الي القاص لؤي حمزة عباس
كان يجب عليّ أن أزيد من جدّية تفكيري، ذلك لأني لم أقدم على فعل كهذا، مستنداً على فراغ، بل كان كل الذي شكل بصيرتي إحساس من يدرك الأشياء ويتنبأ بها، ثم خوفي الشديد منذ القِدم من الأشياء، كم تحزنني الطوابير، والانتظارات وهدر الوقت دونما جدوى. ليس ماينم عن إحساسي بفاجعة الأفعال غير ما أسلطه من نظرات دائمة ومتفحصة للدقائق من الأمور. وكثيرة هي الروايات المتخمة بالانتظارات، ولشد مايعذبني الانتظار، لذلك فقد آليت على نفسي أن لا أسقط في مصيدته. ومازلت داخل مصيدة كبيرة، لذا أدركني إحساس التوجس والحذر والخوف من جديد، وأنا أحمل أوراقي الملفعة بالملف الذي أخذ يتنامى مثل عشب برّي، ويشتد إلى مالا نهاية، مما أكد عندي مثل هذا الشعور، كوني أدخلتُ نفسي في مطب جديد، لا يمكن الفكاك منه، والإفلات من مخالبه، فأنا حرف بين كل هذه الكلمات والسطور والصفحات. زمن انقله في إضبارة. درجة تلو أخرى، قلت لهم : كل الذي أريده هو طمر جثتي التي تنتظر في الخارج، فما عليكم إلاّ إكمال أوراق التصريح بالدفن والترحيل لكنهم لم يكترثوا، أو أني لم أستطع البوح أمامهم بحقيقة إدراكي لمصيري لذا فخطابي إلى نفسي بقي حبيساً، وأنا أدور من شعبة لأخرى في الدائرة.
أخرج من باب ضيقة نحو أخرى أوسع، أو تلفظي باب واسعة تتسع لعشيرة، كي أدخل أخرى كخرم الإبرة، والنظرات تشيعني وتحاصرني، ثم الأقوال الكامنة في نفوسهم كثيرة، وإن ازداد صراخي أمامهم فإنه يبقى مكبوتاً ماشأنكم بما مقدم أنا عليه ،ربما يضحكون حتى أوضح لهم رغبتي في دفن جثتي بعد تشييعها، أولي رغبة في نقلها من قصيدة إلى أخرى. ربما يستغربون من أمر تشيعي لها لوحدي، لكني استدرك الأمر وأقول لقد ولدت وحدي، وعشت كذلك، أما أمر الدفن فلا يشاركني فيه أحد، فهو كيوم مولدي، وهذه محض رغبة إنهم بالتأكيد لا يرغبون حتى سماع مثل هذا الكلام الذي لا يثير حزنهم عليّ، بقدر مايثير اشمئزازهم من فعل كهذا. لكني بذات الإصرار الذي زاده الانتظار والتجوال داخل أروقة وممرات الدائرة، محدقاً بما يجري أمامي من أمر التلاعب بي، وبمقدراتي، التي وجدت متكئها في حالة الاستسلام هذه، من أجل الحصول على أوراقي كاملة.
لذا عليّ أن أُجاري مايحاك من حولي من مكيدة، وما ينسجون أمامي وفوقي من خيوط العنكبوت، إنه فعلهم المعطل، وهو محاولة لقهري، حتى في حالة موتي ورحيلي، ضمن أوراقهم التي أروم إكمالها، لكي أنتقل إلى معمل أو وظيفة أخرى، كما جرى طيلة وجودي في الخدمة، ولمدة ثلاثين عاماً، لهذا يحاولون إجهادي وتعطيل قدرتي على الحركة والانتقال، وحمل جثتي، ونقلها، كي أودعها المدفن الصحراوي الذي أروم، فبالرغم من إصراري في عدم مشاركة أي من الأصدقاء والمعارف في أمر حمل جثماني هذا، والعبور به نحو المسافات وعبرها، حيث تتوحد السماء مع الأرض، وإذ يعم السكوت اللذيذ. عندها يزداد خوفي وفرحي، ويتناسل قلقهم ويستقر هدوئي. من هذا حرمّت عليهم مساعدتي قائلاً: إنها جثتي وأنا كفيل بها، وسرت على قدمين كليلتين، ووجه محتقن محمّر، ومعروق، وأنا أضيف ورقة تلو ورقة إلى هذا الملف، أو بالأحرى هم من يضيف مثل هذه الأوراق، التي أعتبرها متوالية مقصودة، لتعذيبي وقهري، وحرماني حتى من أن أوارى في باطن الأرض، لذلك فحين قلتُ لأحدهم:
- ألا تتعجل في إكمال المعاملة يا أخي؟!
- استغرب ، رافعاً رأسه المنكّب ، حيث تساءل:
- ولماذا العجلة، كل شيء يأخذ مجراه..!
قلت، ثم قال ضجراً:
- هكذا ياسيد. كما تجري مع غيرك.
- والجثّة..؟!!
- أية جثّة....؟! ماذا تقصد ...؟!
ورفع صاحبي رأسه متسائلاً، بينما أثار حديثي فضول الفتيات الجميلات اللائي كن يتحدثن مع بعضهن دون عمل.. أجبت:
- جثتي، إنها ترقد على ظهر الباص، ستتعفن بفعل الحرارة...!
- جثتك أنت..؟!!
- بل أقصد أوراقي، هل تتم اليوم..؟
إذ تداركت سر ارتكابي لمثل هذا الخطأ، فأين هم من تفكيري وحواسي وإحساساتي؟! وأين موقعهم مما يدور في رأسي ومخيلتي، فإذا كانت أوراقي التي بين أيديهم هي إجراءات طبيعية، فأنا أحسها على غير هذه الصورة، فكيف أطرح مثل هذه الأفكار أمام الآخرين الذين اتخذت منهم موقفاً ذاتياً، لعنت نفسي وأنبتها على فعلة كهذه، وقررت الانتظار، كي لا أُبدد مشاعري وأهدرها، بعدها خرجت من الغرفة، مصفراً، مرتبكاً، مشيعاً بنظرات الفتيات التي أدفنتني في باطن الأرض وحين ناداني الموظف، تمنيت لو لم تلدني أمي يوماً.. ورحت أدور مثل حصان الناعور، أسلمهم الملف منتظراً خارجاً.. منتظراً أن يضيفوا ورقة أو اثنتين إليه، مطيعاً لا أنبس ببنت شفة، مدخراً أحاسيسي كابتاً تفكيري، إلى أن أكملت كل شي، وحصلت على عبارة: اذهب بها إلى دائرتك الجديدة، إذ انقطعت علاقتك هنا. إذ أجبت داخل نفسي: إن علاقتي بالحياة قد انقطعت، وما أحمله ليس إلاّ شهادة دفن لجثتي، لذا فإني أقصد المقبرة الآن وليس الدائرة، وسرت على عجل، يزاحمني ثقل الملف الذي كبر ونما، وازداد سُمكه، ولا أدري كيف هي سيرتي داخله..؟! وعلى أي نبرة سارت ونضجت المعلومات داخله..؟! ولكن لابأس على أي نحو فكرت، مازلت قد فارقت الحياة إلى الأبد، وحين دخلت إلى الدائرة، أحسست ببؤسي وخيبتي، لقد واجهت اصفرار الموت فجأة..! فكيف استبدلت كل ذلك النعيم الفاره بهذه الجدران التي تثير الغبار نحو تلك المدافن السرية. إنها خريف دائم- كان دوراني بطيئاً هذه المرة كدورانهم، ولم أحصد سوى النظرات المتسائلة، والمخيبة للآمال، والمؤنبة إياي على الإقدام على فعل كهذا، يضع أسئلة وحسابات لا أول ولا آخر لها، استنزاف لما بقي في جيبي من نقود على الأوراق والطوابع، كانوا يحاصرونني بنظراتهم، ويطيل أحدهم تحديقه، لكني لم أبح بأحاسيسي أمامهم، رغم أني توصلت بأفعالهم، إلى أني سأوارى في التراب هنا، وأني ما أقدمت إلاّ على فعل الموت، فهو اختيار صعب الذي أقدمت عليه، لكن كبريائي منعني من العودة عن قرار كهذا لعدة أسباب لا أجد من أبوح له بتفاصيلها، لذا فقد ملأت نفسي بكل الأسرار، معتمداً على إمكانيتي في أن أقوم بفعل الدفن هذا لوحدي. فلحظة دخولي إلى الدائرة كنت أدرك أنني أحمل بيدي ملغي، وبالأخرى أسند جثتي، كي أنهي كل شيء على عجالة، فلقد درت كثيراً داخل دائرتي القديمة، وأتعبوني كثيراً. وهذا جزاء خدمتي عندهم، بحيث ضيعت زهرة شبابي في فروع دائرتهم أجد وأعمل، وأصرف كل ما أدخره من خلايا وطاقة، والنتيجة هي التعب والبؤس، فأنا قد وصلت إلى مثواي الأخير بقدمي هاتين، متعباً مرهقاً، وهم استقبلوني بذات الإهمال والقسوة وفعل الانتظار. كان دوراناً إضافياً لجثتي، غير أنهم أضافوا لي أياماً بعد أخرى، كي تنتهي معاملتي، وجثتي قد أحرقتها الشمس بلظاها، مشيعاً، إياهاً من مكان إلى آخر، بعدها قال الموظف بعد أن سلمني بطاقة زرقاء، ثبت فيها تاريخ الدفن الشهري:
- خذ ملفك واتركه في شعبة الملفات من فضلك واحتفظ بالبطاقة هذه.
أخذتها بيد مرتعشة إذ تحولت إلى معلومة داخل فهرست كبير، إنتبه لي الرجل، ناظراً بعطف أحسسته لأول مرة في هذه الدائرة، قام من مكانه، وقال:
- على مهلك يا أخي، فأنت شاب مازلت، لِمَ كل هذا الوهن..؟!
- من شدة طرق الأيام والسنين على رأسي...!
- هون عليك، هل أساعدك على حمل الملف..؟!
- كلا إنها جثتي ، وأنا كفيل بحملها.
استغرب ، وأنا أخطو ببطء نحو الشعبة، متأكداً من أنه شيعني بنظرات العطف والاستغراب والشك، وربما تبعني إلى حيث أروم الذهاب، لكن كل الذي فعلته هو الوصول إلى الشعبة على بطء شديد، مسلماً الملف إلى الموظفة التي تلقفته من يدي، وحين حدقت بوجهي، زاد استغرابها وتمعنها بي. حاولت أن أشكرها، غير أني لم أستطع لكنها قالت:
- مابالك يا أستاذ..؟!
- لاشيء، لا شيء..
- استرح قليلاً.
- كلا إنها ستتعفن، جثتي ستتهرأ كالقماش القديم.
- أي جثة..؟!
- لا تسألي، بل احتفظي بأوراقي، وإن أردتِ قراءتها فتمتعي بها جيداً، فهي تحوي سيرتي، لقد كتبوها هم، وربما أضافوا إليها مايروق لهم.
- وأنت..؟!
- لا شأن لك بي، لقد جئتكم بالخطأ، سأحمل جثتي إلى المقبرة...
- أي مقبرة...؟
- إلى المدفن الصحراوي.
ثم أدرت قامتي، لكني اصطدمت بالموظف الذي راقبني، تجاوزته ، مطلّقاً الدائرة إلى الأبد نحو المدفن