إنها عيونك المرحة
التي
أوقدت اللهب
الذي
أمسك اليد
التي كتبت هذا القصيد
قرأته عينيك بأسى
لويس روفيليو نوغويرا- نيكاراكوا
-لماذا أنت حزينة؟
سألتها. كنت أعرفها مشرقة البسمة
-لماذا أنت صامتة؟
سألتها. كنت أعرفها عجيبة، سباقة مجيبة عن كل سؤال.
-لماذا أنت هاربة مني ومن أسئلتي...؟
سألتها. كنت أعرفها باحثة عن أسئلتي، مصغية إلى كلماتي، مستكينة فرحة بالحديث معي.
توقفت عن الأسئلة كانت الأسئلة محرجة وثقيلة وفيها فضول وإحراج لا أريده.
غير أنني وجدت في عينيها اللتين أعشق فيهما الطمأنينة أكثر من أي شيء آخر.. كأنني أرى فيهما مرفأ أمان يضيء سفينتي الضالة في عتمة واتساع بحر مجهول.
في عينيها وجدت نداء، ورهبة، ورجاء بأن أطلب التوضيح.. فمن لي سواها.. أسأله، ومن لها سواي.. تسأله.. ألم تقل لي أنها تخصني بكل شيء. تحدثني عن أسرار حب منطفئ.. وفي قلبي لهيب حب يتحول إلى جمر نحوها... وتعرف هذا. تعرف كم أنا صادق فيه. كم أنا حريص عليه، كما أنا تقي ونبيل ومخلص فيه.. وضئيل ضئيل جداً في كتمانه.. ومع ذلك تراني بعينين غير ما أريد فيهما أن تراني.
أريد طمأنينة هذا الإحساس العميق في عينيها.. فلا أحصد غير التمني... وأرضى.
كانت تزاملني. كان صباحي الوظيفي.. الذي أمني نفسي بإشراقة منه حين يبدأ النهار بسمرة وجهها وهو في دورة رغيف ساخن.. لا ألذ منه ولا أعطر من رائحته.
كانت زادي الصباحي.. وكنت أتوسل قدح الشاي مزهواً بين أصابعها، وأحسد الشاي وهو يتسلل إلى فمها... وينفد إلى حنجرتها وحين أفتقدها.. أحسن كأن النهار قد عطل مواعيده.. كأن الأزمنة قد أوقفت دورتها. كأن أمراً مراً سيحدث.. لابد من أن يحدث.. وأصر..
لم يكن مثل ذلك اليوم يمر بهدوء..
كنت أخاصم نفسي أولاً.. لماذا جئت؟ كنت أخاصم زملائي وزميلاتي.. بلا أسباب. أنا أعرف بذلك.. أفتعل الأسباب حتى أصرخ.. حتى لا تقتلني الصرخة في داخلي. وأعرف أنها تكتم حباً.. وأعرف أن من تصون حبه.. لا تعنيه.. وأخشى عليها من الأسى، من صراحتي، من حقيقة هذا الحب، كنت أخشى نظرتها، نظرة الطمأنينة والثقة.. لئلا ينتابها الشك. لئلا تقول: إنه يريدني له... ولا أنفي..
غير أنني لا أقول لأن شأني لاشأن له بسواي.. ولم أكن أريد أن استبدل احترامها العميق لي بحب لم تصل إلى قناعة كاملة به...
كنت أجمع حزمة من الرؤى عنها وبها ومنها... وكانت تحترم في هذا الحب الساكن والمشحون بالعذاب والرجاء والتمني.
ولم أكن أريد أن أتوسل إليها حباً لا ترتضيه أو تطمئن إليه... تركت لها أن تعاملني كما تشاء.
ويشاء الحزن في عينها أن يصارحني:
-كل شيء ضاع والحب والعمر والمستقبل.
وكرهت بأسها... كرهت عالماً أكرهها على كل هذا الحزن وهذا اليأس وهذا القنوط العجيب ومضت تقول... مستكملة الحديث المر:
-أما الحب فأنت أدرى به.. قتل وهو في أول نموه... ولما يزهر بعد...
أليس من الأفضل أن نتبين الأمور قبل أن تتشابك وبالتالي يصعب حلها؟
قلت لها... وكنت أنتظر إجابة منها... غير أنها واصلت الكلام:
-أما العمر فقد انطفأ بريقه.
-أنت في عز الشباب.. في أزهى أيام عمرك..
قلت لها... وكنت أنتظر إجابة منها.. غير أنها واصلت الكلام:
-أما المستقبل فقد استحال..
-نحن بناة المستقبل... نحن أدرى برسم أفقه.
قلت لها... وكنت أنتظر إجابة منها... غير إنها واصلت الكلام:
كل شيء بات قبضة هواء. البيت والسيارة وكل ماادخرناه للأيام السود.. كل ماقترنا حتى جمعناه بعرق الجبين.. تبدد.. صار صفراً... كإنما لم يكن.
كان صوتها يلهث. كانت دموعها تحتبس في عينيها المطمأنتين. فإذا بريقهما يتحول إلى قلق وحيرة وترقب وحزن ثقيل.
سألتها: كيف؟
قالت: وعلى سمرة وجهها تختلط كل الألوان.. حتى خشيت عليها من الدم لئلا ينفجر من عينيها وتقاسيم وجهها.. كما خشيت عليها من السقوط.. فقد كانت وقفتها مهزوزة. فأأحست بحالها واتكأت على منضدة قريبة ومضت في حديثها.
-أنت تعرف أن الأعمال نادرة وأفراد عائلتنا في كثرة مستمرة... والجهد مطلوب والحاجة مطلوبة والأفواه تريد المزيد.
ليس هناك من عمل.. وأبي لا يهمه أن يعمل في كل شيء حتى يجيء إلينا بلقمة نظيفة...
البناء وقد توقف.. لا إجازات للبناء.. لا وجود للمواد الإنشائية سيارة الأجرة التي امتلكناها، تعبت ...وأقدامها تهرأت.
المواد الغذائية التي حاول أبي أن يتعامل بها صارت متقلبة الأسعار وفيها غش من حيث طبيعة المواد ومعدودية الأوزان.
ماذا نفعل لضمان استمرارية أن نعيش... هل يكفي راتبي الوظيفي الضئيل لإعاشتنا يوم واحد، لوجبة غذائية واحدة كنا في حيرة من أمرنا... حتى إذا كانت الشكوى تصل إلى قريب لنا، وجدنا أنفسنا في موقع سعيد...
سألتها مرة أخرى: كيف؟
-كان يعمل في تجارة المواد الغذائية بالجملة.. ومثل عمله يحتاج إلى مال مهما كثر.... زادت الأرباح.
وأعطيناه كل مابحوزتنا.. وسكنا في بيت قميء استأجرناه بثمن باهظ ولأن لنا ما يماثلنا من الأقارب، استجاروا بنا.. فودعنا أموالهم مع أموالنا.. والثقة رهين بيننا.. وانتظرنا أن يجيء البحر بالسمك الموعود.. مضت أشهر ولا شيء يلوح في الأفق.. لا البحر ولا الأسماك ولا الضفاف.. كأنما جف العالم، ذاب من الوجود تماماً... لا الرجل ولا أسرته.. لا عنوان ... ولا وجود لشيء يعلن عنه... كل ماسمعناه أنه قد سافر إلى مكان مجهول.
وبكت.. عينا الطمأنينة تبكيان.. وبكى قلبي.. أدماه حزن عميق.. أردت أن أقول شيئاً، أن أواسيها، أن أشاركها حزنها. أن أتوسل بالمستحيل، والرجاء والأمل.. لعل أمراً يتغير. لعل ومضة تومئ.. لعل وكتمت ضحكة مرة.. كان أبطالها أولادي...
جاؤوني فرحين مستبشرين وعتمة المساء في أولها، حاملين رزمة من أوراق نقدية حصلوا عليها من حفلة عرس جيران لنا....
قاموا برميها على رأس العروسين وعلى رؤوس المطربين والراقصين في الحفل الذي ضج به الحي حتى الفجر.
وحين تفحصتها جيداً... تبين لي أنها نقود مزيفة...
لمن أكن أريد أن أقتل فرحة أولادي لأول وهلة، وقد تسابقوا مع حشد من الأطفال حتى جمعوها، وصار البعض يحسدهم على حظهم السعيد... كانوا قد اكتشفوا ابتسامة حزينة لم أكن أريد ظهورها فوق معالم وجهي... عرفوها... عرفوا أن سعادة أولئك الذين احتفلوا وبددوا النقود كونهم سخروا من الآخرين.. دون أن يخسروا شيئاً.. وإنما حققوا لأنفسهم التباهي والكرم الكاذب.
وارتبط الزيف بالزيف.. الوهم بالوهم، والخيبة بالخيبة، الأمل المنطفئ، بالمجهول المعتم.
وبت حائراً وأنا أقف في مواجهتها.. هل أحدثها عن خيباتي الكثيرة وأنا أجيء بشيء، فإذا هو فاسد، أو بمادة فإذا هي شيء آخر لا أعرفه، أو أمد يدي إلى جيبي لأتحسس نقودي على قلتها.. وقد سرقت...
هل أحدثها عن قصص كثيرة... أعيشها وأراها وأسمعها تتعلق بشتى أساليب السرقة والقتل والابتزاز والتهريب والرشوة والخداع والتمويه والفساد والغش و... و...
هل أحدثها عن قلوب جفت عواطفها، وأحاسيس مقتولة، وعقول عافت المنطق من زمن....؟
كنت خجلاً أمام نفسي وأمام الطمأنينة التي ذابت تماماً في عينين كان برقيهما يحدد لي فرحة الاطمئنان... أحسست بأن الرماد ينثال فوق هذا العالم.. يقتل الحب والعمر والمستقبل.. يطفئ ضوء الطمأنينة.. يؤجل ابتسامة لا موعد لها