المـعابــر الصعـبة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د. مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

يقال في المثل إنه لأدل من قطاة، لأنها ترد الماء ليلاً من الفلاة البعيدة.. بحسها الغريزي تهتدي إلى منابع المياه، تصل إلى هدفها.. وقد سر العربي عندما اكتشف هذه الميزة في القطا، وصار يستثمر اكتشافه فيفيد من القطا في التماس مظّان الماء.. ونحن في حاضرنا لا كالقطا ولا كالعربي القديم، لا نتعب أنفسنا في تقصي الحقائق والوقوف على جوهرها، ولا نكترث بمن يبحثنون عنها وصولاً إلى الجوهر، ووضع كهذا قد يبقينا على ما نحن فيه من السلامة أو من "تمشية الحال" ولكنه لا يخلق الحضارة التي نطمح إليها، ولا يحقق الإنجازات الثورية الحقيقية التي نؤمن بها ونستشرفها، نحن غالباً نشغل العقل ونهدر الطاقة في معالجة القضايا الصغيرة، اليومية والعارضة أو المرحلية على حساب إغفال القضايا الكبيرة أو إرجائها..‏

كيف ذاك؟ ولم ذاك؟ ربما لأن تلك المعابر إلى تلك القضايا الكبيرة صعبة أو موصدة.. إذ حين تحتشد في القلب ويهم المرء بالحديث عنها يرتسم أمامه وجه زاجر على شفتيه إصبع السبابة تشير أن اسكت فهذا ليس من شأنك، أو مما تعرفه، أو مما يقال في "هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها أمتنا العربية" وحين يُسَرِّي المرء عن نفسه بالكتابة... حين يتنفس بالكتابة يلجأ إلى التحايل والألغاز والرمز متفادياً -وكأنه في حقل ألغام- خطر المرور فوق الصاعق. فإذا ماخرجت أفكاره متنكرة إلى الملأ على هذا النحو القلق استُنكرت، فاتّهم مرة بعدم الأصالة وبالاستسلامية العلمية أو الانقياد للأفكار الهجينة المتسربة إلينا من الاستعمار وأعوانه. أو اتّهم مرة أخرى بالتعالي على الجماهير.. أو اتهم بالتخبط والسطحية.. وهكذا تجد نفسك في حيرة عند محاولة تمييز الغث من السمين، وتجد الحقائق والناس تغيِّر جلودها وألوانها فتضيع منك، أو تزهد أنت في تتبعها.. وقد ترحل هي بأصحابها إلى أماكن أخرى قد تكون الآخرة.. فلم لا نواجه الحقائق سافرة؟ أو لا نبدو أحياناً كذلك المصور الذي طالما رأيناه أمام المحاكم وقد أدخل رأسه في القمع الأسود وغاب عن الضوء والدنيا؟! بموضوعية وعلمية وحوارات ناضجة مسؤولة علينا أن نفعل ذلك... وبعافية وثقة... إن من يحمل قضية أو يتصدى لمسؤولية ينبغي أن يكون أهلاً لذلك، أو أُعِدّ لذلك وقَبِلَه عن اقتناع، وهو -في مثل هذا الموقع- إما أن يكون على صواب في مسلكه وإجراءاته وحينئذٍ سيَقْبَل بغير ماتردد طرح أية قضية على بساط البحث والمناقشة.. وإما أن يكون هناك خطأ ما، أو أخطاء، والعاقل يعرف جيداً أن أحداً غير معصوم عن الخطأ.. وأن معالجة الأخطاء فضيلة ودليل على سعة الافق والرغبة الصادقة في خدمة القضية والوطن..‏

وهل يخلو مجتمع متحضر متقدم أو نام أو متخلف من مشاكل؟! ذلك حلم لم يتحقق للبشرية بعد، ويبدو أن حيوية الإنسان وحركيته ومتطلباته وطموحه ستحول دون الوصول إلى مجتمع بغير مشاكل في المستقبل.. فلنقتنع في هدوء وصدق مع النفس أن لدينا مشاكل ولدينا أخطاء ومخطئين، ولدينا أيضاً المقدرة على معالجة الأخطاء، أو التصميم الجاد على محاولة حلها.. وهل يبدو الأمر صعباً إن كتب في ذلك مباشرة؟!‏

إن هؤلاء الذين يكتبون، يكتبون عن همومهم وهموم المواطن والوطن، وفي صحف الوطن، قد يبالغون أحياناً، ولكن مثل تلك المبالغة ليست القصد أصلاً، وقد لا ينصفون في أحكامهم ولكنهم أكثر الناس بحثاً عن الإنصاف.. وهم - أيتما حال- مسؤولون عما يكتبون... والقارئ العربي تهيأ له من الاطلاع ووسائل الإعلام والمعرفة مايؤهله للحكم على السليم والفاسد.. والزمن مفرزة... فإلى متى نرتدي أقنعة لا تناسب العصر ونجر الآتين إلى مضائق الحزر والتخمين وفرك الأعين استيثاقاً من الحقيقة... لو نتسامح قليلاً ونتصارح... وفي هدوء وحسن نية وصفاء نواجه مشاكلنا، ونعالج أمراضنا بطريقة علمية بعيداً عن الرقى والتعاويذ ونتعافى ونجتاز هذه المعابر الصعبة التي تبدو كغصة في حلق كل وطني ملخص.. وكل قلم..