلالك في زحام المجاهل والأدخنة.. ومدّوا ظلالك نحو الجنوب وظنوا أنّ الشمس تشرق من الشمال فخانهم الجهل وضاعت بعض ظلالك في سوء التقدير و"الأهواء".. فكيف تستعيد ظلالك الوارفة؟! كيف تسحب ظلالك الأيدي الأمينة لتحنو بها على مغارس الجذور؟!
قطفوك يانخيل العراق في غير أوانك، وزرعوك في غير مكانك وسمّوك بغير أسمائك، وحمّلوك أوزار أطماعٍ يضيق بها العقل والصدر والتعليل.
صيّروا ظلالك أظفاراً مضيّعةَ النّشَب والنسب.. وماكنت وحدك الضحيّة ولا كنت وحدك في المضيق والكابوس.. فعسى يعلّمنا هذا الألم العربيّ المرّ كيف نصون جذوع النخيل..
حيثما تقع المحنة يانخيل العراق يمسّنا الضرّ منها.. "وهذه الأيام هي الأشد إيلاماً".. وحيثما يخطئ من ائْتُمِنَ يتجدّد في نفوسنا وجعٌ كالضيم، وتغمرنا مرارة التفريق بين الموت شهادة، والموت ضحيّة الحماقة والغفلة، وورم الذات مرضاً فظيعاً..
مقدسٌ أنت في قلوبنا يا نخيل العراق... مباركٌ في أرض الرافدين وشامخٌ في التاريخ العربي... وباقٍ رمزاً للكبرياء والغناء والاستمرار. وليس الذي قطعك بمُوْقِفٍ إرادة من زرعك... وليس الذي لم يفزعه أن تفنى كالذي يحرص عليك أن تبقى.. فابق لنا يانخيل العراق..
تعبر فوقك الشموس وتلهب جنباتك بشواظ الرمضاء في الهواجر.. وتبقى.. تمرّ بك العواصف الزعازع العاتية، فتنحني قليلاً ثمّ ماتلبث أن تشمخ وتبقى.. تغمر جذورك السباخ والمستنقعات، وتتشرّب الملح على الجراح.. وتبقى.. تكبّل فروعك بالقيود والأغلال حتى حين.. ثمّ تشمخ سامقاً وتبقى يا نخيل العراق...