البلهـــــــاء

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : .هيفاء بيطار | المصدر : www.awu-dam.org

بعــــد يومين من زفاف وحيدها، وُجدت تيريزا البلهاء ميتة تحت شجرة السنديان الهرمة الوحيدة في الحديقة الصغيرة قرب بيتها، تحديداً الغرفة الحقيرة التي عاشت فيها ربع قرن مع ابنها.‏

اختلفت الآراء حول وفاة تيريزا البلهاء، منهم من رجّح أنها انتحرت، مستحضرين فرويد إلى أذهانهم الذي سيعتبر -كما يحلو لهم أن يفسروا- زواج ابنها نهاية لحياتها من جهة، وتكثيفاً شديداً للحادثة التي صبغت مستقبلها إلى الأبد، حين حملت بابنها وهي في الرابعة عشرة، وتنصّل الأب من الاعتراف بأبوته للجنين، واعتقد بعضهم أن تيريزا البلهاء توفيت بسرطان الثدي الذي تعاني منه منذ سنوات، وترفض العلاج. أما ابنها الذي بكاها بدموع من نار، فكان يهذي وسط دموعه بأنها توفيت من الحزن، وبأن الحزن حين يزيد عن‏

حد معين يصبح قاتلاً.‏

لم يشيّع تيريزا البلهاء إلى مثواها الأخير سوى نفر قليل من الناس، أختاها الوحيدتان دون زوجيهما، اللذين كانا متبرئان من تيريزا الساقطة، ابنها وزوجته، ومالكة الغرفة التي استأجرتها تيريزا لتعيش فيها مع ابنها.‏

التصقت بتيريزا صفة البلهاء مذ كانت في الرابعة عشرة. كانت كبرى إخوتها، ومسؤولة عن العناية بهم لأن أمها مضطرة للعمل من الصباح وحتى المساء خادمة في البيوت لتعيلهم، فيما والدها هائمٌ منذ سنوات في مصحٍ للأمراض العقلية.‏

كثيراً ماحلمت تيريزا بزيارة والدها، لكن أمها كانت تزجرها كل مرة، تنهاها عن ذكره، فما كان من هذا النهي القاسي إلا أن يزيد اضطرام أشواقها وأفكارها نحو والدها، كان غيابه يجعل حبها له شفافاً ونقياً لاتشوبه كلمات البشر الفظة القاسية، ولا تصرفاتهم الخالية من الرحمة، وكثيراً ماكانت ترنو إلى البعيد وتتخيل أنها تركض مسافات ومسافات لتلقي بجسدها في حضنه، فيضمها بقوة إلى صدره وتمتزج دموعهما، وهو يعدها أنه لن يتركها أبداً... كانت صديقاتها يسخرن منها حين يضبطنها تبتسم وتبرطم بكلمات وحدها، فيقلن لها: المجانين فقط يتحدثون مع أنفسهم، لكنها كانت تبتسم ولا تُعلّق بكلمة. فهي تحب صديقاتها من كل قلبها حتى لو سخرن منها وتهامسن بأنها بلهاء. ماكانت تفهم فن الكذب، ولا فلسفة الغش، إنها تُعبّر عن كل ماتحسه بالقول والفعل وعلى الملأ. ماكانت تفهم لماذا يداري الناس سلوكهم، ولماذا يكونون بعدّة أقنعة! ذات يوم حين زارتهم جارتهم، أدهشها ترحيب أمها الحار بالمرأة، فانبرت تيريزا تقول بسذاجة: أمي، أليست هذه جارتنا التي تقولين عنها بخيلة وثرثارة ولا يهمها سوى اصطياد زوج ثري لابنتها.‏

انقطعت العلاقة بين المرأتين بسبب تيريزا البلهاء، ورغم العتب القاسي الذي تعرّضت له تيريزا من أمها، فإنها لم تفهم لماذا اعْتبرت مذنبة؟! بقيت على تساؤلاتها الساذجة لماذا لايقول الناس كل شيء أمام بعضهم، لماذا يكذبون؟ ومامعنى الكذب؟‏

فرحت بجسدها اللدن الرشيق، الذي أخذ يتكوّر، ويشع حرارة جديدة، أشبه بتيارات مائية ساخنة تدغدغ جلدها وأحشاءها، كانت تضحك لصورتها في المرآة، وهي تكتشف تلك المشاعر اللذيذة، وتتساءل: لماذا لم تشعر بها من قبل؟ كانت تقضي ساعات تتأمل نهديها الشامخين، وتمرر يديها على وركيها وبطنها وفخذيها، منتشية بالتحوّل الجميل والمدهش في جسدها، كانت مزهوة بتفتّح أزهارها، بالثمار اليانعة الشهية التي ترغب أن يتحلّب الناس ليتذوقوها، وكانت تبكي بدموع سخية وهي تسمع أغاني عبد الحليم حافظ الذي احتل أحلام يقظتها التي لاتنقطع إلا عند الضرورة.‏

في الثالثة عشرة سقطت تيريزا في شرك الحب، كل الحارة شهدت حبها للشاب الجميل الذي يقود سيارته الفخمة البيضاء، ودون أن تتلفت خائفة وأمام العيون المتلصصة من الشقوق والثقوب، كانت تيريزا تركض إلى حبيبها، وتجلس بجانبه في السيارة ليأخذها إلى الشقة التي استأجرها لغرامياته.‏

دُهشت تيريزا حين انفضّت عنها صديقاتها، وصرن يرمقنها باحتقار ويتهامسن حين تمر بجانبهن، كانت تتساءل بدهشة وحزن: لماذا تغيّرت نظراتهن؟! ماكان لها أن تفهم أبداً نظرة الاحتقار، فهي لم تختبر هذا الشعور، ومادة روحها النقية غير مؤهبة للإحساس به.‏

أخذ بطن تيريزا يتكوّر، ويزداد حجماً، أدهشها أنها غدت بدينة، مع أنها لاتأكل زيادة عن عادتها! وبأن تنورتها الوحيدة ماعادت تحيط بخصرها. حتى الشهر الخامس لم تلحظ الأم حمل ابنتها، في الواقع لم تكن تراها، لأنها تعود إلى البيت حطام امرأة. متهالكة من التعب، تمسح أولادها بنظرة، وتغطّ في النوم، تاركة صغارها يكبرون برعاية تيريزا البلهاء والعناية الإلهية، وصدقات الجيران.‏

ذات يوم تحلّقت صديقات تيريزا حولها وسألنها: تيريزا، ألا تلاحظين أن بطنك يكبر؟ ويتغامزن وينفجرن ضاحكات.‏

فتلمس تيريزا بطنها متعجبة وتقول: أجل إنه يكبر.‏

فيسألنها: تيريزا من والد طفلك؟!‏

تحملق تيريزا في وجوههن وتتساءل بدهشة طفولية: طفل، أي طفل!.‏

تقول إحدى صديقاتها: من تعاشر رجلاً تحمل بطفل.‏

كانت تيريزا تفسّر كبر بطنها، بسبب انقطاع الطمث، فالدم يتجمّع في الداخل، ويجعل بطنها يكبر، كانت مقتنعة كلياً بهذا التحليل الدقيق لكبر بطنها، ولم تكن تقلق، فذات يوم سيتدفق كل هذا الدم إلى الخارج ويعود بطنها إلى حجمه الطبيعي.‏

ضربتها أمها بوحشية وهي تسألها: منذ متى تعاشرين هذا الكلب؟ وكانت تيريزا تبكي وترتعش ولا تتفوه بكلمة، استدعت الجلاّدة القابلة لتكشف على ابنتها، وبعد الفحص رفعت القابلة عينين زائغتين بالدهشة وأدلت بتقريرها: الفتاة حامل في شهرها الخامس، لكنها لاتزال عذراء!!‏

اقتحمت أم تيريزا منزل الشاب الثري وواجهت أسرته بحمل ابنتها، طُردت الأم واختفى الشاب عن الأنظار، استدانت الأم المنحوسة -كما غدا اسمها في الحارة- المال، وأقامت دعوى على الشاب لتضطره للزواج من تيريزا والاعتراف بابنه، لكن الشاب نفى أبوته للطفل، وقال في المحكمة بأن تيريزا عاهرة وتعرف الكثير من الرجال غيره، وذكر أسماء خمسة من أصدقائه وأصدقاء والده على أنهم عشّاق لتيريزا، وأصرَّ على استدعاء هؤلاء العشّاق وسماع شهاداتهم بتيريزا، عارفاً أنهم سيذكرون جميعاً الوحمة البنفسجية فوق عانة تيريزا بقليل!‏

وحين واجه محامي تيريزا المحكمة بتقرير طبي يثبت أن تيريزا لاتزال عذراء، وبشهود من الجيران، يؤكدون أن الفتاة لم تخرج سوى مع الشاب الثري، استمر الأب في نكرانه، وانتهت الدعوى بأن دفع الشاب مبلغاً كبيراً لصاحب السيادة كي يُبرأ من أبوة الطفل الذي تحمله البلهاء في بطنها.‏

كان على تيريزا أن تعرف دفعة واحدة معنى الألم والتخلي ونبذ الناس لها واحتقارها، الذي أحسته يؤلمها كوخز الإبر، كان عليها أن تعرف دفعة واحدة معنى الوحدة وموت المشاعر البكر الطاهرة التي كانت تدفعها لتأمل جسدها بافتتان وللارتماء في أحضان الحبيب مكتشفة جسدها في جسده، وسعيدة بأن يكتشف جسده في جسدها.‏

انقضت كل تلك المشاعر الوحشية القاسية على تيريزا، وأحاطتها كدائرة من نار وهي تتمخّض معانية آلاماً لاتطاق، بينما لاتسمع كلمة واحدة تؤاسيها من أمها، أو القابلة، فمن يؤاسي فتاة حملت سفاحاً؟ لكن تيريزا البلهاء غدت أماً بطرفة عين، ولدت إنسانة جديدة في اللحظة التي قذف رحمها ابنها.‏

خلال أشهر شاخت الصبية ذات الأربعة عشر عاماً، ماتت شهوتها للرجل وتحوّلت إلى جرح سيظل مفتوح الشفتين مدى الحياة، وضاع ذلك الشعور البهي المتوهج الذي لاتعرف أن اسمه الشهوة في غياهب الإهمال، أعطت روحها وكيانها لوحيدها، صار دنياها وعالمها. كانت ترتعد من قسوة النظرات ووحشيتها فتهرب إلى دنيا صغيرها، إنه الكائن الوحيد الذي يُحبها ويقبّلها، ويقبلها كماهي، وحده لايصدّق أنها زانية.‏

كبر الصغير وكان صورة طبق الأصل عن والده، حاول البعض ممن يحتفظون ببقايا رحمة في قلوبهم أن يصحبوا طفل الزانية إلى والده، ليفحموه بالشبه بينهما، لكن الأب استمر في النكران، وتزوج من فتاة من سويته المالية، وأنجب منها ثلاث بنات، لكن حرقة الصبي ظلت تلاحقه، فكان يقول في سره، أيُعقل أن أنجب ثلاث بنات في الحلال، فيما الصبي لا أنجبه إلا في الحرام.‏

استطاعت تيريزا البلهاء أن تنتزع شفقة الناس بعد سنوات وليس احترامهم، فالكل يشهد كم أحبت طفلها، ظلت تحمله حتى العاشرة من عمره، كانت تقضي ساعات بجانبه تتأمله وهو نائم، تغني له أغاني عبد الحليم بصوتها الهامس العذب، وتمسح دموعها الخرساء. ماعادت تتذكر أنها أنثى. انحفر الرجل في ذاكرتها مدية تطعنها في الخلف، كانت دروس الحياة المبكرة والقاسية قد جعلتها تفقد أدنى رغبة في المقاومة. كان الاستسلام التام لكل ماجرى معها هو الحل الأكثر رحمة وتحملاً بالنسبة لها، وقد قاومت بضراوة محاولة العديد من الشبان جعلها عشيقة، حتى أن أحدهم قال لها غير مصدق إنها لاتنوي معاشرة أي رجل: إلى متى ستتظاهرين بأنك شريفة، وقد تعوّدت أن تباعدي بين ساقيك مذ كنتِ في الثالثة عشرة؟‏

تعوّدت تيريزا على ابتلاع الإهانات، واستمرت تقبر الأيام، يوماً بعد يوم، لا يعنيها سوى ابنها، وتمكنت بواسطة جارتهم الوحيدة التي تشفق عليها من الحصول على عمل في مؤسسة لبيع الخضار، وفي أوقات فراغها المستفيضة كانت تيريزا تُبدع كنزات صوفية رائعة تبيعها وتساعد نفسها على العيش.‏

الصغير غدا كبيراً حين عاين جرح أمه، باحت له وهي ترتعد من شعورها بالعار من يكون والده، سربلهما صمتٌ طويل لم تجرحه كلمات لأيام، كانت تعاني آلاماً لاتطاق، وتخشى أن تفقد احترام الرجل الوحيد في حياتها، لكنه بعد أيام دفن رأسه في صدرها قائلاً: أنتِ أروع أم في الدنيا. لكم أحبك ياتيريزا الرائعة، أماهو فأكرهه، أنا لاأب لي.‏

كم كانت صادقة حين قالت له: لا تكرهه يابني، لاتجعل الكره يعّكر روحك.‏

كانت تيريزا تعاني من اشمئزاز شديد حين ترى رجلاً وامرأة يتغازلان على شاشة التلفاز، ظلت أسيرة مشاعر الإثم طوال حياتها، وساعد موقف اخواتها من رسوخ هذه المشاعر، فبعد زواجهن انقطعن كلياً عن زيارتها، فهمت من غير أن تسأل أن أزواجهن يمنعونهن من زيارة الأخت الآثمة التي أنجبت من غير زواج.‏

حين بلغ ابن تيريزا السادسة عشرة، فوجئت بعناية زائفة من أمها وجارتهم، ليقنعوها بالزواج من أرمل يعيش في الأردن، أكدتا لها أن هذا الزواج هو الوحيد القادر على إعادة الاعتبار ونفض الغبار عن كرامة تيريزا المعفّرة في وحل الإثم منذ سنوات، فالرجل سيسجل ابن الحرام على اسمه، رفضت تيريزا بقوة وقالت بأنها لاتطيق الرجال ولا تستطيع أن تقرِّب رجلاً. لكن الأم والجارة أقنعتاها بأن زواجها سيحّول ابنها من ابن حرام إلى ابن شرعي وبأنها يجب أن تضحي في سبيل ابنها.‏

قبلت تيريزا الزواج من الكهل، سافرت معه إلى عالمه الغريب، منتظرة اللحظة التي سيسجل فيها ابنها على اسمه، لكنه أخذ يتملص، بدا لها واضحاً منذ البداية أنه يريدها خادمة، بل عاهرة، كان يجبرها على لبس ثياب داخلية خليعة، ويطلب إليها أن تقوم بحركات معينة، ويضربها كي تشاهد كل يوم العديد من الأفلام الجنسية الخليعة لتتعلم فن ممارسة الجنس، لم تستطع تيريزا الاحتمال، هربت منه بعد أن قال لها بأنه يستحيل أن يسجّل ابن الزانية على اسمه، وبعد أن صرخ في إحدى فورات غضبه: ياقحبة كنتُ أظنك تعرفين فنون إرضاء الرجال، فإذا أنت تيريزا البلهاء حقاً.‏

عادت تيريزا إلى غرفتها الضيقة تنشر أحزانها على الجدران، واستأنفت حلمها الشاق الوحيد بأن يدخل ابنها كلية الهندسة. وأخيراً ابتسمت، هي التي نسيت الابتسام، حين حصل ابنها على لقب مهندس، وخطب زميلة له في الجامعة، وترك أمه تعيش وحيدة مع ذاكرة شوّهتها الآلام.‏

تحوّلت تيريزا إلى إنسانة شبه خرساء، كانت تقضي أياماً لاتنفتح شفتاها عن كلمة، الجملة الأخيرة التي تفوّهت بها قبل وفاتها بيومين لجارتها: أحس أن حياتي سراب.‏

القلة الذين شاهدوا جثة تيريزا تحت شجرة السنديان الهرمة، انتابهم إحساس واحد بأنها كانت تحلم، ثمة ابتسامة ترفرف على وجهها، وسرب أحلام يطوف حول عينيها ترى بماذا كانت تحلم تيريزا البلهاء قبل أن تسلم الروح؟‍!‏