بث الحلم في روحه خضرة التوقع، فمضى هائماً على وجهه يستطلع هذا المجهول الرملي، طاوياً الحيرة بعد الحيرة، ومكثراً من التلفت والترقب والإصغاء.. يغذ السير والشمس من فوق تجلده بسياط من الهجير، وحيداً في زمن الذعر والجفول، وحيداً إلا من ظله الذي يقصر أو يطول، وفق مشيئة الشمس الأبدية.. تتعاوره الهواجس، وتتلاقفه الرياح الحواشك، فيأتنس بظلّه، ويمضي.. وكلّما عوّقه الإجهاد عن الإمعان في قطع الفيافي جّدد عزمه شوق السؤال، وأغراه هاجس الاستغراب بالمتابعة. ومن كل الجّهات حوله يخفق السراب. رقراقاً كصوت الماء في الحلم، كصوت الريح في شجر الزيزفون. كبسمةٍ في الشفتين والعيون غريبة... يقف أحياناً مستفتياً العقل والذاكرة مخضعاً الممكن والمستحيل لسلسلة من المحاكمات، ومعاوداً تفحّص كلّ شيء في دقّةٍ وأناةٍ، ومحايدة، وبعد إدامة التأمّل والاستقراء تتبدّى له مرئيات الصحراء موّارةً بالعجب، تتبدّى مضطرَباً من الغياب والحضور: ها ريعان السراب يمور حتى ليكاد يقتحم العين كاليقين، وآن يدنو منه يفرّ من أمامه كالباطل... فيقول: هذا خداع البصر... والريح تلف قامات الرمال وتئن فيها وتعول، فيزحم صفيرها الآذان متنامياً كالاقتراب، كهجمة الجهات... لكنه في دهشة وإجفال يتلفت ويتسمع فلا يلوي على شيء! لهذا سماه الأجداد عزيف الجن؟ وتمر أسراب من الطيور، والخيول، والقوافل، والفرسان، ومضارب القبائل.. تمرُّ كمشاهد ملحمية ترسمها المخيلة. والأساطير تقرأ أو تسمع.. تمر كالتجليات والرؤى.. ولكن الشمس تشوي بسياط البادية، والرمل تحت قدميه كالحريق،وعصاه بيده، والظمأ والجوع، والمدى... وظله...خاصة ظله... كل ذلك حقائق. فليمضِ إذن في ضرب الرمل.. وقع أشعة الشمس كوقع حوافر الخيل، ومنخر هذه الصحراء يذرو العجاجة في فلاة من قيعان وكثبان. وهو يحمل موسيقاه على ظهره، ويبدو مع ظلّه كذئب دالع بلسانه، تخوض قدماه أمواج بحر الرمال اللاهبة، وتعتلي نفسه صهوة الحلم... والحلم كالإله، لا أرض له، ولا يعرف أن يتجلى، لكن الرحلة إليه لا تنتهي. *** في عالمنا ليس ثمة حلم بما تهوى، أنت تحلم بما تحتاج. وأن تحلم بما تهوى يعني أنك ظفرت بالحرية وأنك في مأمن، وبمقدورك أن تضحك وتغني وتصفر بمنجى من الغربة والخوف..أن تحلم بما تهوى قضية تعبق بالترف والاختيار.. قضية تتجدد حيويتها في الحواضر، وفي الحواضر تغتني.. أما أن تحلم بما تحتاج فقضية تتصبب بالكوابيس، وتثقل بالتوزع والانكفاء... تصطلي بوقدة الهجير في الصحراء المَجْهَل، أو تقبع مقرورة في قبضة الصقيع: وحرق الثلج كحرق النار. لكن الحلم قائم... *** بث الحلم في روحه خضرة التوقع فمضى هائماً على وجهه يستطلع الواحات، ويقرع صدور القبيلة التي أوصدت المضارب والخيام، وأدمنت مجالس الصلح، والشورى، والعتاب والصفح.. وأغفلته يغذ السير إليها تحت سياط أشعة الشمس العمودية، وفي صدره موسيقاه، وفوق رأسه الحلم.. مرفوع كراية بيضاء يسعى إليها، وكالسراب تفر منه، فلا يستظل بظلها.. يسمع رجز القبائل وأشعارها وسجع الكهان وخطب الصلح والزواج والجهاد والمواعظ والحكم والأمثال، وتقتات بها ذاكرته في رهقة البحث الصحراوي.. وهاهو ذا يمضي.. مؤتنساً بظله الذي ما يفتأ يقصر، والشمس تتسلط على عنقه ومنكبيه كالهودج المحترق، بعيداً عن الحراب، والذبائح، عن الأضاحي والولاء والصعلكة عن الكر والفر واقتسام الغنائم.. وغير مؤرق أو مثار، لا فرق بين أن تكون الصحراء فراشاً من مخمل الرمل، أو من أنياب الأفاعي.. أن تكون السماء صافية الأديم أو محتشدة بالغيوم، لأنّه لا يمتلك مايخشى عليه من الجفاف أو الظمأ. لا يمتلك سوى الحلم الذي يسعى إليه في مطاوي الفلوات.. صحيح أن الروح تفتقد نضارة ماكان، وأن المنافي لا تورق بغير الحنين وأغاني الذاكرة، وكل هذا المدى بغير الحب يباس وحشرجة.. لكن ما منحته الحواضر سينسحب من الذاكرة هنا كظل غمامة، كعطر امرأة تعبر به مسرعة إلى موعد.. والمرء في الصحراء يأتنس بظله، ويألف التشابه والتكرار، بل قد يصاب بفقدان "التكيف" والذاكرة، ويستطيب مثل هذا النسيان في مسعاه إلى الحلم المرتجى.. فإن غالبه الإجهاد، وسمرته هذه الشمس الملتهبة، التي تخترق رأسه كرصاص غير طائش، وانحسر ظلّه حتى قدميه.. عند ذاك يتخذ من ظله الذي يملكه حجراً يجلس عليه، ويحاول أن يستريح ويفكر
بث الحلم في روحه خضرة التوقع، فمضى هائماً على وجهه يستطلع هذا المجهول الرملي، طاوياً الحيرة بعد الحيرة، ومكثراً من التلفت والترقب والإصغاء..
يغذ السير والشمس من فوق تجلده بسياط من الهجير، وحيداً في زمن الذعر والجفول، وحيداً إلا من ظله الذي يقصر أو يطول، وفق مشيئة الشمس الأبدية.. تتعاوره الهواجس، وتتلاقفه الرياح الحواشك، فيأتنس بظلّه، ويمضي.. وكلّما عوّقه الإجهاد عن الإمعان في قطع الفيافي جّدد عزمه شوق السؤال، وأغراه هاجس الاستغراب بالمتابعة. ومن كل الجّهات حوله يخفق السراب. رقراقاً كصوت الماء في الحلم، كصوت الريح في شجر الزيزفون. كبسمةٍ في الشفتين والعيون غريبة...
يقف أحياناً مستفتياً العقل والذاكرة مخضعاً الممكن والمستحيل لسلسلة من المحاكمات، ومعاوداً تفحّص كلّ شيء في دقّةٍ وأناةٍ، ومحايدة، وبعد إدامة التأمّل والاستقراء تتبدّى له مرئيات الصحراء موّارةً بالعجب، تتبدّى مضطرَباً من الغياب والحضور: ها ريعان السراب يمور حتى ليكاد يقتحم العين كاليقين، وآن يدنو منه يفرّ من أمامه كالباطل... فيقول: هذا خداع البصر... والريح تلف قامات الرمال وتئن فيها وتعول، فيزحم صفيرها الآذان متنامياً كالاقتراب، كهجمة الجهات... لكنه في دهشة وإجفال يتلفت ويتسمع فلا يلوي على شيء! لهذا سماه الأجداد عزيف الجن؟ وتمر أسراب من الطيور، والخيول، والقوافل، والفرسان، ومضارب القبائل.. تمرُّ كمشاهد ملحمية ترسمها المخيلة. والأساطير تقرأ أو تسمع.. تمر كالتجليات والرؤى.. ولكن الشمس تشوي بسياط البادية، والرمل تحت قدميه كالحريق،وعصاه بيده، والظمأ والجوع، والمدى... وظله...خاصة ظله... كل ذلك حقائق. فليمضِ إذن في ضرب الرمل..
وقع أشعة الشمس كوقع حوافر الخيل، ومنخر هذه الصحراء يذرو العجاجة في فلاة من قيعان وكثبان. وهو يحمل موسيقاه على ظهره، ويبدو مع ظلّه كذئب دالع بلسانه، تخوض قدماه أمواج بحر الرمال اللاهبة، وتعتلي نفسه صهوة الحلم... والحلم كالإله، لا أرض له، ولا يعرف أن يتجلى، لكن الرحلة إليه لا تنتهي.
***
في عالمنا ليس ثمة حلم بما تهوى، أنت تحلم بما تحتاج. وأن تحلم بما تهوى يعني أنك ظفرت بالحرية وأنك في مأمن، وبمقدورك أن تضحك وتغني وتصفر بمنجى من الغربة والخوف..أن تحلم بما تهوى قضية تعبق بالترف والاختيار.. قضية تتجدد حيويتها في الحواضر، وفي الحواضر تغتني.. أما أن تحلم بما تحتاج فقضية تتصبب بالكوابيس، وتثقل بالتوزع والانكفاء... تصطلي بوقدة الهجير في الصحراء المَجْهَل، أو تقبع مقرورة في قبضة الصقيع: وحرق الثلج كحرق النار. لكن الحلم قائم...
بث الحلم في روحه خضرة التوقع فمضى هائماً على وجهه يستطلع الواحات، ويقرع صدور القبيلة التي أوصدت المضارب والخيام، وأدمنت مجالس الصلح، والشورى، والعتاب والصفح.. وأغفلته يغذ السير إليها تحت سياط أشعة الشمس العمودية، وفي صدره موسيقاه، وفوق رأسه الحلم.. مرفوع كراية بيضاء يسعى إليها، وكالسراب تفر منه، فلا يستظل بظلها.. يسمع رجز القبائل وأشعارها وسجع الكهان وخطب الصلح والزواج والجهاد والمواعظ والحكم والأمثال، وتقتات بها ذاكرته في رهقة البحث الصحراوي.. وهاهو ذا يمضي.. مؤتنساً بظله الذي ما يفتأ يقصر، والشمس تتسلط على عنقه ومنكبيه كالهودج المحترق، بعيداً عن الحراب، والذبائح، عن الأضاحي والولاء والصعلكة عن الكر والفر واقتسام الغنائم.. وغير مؤرق أو مثار، لا فرق بين أن تكون الصحراء فراشاً من مخمل الرمل، أو من أنياب الأفاعي.. أن تكون السماء صافية الأديم أو محتشدة بالغيوم، لأنّه لا يمتلك مايخشى عليه من الجفاف أو الظمأ. لا يمتلك سوى الحلم الذي يسعى إليه في مطاوي الفلوات..
صحيح أن الروح تفتقد نضارة ماكان، وأن المنافي لا تورق بغير الحنين وأغاني الذاكرة، وكل هذا المدى بغير الحب يباس وحشرجة.. لكن ما منحته الحواضر سينسحب من الذاكرة هنا كظل غمامة، كعطر امرأة تعبر به مسرعة إلى موعد.. والمرء في الصحراء يأتنس بظله، ويألف التشابه والتكرار، بل قد يصاب بفقدان "التكيف" والذاكرة، ويستطيب مثل هذا النسيان في مسعاه إلى الحلم المرتجى.. فإن غالبه الإجهاد، وسمرته هذه الشمس الملتهبة، التي تخترق رأسه كرصاص غير طائش، وانحسر ظلّه حتى قدميه.. عند ذاك يتخذ من ظله الذي يملكه حجراً يجلس عليه، ويحاول أن يستريح ويفكر