الـمُــتالــي

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

اغتراب مجهد يترشف قهوة مساء العيد.. وسُرْبَة من عصافير متحيِّرة تتفقد أجنحتها المستحمة في آخر أشعة النهار، وتتداعى للمبيت.. مازال بعض الأطفال يرجعون إلى البيوت مثقلين بالأحاديث العجال، كمن اختتم رغبة التلفت، أو أنهى رحلة طريق الحرير..ومن الآفاق القصية، أو من الذاكرة تنشأ موجة كاللون، أو كالصدى، ثم تندس بين الضلوع.. وتتغلغل.. يتصعد النفس الحبيس، وشيئاً فشيئاً تستحيل الموجة إلى كآبة ساكتة...

داخل البيت أزهار ذابلة في أوعيتها وكذا داخل النفس والذاكرة..وفي الخارج تخفق رياح الفصول، وتنخرق في أشجار "غوطة دمشق" على غير هدى.. من يحصي ماحملت معها من الوجوه والأعياد والرسائل والصور؟ من يدري أين تتجه بما تحمل وترحل؟!‏

يتقدم الليل ساعياً إليك من كل الجهات، متشملاً بكوكبة من الغيوم الحائمات الدواني.. والكآبة تبتدئ مرقاها إلى الذاكرة، فتستبيح هذه العلاقة الوفيقة بينك وبين الورق حالة كالغمض.. حالة تبدأ هي الأخرى بالانتشار كدم مهدور.. كضباب يتشكل في أفق بعيد.. وتعرف أنه لاشيء أشجى للنفس من مثل هذا الفتور الذي يهدد بأن يصير قطيعة بينك وبين الأشياء التي تربطك بها صلة حميمة.. فتجفل كالوعول المحاصرة.. تقول لنفسك: قد لايكون هذا أكثر من إيقاعات وأصداء من الطفولة تستعيدها الذاكرة في العيد.. بقايا من البراءة والنزوع إلى الانعتاق من كوابيس العصر تتململ في "اللاشعور" ومن غير المعقول أن تفسد هذه الطمأنينة الروحية القريرة بالأوهام!! أنت الذي ارتضى ألا يخرج أو يسافر، وأن يجد في هذه الاستراحة مغنمة من العيد، لاسترداد النفس والقراءة الهادئة في منجى من زعيق "التلفزيون" طيلة بثه.. تلفزيون الضجيج الذي يغتلي بالعجائب.. لا الأسواق، ولا النوادي الليلية الصاخبة، ولا مدن الملاهي؟!.. لقد رحل الجميع، والبيت والتلفزيون صامتان.. ولا بأس في أن تكون كالمنسي، معفى من سماع قصص الحب المكرورة بين واحد وواحدة.. لكأن الرقابة ترفض كل عمل ليس فيه خطبة أو زواج!! لازمة الفن العربي الحديث!!‏

وينتصف ليل الناس، والليل يرفع من خافت الأصوات، يقتحم الجدران عليك خليط من الأصوات والموسيقى.. وكرمى لذكر أهل البيت تفتح التلفزيون، وهاهو ذا المغني لم ينم بعد.. يجتر كلاماً في مدينة ما.. ويبدو الجمهور مغلوباً على أمره، مخيباً، ومحبطاً، ومشفقاً في آن واحد.. حتى "الكورس" يبدو كذلك، هذا الكورس أو "المتالي".. (تقول العرب: تالى فلان المغني: غنى معه بصوت دون صوته) هوالمغبون في وظيفته أكثر من عمال المناجم أو الغواصين..‏

تصور رجلاً لا يبدع في شيء، ولا يؤدي فعلاً في جملة إبداع الآخرين، إنما يردد كالآلة بعد المؤدي.. رجل عمله ترديد حماقات الآخرين.. يذهب المغني الذي ابتلى به المستمع والمشاهد وتأتي مغنيةٌ فتبعق بعاقاً منفّراً وتمضي، ويجيء "مطرب" ثالثٌ ويروح.. ويبقى المُتالي لا يتغيّر، ولا يغادر. ولا خيار له، فهو سيغنّي، أو سيعيد.. كلّ الكلام السخيف المرذول.. وسيكون امتداداً سلبت آدميته لكلّ تلك النماذج الخائبة المخفقة في وضعٍ يدعو إلى الرثاء..‏

تقول لنفسك: نحن نحرز تقدّماً في الزراعة، وفي السياسة، وفي العلم، وفي تنظيف المدن.. فَلِمَ نزداد تراجعاً في الغناء؟! ربّما المُتالي يعرف!! يبدو ذلك في العيون وفي ملامح الوجوه وفي الإشفاق، وفي هزّ الرؤوس..ثمّة عذابٌ داخليّ يصل حدّ المرارة.. فالمُتالي يعرف أنّ الجمهور يريد أن يكتشف فرحاً، يريد أن يختطف لحظة فرحٍ، أن تحضر مرّةً اللحظة الحيّة، والمُتالي يجهد، ويتعرّق ويعاني.. وقائد "الأوركسترا" لا يتوانى عن الانفعال وهزّ يديه، وعصاه ورأسه وخصره وعنقه.. ولا فائدة.. فالأغنية والمغنّي ليسا من هذا الزمان.. ولا من زمنٍ منتظر.. نحن جميعاً مُتالون.. أجل نحن جميعاً "كوارس" في إرادتنا وسلوكنا، وفعلنا.. وفي كلّ مجالاتنا.. نحن مُتالون في الدين، والعلم، والسياسة، والفن وكلمات الحبّ..وحتى في الوصول إلى المناصب.. نحنُ مُتالون نحضّر حناجرنا للترديد، وأيدينا للتصفيق، قبل أن يبتدئ الحفل.. نحن نوشك أن نصير قوالب للابسين