من بقايا التمزق الروحي

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د. مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

 

بساط المساء الرمادي، يمتد أوسع من البادية.. يمتد عذباً معطراً بريح الصبا، وطيور حيرى تحلق في مداه الجوي وكأنها تود أن ترتحل في حداء الإبل... يزداد وجيب القلب، والوقت يُرتضَى.. يقترب الرجل تحت غمامة التاريخ متأزِّراً بجرأة الحب ونبض المهاجرين والأنصار... يحدق في المرأة القائمة شجرةً من نخيل.. يطيل النظر: عينان كخيمتي أميرين، ولكنهما معتكرتان كأن رحيلاً يتجمع فيهما... تحتميان برحمة وجه كصحراء من رمال نقية... يرتعش سيفا الحاجبين وينتصب قدّ من شجر الواحات مندى بابتسامة سخية.... يتنهد القد ويقول: أنتم عزاز، وورودكم على ضفاف دم الأبهر... ما الماء حِمَى، ولا اللسان حبيس.. الأرض تزداد رحباً والقلب مفتوح قبل الخيام... كالقدر يغتلي ويعلن نضج الزاد لكم.. ولكن حكام القبيلة وكهانها يقولون إن الصدّف حيوان من جنس السمك يخلق الله فيه اللؤلؤ من مطر الربيع، ويخرج من ملتقى البحرين، العذب والمالح، وفيه يقول الشاعر:

 

 

أرى الإحسان عند الحُرِّ ديناً
 

 

 

 

 

وعند النذل منقصة وذما
 

 

 

 

كقطرٍ صار في الأحداق درّاً
 

 

 

 

 

 

 

وفي فم الأفاعي صار سمّا
 

يرونني القطرة التي ينبغي أن تقرّ في مناخها ومياهها لتكون دراً، لا سمّاً يؤرّق ضمير القبيلة.

يقول الرجل المحب: فلنختر لغتنا والسيف مغمد.. ولنخرج أسماءنا وأرواحنا من القيود والأضابير والملفات حيث خزنوها.. يأخذ قبضة من الرمل ويبسط بها راحتيه ثم يقول: "كيف تعرفين ذراري "عبس" من "ذبيان" في هذه الحفنة من حبات الرمل؟ مثل هذه نحن.. يفتح ذراعيه ويشير إلى مدى الصحراء المترامي: ومن هذه نحن.. يتساوى فيها عزيف الجنّ والغربان والأيائل والغضا والقتل وحوافر الخيول والعذاب.. والحبّ لا يأتلف! فتنبهي وأفيقي وقولي لقومك إنّ خيل الله غلبت خيل الّلات.وهذه الأرض جلدنا.. كل طعنةٍ فيه تسري رعشةً وتيّاراً في الجلد كله... فلا يَبْدأَنْ أحد بالقطيعة.. ولا تسحبي يدك من يدي.. قولي لقومك إن قطعوا هذا الجلد تثّقب، وصارت كلّ قطعة منه نهباً للطاعون والحمّى والجرب والهذيان والنقرس، وتفشّت فيه الأوبئة، إن حرمتموه من ترياق الحب، ستختنقون إن فعلتم وتموتون بالسكتات القلبية وتتركون أبناءكم في المتاهات والتمزق.

أجل ستتمكن منكم البغضاء والعصبيّات القبلية، وسيلهيكم التفاخر والتكاثر والتنابذ بالإنجازات عن صد الغارات. وستشغلون بجمع الأماديح والصور التذكارية عن الذود عن العرض.. وستقتسمون هذا الجلد رقعاً وخرقاً تضيق على ستركم، ستشدون كل رقعة صغيرة لتتسع للقصور والمناورات والمساجد والمسابح والسدود والإقطاعات والأنفاق ومضامير سباق الهجن فتضيق عليكم.. ستختصمون على الحدود والقنائص والموانئ البحرية... ومن أجل الاستئثار بأشعة الشمس وضوء القمر والسحب المحملة بالغيث إن أغضبتم هذا الحب.. وستختلفون حول البدء بالصوم والإفطار ويكون لكل فخذ منكم أعياده القومية وتوقيته الهجري والميلادي والصيفي والشتوي وعملته من الدينار والدرهم والليرة والريال والجنيه.. ويكون لكل فخذ خاتَمُهُ وجواز سفره ونشيده الوطني، وستهدرون الوقت والذاكرة برسم أقيسة شعاراتكم وأعلامكم وألوانها.. بل ستقيمون الحد على من يغير زي القبيلة ونظامها المنضم.. فأفيقوا وارعووا.. إني أستشرف مستقبلكم المنكد بالمحظورات، وأرى الأسنة والحراب تنطلق من محطات إذاعاتكم مشحوذة تخبر كل من تصادفه أين سيكون مغرزها..

سكت المحب.. وقف دقيقة صمت استرد فيها أنفاسه..ثم تابع: كفوا عن الثأر لداحس والغبراء، فإن هي إلا فتنة وضلال.. وكونوا قرية آمنة مطمئنة وأرضاً تشرق بنور ربّها.. وتنبهوا قبل أن تبحثوا عن ظلالكم في زحمة الأضواء فلا تجدوها.. وقبل أن تناموا واقفين كمالك الحزين على رجل واحدة، وتستوردوا الإبل والخيول من الروم والعجم... قبل أن تتكاثر مشاكلكم وتعسكر جيشَ أرقٍ تحت مخداتكم ويكون وحام القبيلة صعباً. امسحوا عن عيونكم وشم الرمد، ولا تورثوا أبناءكم خيبة في الصدور وغربة وحباً عبر الأسلاك الشائكة على الحدود.. وحين أدار المحب ظهره ومضى متمهلاً انسربت على وجنتي المرأة دمعتان حارتان.. ثم سقطت عند قدميها كل القصائد الجاهلية المغتنية بالحب والوجع.. وكل الصور والمعلقات التي تسلّقت جدار الذاكرة.