كـــان الوالدان يشعران بالانكماش والخجل من غباء ابنتهما ابتسام، بل ربما تخلّفها العقلي، فنادراً ماتجد إنساناً غبياً في كل شيء كابتسام، فمنذ طفولتها المبكرة كان نشاطها ضعيفاً، إذ تأخرت في الكلام والمشي، حتى ارتكاساتها الطبيعية كالخوف والاندهاش والفرح كانت ضعيفة، واحتار والدها في غبائها، فكل إخوتها وأخواتها أذكياء، سريعو البديهة ناجحون، فمن أين ولد الغباء في هذه الأسرة، غباء مدهش أقرب إلى البلادة الذهنية والبلاهة. في المدرسة لفتَ غباء ابتسام معلمتها، فاقترحت على أهلها أن تبقى ابنتهم في الصف الأول عاماً آخر، كي تستوعب المعلومات والدروس، لكن ابتسام لم تجن فائدة تذكر من إعادتها للصف الأول، ومع الأيام صارت ابتسام في صف أخيها رجب الذي يصغرها بعامين، وكان يساعدها في دروسها ويقوم بدلاً منها بكتابة وظائفها، خاصة في الرياضيات ثم سبقها في الدراسة إذ رسبت ابتسام في الصف الخامس وفشلت كل محاولات المعلّمة لترفيعها إلى الصف السادس. وتشاورت المعلّمة مع الإدارة وبيّنت أن ابتسام طالبة متخلفة، وأنها تشعر كأن ثمة حاجزاً من الاسمنت في دماغها، فهي لاتفهم، وأبسط العمليات الحسابية تصفن فيها طويلاً، وبلا جدوى، فكيف يمكن للمعلمة أن تساعدها، وأن تعطيها علامات لاتستحقها، وبعد تفكير، استدعت المديرة والد ابتسام، وبمنتهى اللباقة أوضحت له أن ابنته لاتميل إلى العلم ومن الأفضل لها أن تترك الدراسة، وتكسب الوقت عساها تتعلم صنعة ما. وأطرق الوالد خجلاً واعترف لنفسه بأن كل كلمة قالتها المديرة صحيحة وأنه ما من فائدة في خضّ الماء، وفي جعل ابتسام تتابع تعليمها. رجع إلى البيت منكسر النفس قال لزوجته وهو يكتم غيظه: -لا أعلم من أين ورثت هذه الفتاة كل هذا الغباء؟ إنها مصيبة حقاً. بكت الأم وقالت: إنها ابنتك، فلا تقل عنها إنها مصيبة. وكأن دموع الأم فجّرت غضبه، إذ قال: -ماذا سنفعل معها إذاً، لقد حاولوا جهودهم ترفيعها إلى الصف السادس لكن مامن فائدة ترجى، وكل جهودنا وجهود إخوتها في تدريسها باءت بالفشل، إنها متخلفة عقلياً حقاً. -أرجوك لا أحب أن أسمع هذا الكلام عن ابنتي. -وماذا تريدينني أن أقول، فهذه هي الحقيقة. -لعلها تنجح في مجالات أخرى. -أية مجالات؟ -لقد فكرت فعلاً في أن تترك ابتسام المدرسة وتلتحق بدورة لتعلم الخياطة، فما رأيك؟ -ومن قال إنها ستفلح بالخياطة؟ -لنجرّب، قلبي يحدثني بأنها ستفلح. أجاب الأب بسخرية: إذا تحدّث قلب الأم فآمنوا بما قال. التحقت ابتسام وهي في الثالثة عشرة من عمرها بدورة الخياطة، لكنها فُصلت بعد ستة أشهر لأنها عجزت عن أدراك أبسط القواعد في التفصيل. عادت إلى البيت ثانية، سؤالاً مؤلماً مطروحاً على أهلها وأخوتها الذين لم يكونوا بحاجة لمداراة مشاعرها، لأنها أصلاً غير متألمة ولا منزعجة، ولا تحس بأن هناك مشكلة أساساً، فغباؤها يتركها في حالة من الراحة والسعادة الدائمتين، فهي لاتعاني أزمات إخوتها المتفوقين ومنافستهم لرفاقهم، وتوترهم قبل الامتحانات، وقلقهم من نتائج الامتحان. إن ذهنها صاف، لاتعكّره أفكار ولا أحلام أو طموحات، إنه أشبه بسطح بحيرة راكدة نسيتها الرياح. اقترح أخوها رجب بعد أشهر من تركها للخياطة أن تتعلم فن الحلاقة النسائية، عند أخت صديقه المشهورة في تصفيف شعر السيدات، ولكن ابتسام لم تستطع الاحتمال سوى أيام، أعلنت بعدها باكية أنها لاتقدر على الوقوف طويلاً لتتعلم كيف يُقصُ شعر السيدات ويُصفف، وأن صوت آلة تجفيف الشعر يسبب لها الصداع. لم يستطع الأب كبح يأسه وغضبه وقال لها: -لن تخرجي بعد الآن من هذا البيت، ابقي ساعدي أمك. فرحت ابتسام بقرار والدها، هكذا ستلوذ بالبيت وترتاح من تعلّم أي شيء، ولطالما تساءلت بينها وبين نفسها: لماذا يتعب الإنسان نفسه ويُرهق ذهنه وجسده؟ وفي سبيل ماذا؟ ثم تتنهد وتقول: آه ماأصعب العلم، لماذا علي أن أحفظ أرقاماً ومعادلات؟ لماذا علي أن أعرف ماذا يجري في البلدان المجاورة وغير المجاورة؟ أنا سعيدة هكذا، ولا علاقة لي بغيري، أما كلمة رياضيات فتجعلها تجفل، فهي تبصر كوابيس وهي نائمة فتقوم مجفلة وقلبها يطرق بسرعة وأنفاسها تتلاحق، وهي تتذكر مدّرسة الرياضيات تطلب إليها أن تحل مسألة، خاصة تلك المسائل التي ينطلق فيها قطاران كل من مدينة ويلتقيان في مسافة ماعلى الطريق، وعليها أن تحسب الزمن والمسافة، أوف ماذا يفيد هذا التعقيد، فهي إن سافرت لن يهمها سوى قطارها الذي ستركبه، فما علاقتها بباقي القطارات؟! كانت ابتسام تقضي ساعات طويلة شاردة لاتتحرك، كأنها جماد، وحين كانت والدتها تغضب منها وتقول لها: بالله عليك قولي لي، بماذا تفكرين؟ تحلف وتقول لأمها: والله يا أمي لا أفكر بشيء. -وهل يُعقل ألا تفكري بشيء يا ابنتي؟ -أقسم لك أني لا أفكر بشيء، بل أحب هكذا أن أجلس وأرتاح. -ترتاحين من ماذا؟ وهل تبذلين جهداً حتى ترتاحي، يا إلهي أنتِ لم تنجحي حتى في عمل المطبخ! -أوه يا أمي، الطبخ صعب. فتقنع الأم بأن استمرار الحوار مع ابتسام لايجدي، فقدرها أن يكون أحد أولادها على درجة كبيرة من الغباء، فلتقبل بإرادة الله وتقنع. كانت ابتسام هي الهمّ الوحيد لوالديها، وكانا يتساءلان دوماً كيف سيؤمنان مستقبلها، فهما يعيلان أولادهما بجهد ويقومان بواجبيهما في تدريسهم، وفي المستقبل سيشق كل منهم طريقاً لنفسه وسيعمل، وابتسام مامصيرها؟ لمن يرتكانها؟ ومن سيتقدم للزواج منها وهي على هذا الغباء؟ صحيح أنها جميلة، لكن أية قيمة لجمال دون رصيد من المعرفة والذكاء؟ هي يصح أن يقال عن الجمال إنه غبي أيضاً؟ ربما، فوجهها مستدير، وبشرتها بيضاء ناعمة كبشرة الأطفال، وعيناها واسعتان إنما لاتعبّران عن أي شيء، لاتلتمعان ذكاء ولا عاطفة، لاقلقاً ولا حزناً، نظرة مطفأة شاردة، لعل أجمل مافيها أنفها، أنف صغير شامخ، كانت أختها تحسدها عليه، كانت طويلة ممشوقة، تبدو كشبح أحياناً، وهي تمشي ببطء بقامتها الطويلة وعينيها الشاردتين، لم يتقدم أحد لخطبتها رغم أنها بلغت العشرين، وبدأ والداها يقلقان على مستقبلها، ويفكران بطريقة لايتركانها فيها عالة على إخوتها، وماأدراهما بغدر الزمن. فقد يتهرب منها إخوتها ويتركونها وحيدة لامعيل لها، وكل الأقرباء والمعارف لايرضونها زوجة لأحد أولادهم، فما حاجتهم لزوجة تحمل هذا القدر المخيف من الغباء. هل كانت ابتسام متعلّقة بشيء؟ إطلاقاً، فلا القراءة ولا الموسيقى، ولا الثرثرة ولا الزيارات كانت تثيرها، لعلها كانت متعلقة بالنوم فقط، فهي تعشق النوم، تظل نائمة إلى أن توقظها أمها، وقد تضطر أمها إلى الصراخ قرب سريرها أو قرصها حتى تستيقظ، وتظل ابتسام مستسلمة لعالم النوم أكثر من ساعتين، حتى تصحو تماماً بعد أن ترشف ثلاثة فناجين من القهوة، وتجلس كعادتها ساهمة في اللاشيء. ذلك أن والدتها آثرت أن تعمل وحدها في المطبخ دون مساعدة ابتسام، وكم حدّثت الأم المسكينة نفسها وقالت: يا إلهي أي ذنب ارتكبته حتى أنجب بنتاً بلهاء كابتسام. ولكن من يدري ماذا تخبئ الأيام؟ وكيف يصير الغباء حظاً؟ بل ربما نعمة من السماء! فيوم دُعيت ابتسام وعائلتها لحضور حفل زفاف ابن عمتها المليونير في أفخم فندق في المدينة، ذهبت ابتسام لحضور الحفل كما ذهبت ساندريلا إلى الحفلة التي أقامها الأمير في قصره. كان العرس حلبة منافسة قوية بين أجمل الفتيات وأكثرهن غنى وثقافة، وشهادات ومركزاً اجتماعياً، وحين دخل الدكتور عز الدين القاعة الكبيرة التي تتسع لخمسمئة شخص تعلّقت به العيون، وخفقت قلوب العذارى، فهو الرجل الحُلم، الذي لايُقاوم جمالاً وعلماً ومالاً ومركزاً اجتماعياً، لقد تخصص في العلوم الاقتصادية في أميركا، ودرس بعدها المحاماة، وهو ابن أكبر أثرياء المدينة، ووحيد أهله، وقد رجع من أمريكا بناء على إلحاحهم الشديد، واشترى له والده أفخم مكتب محاماة، ليصير الدكتور عز الدين من ألمع المحامين في المدينة، كان يمثل العريس الحلم لكل فتاة عازبة، حتى المتزوجات شعرن بالخيبة وهن يقارن أزواجهن بالدكتور عز الدين. تبارت الآنسات في لفت نظر الدكتور عز الدين، وفي الرقص بجانبه وعرض مفاتنهن بسخاء، وحانت التفاتة من رجل العلم والثقافة في القاعة الكبيرة لتلتقي عينيه عَرَضاً بعيني ابتسام الشاردة أبداً، فانخلع فؤاده أمام هاتين العينين السارحتين في المطلق كما قال لنفسه، وحاول أن يسبر أعماق هاتين العينين الواسعتين، وهو اللّماح والبارع في قراءة لغة العيون، لكنه عجز عن فهم التعبير المميز في هاتين العينين. وماكانت ابتسام تعرف أن هناك من يغرق في شرود نظرتها، وفي تأمل صفحة وجهها النقي الخالي من أي خط يدل على أنها فكّرت ذات يوم. أغمضت ابتسام عينيها وهي تشعر بالنعاس من تأثير الموسيقى الهادئة، فتسارعت دقات قلب الدكتور عز الدين، وتمنى لو يقوم ويخطفها إلى حلبة الرقص، ويلف خصرها النحيل، ويرقص معها رقصة السعادة، تأمل أنفها الصغير الشامخ وخديها الورديين النضرين، وعنقها الأبيض العاجي، آمن أنها هي فتاته التي تستيقظ صورتها من أعماق روحه ووجدانه لتقول له: أنا هي. لم يتمالك نفسه، فسأل والديه عن تلك الفتاة الشاردة التي تلبس فستاناً خمرياً يزيدها فتنة، فلم يعرفها الأب، ولا عرف عائلتها، لكن أمه أبدت سرورها البالغ كونه أعجب بفتاة ما أخيراً، وعند الفجر، وبعد انتهاء حفلة الزفاف همس الدكتور عز الدين في أذن العريس متسائلاً عن تلك الفتاة الرائعة ذات النظرة الشاردة، فضحك العريس طويلاً وقال: إنها ابتسام ابنة خالي. لم تفارق صورة ابتسام خيال الدكتور عز الدين، حتى وهو في قمة مشاغله، كانت صورتها تطارده حتى وهو يتحدث إلى زبائنه، وصار يراها في صفحات الكتب، وحين أتته أمه بالمعلومات المفصّلة عنها وهي تحس بالخيبة والعار من تلك البلهاء التي أثارت إعجاب ابنها الخارق، لم يتراجع عن قراره بالارتباط بها. جن جنون أهله، قالت أمه: أكاد أصدق أن عيناً أصابتك، فهذه الفتاة تركت المدرسة في المرحلة الابتدائية، ولم تنجح في شيء، عدا عن كونها غير ثرية وليست على هذا القدر الكبير من الجمال، فكيف سترتبط بها؟! أصر الدكتور عز الدين على موقفه، وقال حاسماً النقاش: إنها الوحيدة التي شدتني. تقدم لخطبتها مع والديه اللذين لم يستطيعا سوى الإذعان لرغبة وحيدهما. وازداد تعلّق الدكتور عز الدين بابتسام بعد تعرفه إليها، وعشق شرودها، وأحب بشرتها الملساء، وعقلها المسطح، وجسدها الممشوق، وإطلالتها الشبحية، وخابت توقعات الجميع أن يفسخ الدكتور عز الدين خطوبته بعد اكتشافه غباء ابتسام، وانتظر أهله لحظة عودة وعيه، وظل أهل ابتسام مصعوقين وخائفين من فسخ الخطوبة. لكن الدكتور عز الدين نَسَفَ توقعات الجميع، إذ أعلن أنه لن يستطيع الانتظار كثيراً. وأنه قرر عقد قرانه على ابتسام بعد أسبوعين. كان حفل الزفاف أسطورياً، في أفخم فندق في المدينة، وحجز الدكتور عز الدين ستة وثلاثين مقعداً في الطائرة لأصدقائه الأميركان الذين سيحضرون حفل زفافه، وحجز لهم في الفندق نفسه الذي سيتم فيه حفل الزفاف، كان البذخ مبالغاً فيه، الفاكهة الأفريقية بأنواعها، كانت مبذولة بسخاء، وأفخر أنواع المشروبات الروحية، وقالب الحلوى الذي رفع رقاب كل المدعوين ليبلغوا نهايته. تألّقت ابتسام في الفستان الأبيض الطويل المرصع باللؤلؤ، والمطرز بخيوط فضية جلست إلى جانب عريسها كما لو كانت جالسة على الأريكة في بيت والدها شاردة في اللاشيء كعادتها، وهي ترمي الناس من علوها بنظرتها الهائمة، أهل ابتسام وحدهم كاد يُغمى عليهم من الفرح، ورغم أن أختيها شعرتا بالغيرة القاتلة، لكن الغيرة اضّمحلت أمام الذهول والدهشة، فكيف تصدقان أن ابتسام البلهاء تقترن بالدكتور عز الدين، وأي منطق سيقبل هذه الحقيقة! تألق الدكتور عز الدين وبدا في قمة سعادته وهو يتأمل عروسه ويراقصها ويمازحها. وأعيدت صياغة طفولة ابتسام، أو طفولة مدام عز الدين، حسدوها على غبائها الغريب وعلى شرودها ولا مبالاتها، وتمنين في أعماقهن لو كن مثلها، فهذا الغباء المتميز هو الذي أوقع عريساً رائعاً كالدكتور عز الدين في حبائلها، ونظرتها الميتة التي لاتتمخض عن شيء غلبت كل نظرات الإغراء والإعجاب وكل الإشعاعات المنطلقة من العيون. صارت أم ابتسام تحكي بفخر واعتزاز أن ابنتها لم تطق المدرسة، ولم تحب الخياطة، ولا عمل المطبخ، فهي أميرة متنكرة، لا تُحب أن تتعب نفسها، بل عاشت بانتظار الرجل الذي يقدّر النُبل والرفعة في شخصها، فهي ماخُلقت لتتعب وترهق ذهنها بل أدركت بحدسها العميق أن هدف كل حياتها انتظار تلك اللحظة، لحظة يقترن بها أكثر الرجال ذكاءً وثراء وجمالاً! فأي حظ كبير خبأته لك الأيام يا ابتسام! وأية نعمة لا تَضاهى هي نعمة الغباء؟ كوني واثقة من أن مئات الفتيات سيحاولن تقليد نظرتك الشاردة البلهاء، وحبك الكبير للنوم، وعدم اهتمامك بأي شيء، كوني واثقة من أن مئات الأدمغة الذكية ستعصر نفسها لتقلدك، وستتحسر ألماً وغيرة وقهراً لأنها ليست مسطحة مثل دماغك وستقول: آه لو كان دماغنا أملس لايتسع لشيء كدماغ ابتسام
كـــان الوالدان يشعران بالانكماش والخجل من غباء ابنتهما ابتسام، بل ربما تخلّفها العقلي، فنادراً ماتجد إنساناً غبياً في كل شيء كابتسام، فمنذ طفولتها المبكرة كان نشاطها ضعيفاً، إذ تأخرت في الكلام والمشي، حتى ارتكاساتها الطبيعية كالخوف والاندهاش والفرح كانت ضعيفة، واحتار والدها في غبائها، فكل إخوتها وأخواتها أذكياء، سريعو البديهة ناجحون، فمن أين ولد الغباء في هذه الأسرة، غباء مدهش أقرب إلى البلادة الذهنية والبلاهة.
في المدرسة لفتَ غباء ابتسام معلمتها، فاقترحت على أهلها أن تبقى ابنتهم في الصف الأول عاماً آخر، كي تستوعب المعلومات والدروس، لكن ابتسام لم تجن فائدة تذكر من إعادتها للصف الأول، ومع الأيام صارت ابتسام في صف أخيها رجب الذي يصغرها بعامين، وكان يساعدها في دروسها ويقوم بدلاً منها بكتابة وظائفها، خاصة في الرياضيات ثم سبقها في الدراسة إذ رسبت ابتسام في الصف الخامس وفشلت كل محاولات المعلّمة لترفيعها إلى الصف السادس. وتشاورت المعلّمة مع الإدارة وبيّنت أن ابتسام طالبة متخلفة، وأنها تشعر كأن ثمة حاجزاً من الاسمنت في دماغها، فهي لاتفهم، وأبسط العمليات الحسابية تصفن فيها طويلاً، وبلا جدوى، فكيف يمكن للمعلمة أن تساعدها، وأن تعطيها علامات لاتستحقها، وبعد تفكير، استدعت المديرة والد ابتسام، وبمنتهى اللباقة أوضحت له أن ابنته لاتميل إلى العلم ومن الأفضل لها أن تترك الدراسة، وتكسب الوقت عساها تتعلم صنعة ما. وأطرق الوالد خجلاً واعترف لنفسه بأن كل كلمة قالتها المديرة صحيحة وأنه ما من فائدة في خضّ الماء، وفي جعل ابتسام تتابع تعليمها.
رجع إلى البيت منكسر النفس قال لزوجته وهو يكتم غيظه:
-لا أعلم من أين ورثت هذه الفتاة كل هذا الغباء؟ إنها مصيبة حقاً.
بكت الأم وقالت: إنها ابنتك، فلا تقل عنها إنها مصيبة.
وكأن دموع الأم فجّرت غضبه، إذ قال:
-ماذا سنفعل معها إذاً، لقد حاولوا جهودهم ترفيعها إلى الصف السادس لكن مامن فائدة ترجى، وكل جهودنا وجهود إخوتها في تدريسها باءت بالفشل، إنها متخلفة عقلياً حقاً.
-أرجوك لا أحب أن أسمع هذا الكلام عن ابنتي.
-وماذا تريدينني أن أقول، فهذه هي الحقيقة.
-لعلها تنجح في مجالات أخرى.
-أية مجالات؟
-لقد فكرت فعلاً في أن تترك ابتسام المدرسة وتلتحق بدورة لتعلم الخياطة، فما رأيك؟
-ومن قال إنها ستفلح بالخياطة؟
-لنجرّب، قلبي يحدثني بأنها ستفلح.
أجاب الأب بسخرية: إذا تحدّث قلب الأم فآمنوا بما قال.
التحقت ابتسام وهي في الثالثة عشرة من عمرها بدورة الخياطة، لكنها فُصلت بعد ستة أشهر لأنها عجزت عن أدراك أبسط القواعد في التفصيل.
عادت إلى البيت ثانية، سؤالاً مؤلماً مطروحاً على أهلها وأخوتها الذين لم يكونوا بحاجة لمداراة مشاعرها، لأنها أصلاً غير متألمة ولا منزعجة، ولا تحس بأن هناك مشكلة أساساً، فغباؤها يتركها في حالة من الراحة والسعادة الدائمتين، فهي لاتعاني أزمات إخوتها المتفوقين ومنافستهم لرفاقهم، وتوترهم قبل الامتحانات، وقلقهم من نتائج الامتحان. إن ذهنها صاف، لاتعكّره أفكار ولا أحلام أو طموحات، إنه أشبه بسطح بحيرة راكدة نسيتها الرياح.
اقترح أخوها رجب بعد أشهر من تركها للخياطة أن تتعلم فن الحلاقة النسائية، عند أخت صديقه المشهورة في تصفيف شعر السيدات، ولكن ابتسام لم تستطع الاحتمال سوى أيام، أعلنت بعدها باكية أنها لاتقدر على الوقوف طويلاً لتتعلم كيف يُقصُ شعر السيدات ويُصفف، وأن صوت آلة تجفيف الشعر يسبب لها الصداع.
لم يستطع الأب كبح يأسه وغضبه وقال لها:
-لن تخرجي بعد الآن من هذا البيت، ابقي ساعدي أمك.
فرحت ابتسام بقرار والدها، هكذا ستلوذ بالبيت وترتاح من تعلّم أي شيء، ولطالما تساءلت بينها وبين نفسها: لماذا يتعب الإنسان نفسه ويُرهق ذهنه وجسده؟ وفي سبيل ماذا؟ ثم تتنهد وتقول: آه ماأصعب العلم، لماذا علي أن أحفظ أرقاماً ومعادلات؟ لماذا علي أن أعرف ماذا يجري في البلدان المجاورة وغير المجاورة؟ أنا سعيدة هكذا، ولا علاقة لي بغيري، أما كلمة رياضيات فتجعلها تجفل، فهي تبصر كوابيس وهي نائمة فتقوم مجفلة وقلبها يطرق بسرعة وأنفاسها تتلاحق، وهي تتذكر مدّرسة الرياضيات تطلب إليها أن تحل مسألة، خاصة تلك المسائل التي ينطلق فيها قطاران كل من مدينة ويلتقيان في مسافة ماعلى الطريق، وعليها أن تحسب الزمن والمسافة، أوف ماذا يفيد هذا التعقيد، فهي إن سافرت لن يهمها سوى قطارها الذي ستركبه، فما علاقتها بباقي القطارات؟!
كانت ابتسام تقضي ساعات طويلة شاردة لاتتحرك، كأنها جماد، وحين كانت والدتها تغضب منها وتقول لها: بالله عليك قولي لي، بماذا تفكرين؟
تحلف وتقول لأمها: والله يا أمي لا أفكر بشيء.
-وهل يُعقل ألا تفكري بشيء يا ابنتي؟
-أقسم لك أني لا أفكر بشيء، بل أحب هكذا أن أجلس وأرتاح.
-ترتاحين من ماذا؟ وهل تبذلين جهداً حتى ترتاحي، يا إلهي أنتِ لم تنجحي حتى في عمل المطبخ!
-أوه يا أمي، الطبخ صعب.
فتقنع الأم بأن استمرار الحوار مع ابتسام لايجدي، فقدرها أن يكون أحد أولادها على درجة كبيرة من الغباء، فلتقبل بإرادة الله وتقنع.
كانت ابتسام هي الهمّ الوحيد لوالديها، وكانا يتساءلان دوماً كيف سيؤمنان مستقبلها، فهما يعيلان أولادهما بجهد ويقومان بواجبيهما في تدريسهم، وفي المستقبل سيشق كل منهم طريقاً لنفسه وسيعمل، وابتسام مامصيرها؟ لمن يرتكانها؟ ومن سيتقدم للزواج منها وهي على هذا الغباء؟ صحيح أنها جميلة، لكن أية قيمة لجمال دون رصيد من المعرفة والذكاء؟
هي يصح أن يقال عن الجمال إنه غبي أيضاً؟ ربما، فوجهها مستدير، وبشرتها بيضاء ناعمة كبشرة الأطفال، وعيناها واسعتان إنما لاتعبّران عن أي شيء، لاتلتمعان ذكاء ولا عاطفة، لاقلقاً ولا حزناً، نظرة مطفأة شاردة، لعل أجمل مافيها أنفها، أنف صغير شامخ، كانت أختها تحسدها عليه، كانت طويلة ممشوقة، تبدو كشبح أحياناً، وهي تمشي ببطء بقامتها الطويلة وعينيها الشاردتين، لم يتقدم أحد لخطبتها رغم أنها بلغت العشرين، وبدأ والداها يقلقان على مستقبلها، ويفكران بطريقة لايتركانها فيها عالة على إخوتها، وماأدراهما بغدر الزمن. فقد يتهرب منها إخوتها ويتركونها وحيدة لامعيل لها، وكل الأقرباء والمعارف لايرضونها زوجة لأحد أولادهم، فما حاجتهم لزوجة تحمل هذا القدر المخيف من الغباء.
هل كانت ابتسام متعلّقة بشيء؟ إطلاقاً، فلا القراءة ولا الموسيقى، ولا الثرثرة ولا الزيارات كانت تثيرها، لعلها كانت متعلقة بالنوم فقط، فهي تعشق النوم، تظل نائمة إلى أن توقظها أمها، وقد تضطر أمها إلى الصراخ قرب سريرها أو قرصها حتى تستيقظ، وتظل ابتسام مستسلمة لعالم النوم أكثر من ساعتين، حتى تصحو تماماً بعد أن ترشف ثلاثة فناجين من القهوة، وتجلس كعادتها ساهمة في اللاشيء.
ذلك أن والدتها آثرت أن تعمل وحدها في المطبخ دون مساعدة ابتسام، وكم حدّثت الأم المسكينة نفسها وقالت: يا إلهي أي ذنب ارتكبته حتى أنجب بنتاً بلهاء كابتسام.
ولكن من يدري ماذا تخبئ الأيام؟ وكيف يصير الغباء حظاً؟ بل ربما نعمة من السماء! فيوم دُعيت ابتسام وعائلتها لحضور حفل زفاف ابن عمتها المليونير في أفخم فندق في المدينة، ذهبت ابتسام لحضور الحفل كما ذهبت ساندريلا إلى الحفلة التي أقامها الأمير في قصره.
كان العرس حلبة منافسة قوية بين أجمل الفتيات وأكثرهن غنى وثقافة، وشهادات ومركزاً اجتماعياً، وحين دخل الدكتور عز الدين القاعة الكبيرة التي تتسع لخمسمئة شخص تعلّقت به العيون، وخفقت قلوب العذارى، فهو الرجل الحُلم، الذي لايُقاوم جمالاً وعلماً ومالاً ومركزاً اجتماعياً، لقد تخصص في العلوم الاقتصادية في أميركا، ودرس بعدها المحاماة، وهو ابن أكبر أثرياء المدينة، ووحيد أهله، وقد رجع من أمريكا بناء على إلحاحهم الشديد، واشترى له والده أفخم مكتب محاماة، ليصير الدكتور عز الدين من ألمع المحامين في المدينة، كان يمثل العريس الحلم لكل فتاة عازبة، حتى المتزوجات شعرن بالخيبة وهن يقارن أزواجهن بالدكتور عز الدين.
تبارت الآنسات في لفت نظر الدكتور عز الدين، وفي الرقص بجانبه وعرض مفاتنهن بسخاء، وحانت التفاتة من رجل العلم والثقافة في القاعة الكبيرة لتلتقي عينيه عَرَضاً بعيني ابتسام الشاردة أبداً، فانخلع فؤاده أمام هاتين العينين السارحتين في المطلق كما قال لنفسه، وحاول أن يسبر أعماق هاتين العينين الواسعتين، وهو اللّماح والبارع في قراءة لغة العيون، لكنه عجز عن فهم التعبير المميز في هاتين العينين.
وماكانت ابتسام تعرف أن هناك من يغرق في شرود نظرتها، وفي تأمل صفحة وجهها النقي الخالي من أي خط يدل على أنها فكّرت ذات يوم.
أغمضت ابتسام عينيها وهي تشعر بالنعاس من تأثير الموسيقى الهادئة، فتسارعت دقات قلب الدكتور عز الدين، وتمنى لو يقوم ويخطفها إلى حلبة الرقص، ويلف خصرها النحيل، ويرقص معها رقصة السعادة، تأمل أنفها الصغير الشامخ وخديها الورديين النضرين، وعنقها الأبيض العاجي، آمن أنها هي فتاته التي تستيقظ صورتها من أعماق روحه ووجدانه لتقول له: أنا هي.
لم يتمالك نفسه، فسأل والديه عن تلك الفتاة الشاردة التي تلبس فستاناً خمرياً يزيدها فتنة، فلم يعرفها الأب، ولا عرف عائلتها، لكن أمه أبدت سرورها البالغ كونه أعجب بفتاة ما أخيراً، وعند الفجر، وبعد انتهاء حفلة الزفاف همس الدكتور عز الدين في أذن العريس متسائلاً عن تلك الفتاة الرائعة ذات النظرة الشاردة، فضحك العريس طويلاً وقال: إنها ابتسام ابنة خالي.
لم تفارق صورة ابتسام خيال الدكتور عز الدين، حتى وهو في قمة مشاغله، كانت صورتها تطارده حتى وهو يتحدث إلى زبائنه، وصار يراها في صفحات الكتب، وحين أتته أمه بالمعلومات المفصّلة عنها وهي تحس بالخيبة والعار من تلك البلهاء التي أثارت إعجاب ابنها الخارق، لم يتراجع عن قراره بالارتباط بها.
جن جنون أهله، قالت أمه: أكاد أصدق أن عيناً أصابتك، فهذه الفتاة تركت المدرسة في المرحلة الابتدائية، ولم تنجح في شيء، عدا عن كونها غير ثرية وليست على هذا القدر الكبير من الجمال، فكيف سترتبط بها؟!
أصر الدكتور عز الدين على موقفه، وقال حاسماً النقاش: إنها الوحيدة التي شدتني.
تقدم لخطبتها مع والديه اللذين لم يستطيعا سوى الإذعان لرغبة وحيدهما.
وازداد تعلّق الدكتور عز الدين بابتسام بعد تعرفه إليها، وعشق شرودها، وأحب بشرتها الملساء، وعقلها المسطح، وجسدها الممشوق، وإطلالتها الشبحية، وخابت توقعات الجميع أن يفسخ الدكتور عز الدين خطوبته بعد اكتشافه غباء ابتسام، وانتظر أهله لحظة عودة وعيه، وظل أهل ابتسام مصعوقين وخائفين من فسخ الخطوبة. لكن الدكتور عز الدين نَسَفَ توقعات الجميع، إذ أعلن أنه لن يستطيع الانتظار كثيراً. وأنه قرر عقد قرانه على ابتسام بعد أسبوعين.
كان حفل الزفاف أسطورياً، في أفخم فندق في المدينة، وحجز الدكتور عز الدين ستة وثلاثين مقعداً في الطائرة لأصدقائه الأميركان الذين سيحضرون حفل زفافه، وحجز لهم في الفندق نفسه الذي سيتم فيه حفل الزفاف، كان البذخ مبالغاً فيه، الفاكهة الأفريقية بأنواعها، كانت مبذولة بسخاء، وأفخر أنواع المشروبات الروحية، وقالب الحلوى الذي رفع رقاب كل المدعوين ليبلغوا نهايته.
تألّقت ابتسام في الفستان الأبيض الطويل المرصع باللؤلؤ، والمطرز بخيوط فضية جلست إلى جانب عريسها كما لو كانت جالسة على الأريكة في بيت والدها شاردة في اللاشيء كعادتها، وهي ترمي الناس من علوها بنظرتها الهائمة، أهل ابتسام وحدهم كاد يُغمى عليهم من الفرح، ورغم أن أختيها شعرتا بالغيرة القاتلة، لكن الغيرة اضّمحلت أمام الذهول والدهشة، فكيف تصدقان أن ابتسام البلهاء تقترن بالدكتور عز الدين، وأي منطق سيقبل هذه الحقيقة!
تألق الدكتور عز الدين وبدا في قمة سعادته وهو يتأمل عروسه ويراقصها ويمازحها. وأعيدت صياغة طفولة ابتسام، أو طفولة مدام عز الدين، حسدوها على غبائها الغريب وعلى شرودها ولا مبالاتها، وتمنين في أعماقهن لو كن مثلها، فهذا الغباء المتميز هو الذي أوقع عريساً رائعاً كالدكتور عز الدين في حبائلها، ونظرتها الميتة التي لاتتمخض عن شيء غلبت كل نظرات الإغراء والإعجاب وكل الإشعاعات المنطلقة من العيون.
صارت أم ابتسام تحكي بفخر واعتزاز أن ابنتها لم تطق المدرسة، ولم تحب الخياطة، ولا عمل المطبخ، فهي أميرة متنكرة، لا تُحب أن تتعب نفسها، بل عاشت بانتظار الرجل الذي يقدّر النُبل والرفعة في شخصها، فهي ماخُلقت لتتعب وترهق ذهنها بل أدركت بحدسها العميق أن هدف كل حياتها انتظار تلك اللحظة، لحظة يقترن بها أكثر الرجال ذكاءً وثراء وجمالاً! فأي حظ كبير خبأته لك الأيام يا ابتسام! وأية نعمة لا تَضاهى هي نعمة الغباء؟ كوني واثقة من أن مئات الفتيات سيحاولن تقليد نظرتك الشاردة البلهاء، وحبك الكبير للنوم، وعدم اهتمامك بأي شيء، كوني واثقة من أن مئات الأدمغة الذكية ستعصر نفسها لتقلدك، وستتحسر ألماً وغيرة وقهراً لأنها ليست مسطحة مثل دماغك وستقول: آه لو كان دماغنا أملس لايتسع لشيء كدماغ ابتسام