على الجسر

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : إرادة الجبوري | المصدر : www.awu-dam.org

كان يحلو لها أن تشعر بذراعيه وهما تحوطانها من الزحام.. تحوطانها ولا تمسانها... تشعر بهما، بقربهما وبعطره وأنفاسه وهي تنتشلها من الهواء الذي أفسدته الأنفاس والأجساد المتعرقة ودخان السجائر الرخيصة.

كانت تتنفس في دائرة اهتمامه وحمايته. وكان يجد متعة في أن يكون كذلك، منشغلاً كلياً بحمايتها.‏

كان الباص مزدحماً كالعادة. سورها بذراعيه وأنفاسه لكنها كانت تشعر بالضعف والدوار. امتقع وجهها تعباً. التفتت إليه مستنجدة. ارتبك ممسكاً بها. انتبه أحدهم إلى الفتاة، فترك كرسيه إليها. جلست متهالكة. كانت تحتضن غلاف مجلة باهتة الألوان، مد الشاب يده إليها لكي يحرك بها الهواء. انتبهت الفتاة. ضغطت بقبضتها المتعرقة على الغلاف بقوة. ارتبك الشاب متمتماً "الجو حار. لابد أن الحرارة أتعبتك. هل تريدين أن ننزل في المنطقة القادمة ونستقل سيارة أجرة؟".‏

أومأت الفتاة برأسها "كلا"..‏

بحث الشاب في جيوبه. عثر على منديله. جفف جبين الفتاة ثم نشر المنديل ملوحاً به أمام وجهها لتحريك الهواء.‏

رأى الشاب كرسيين فارغين. أمسك بيد الفتاة وقادها نحو النافذة. جلس بجانبها. تساءل بقلق "بماذا تشعرين.. هل أنت مريضة؟".‏

-لا.. إنه الحر فقط. قالت هذا وهربت بأنظارها إلى الشارع.‏

كان زحام الباص قد بدأ يخف تدريجياً. التفتت الفتاة إلى الشاب متساءلة: ماشكل الرجل الذي يجلس خلفنا؟‏

-لماذا؟‏

-فقط أحب أن أعرف.‏

التفت الشاب بهدوء إلى نهاية الباص وكأنه يراقب الشارع وهو يبتعد. وقبل أن يودع الشارع. جعل أنظاره تسقط بسرعة على الرجل الجالس خلفهما.‏

همس الشاب "إنه رجل نحيف في نهاية الثلاثينات. أبيض البشرة.. أزرق العينين.. أنفه طويل معقوف و.. هل تعرفينه؟"‏

أومأت الفتاة برأسها "كلا"..‏

سأل الشاب بلا مبالاة: ماهذه "المجلة؟"‏

أجابت الفتاة بسرعة "لاشيء.. لاشيء. إنه غلاف مجلة قديمة عثرت عليها اليوم بين أوراقي".‏

ابتسم الشاب متساءلاً مابالك تمسكين بها هكذا وكأنك تخشين سرقتها؟"‏

ارتبكت الفتاة "لا.. إنني فقط أخشى سقوط الأوراق التي بداخلها"‏

أوراق؟ تساءل الشاب لكنه لم يكمل.‏

كانت تمتمات الرجل الذي يجلس خلفهما قد بدأت تتضح أكثر.‏

"بيتنا صغير ونظيف. أمي تحب صنع الكيك بالكاكاو. كنت أحب شرب عصير البرتقال مع الكيك. قالوا لي يجب أن تنفذ الأوامر. ذهبت إلى الملجأ. الطيور تحب التقاط بقايا الكيك". بدأ الباص يخلو تدريجياً. لم يتبق فيه سوى امرأة عجوز متشحة بالسواد تدخن السيجارة تلو الأخرى وصبي صغير يحتضن عدة صبغ الأحذية بينما تدحرجت الصفيحة، التي يتخذها كرسياً للجلوس أثناء عمله، في ممر الحافلة. توقف الباص في إحدى المناطق. صعد شابان في مقتبل العمر يثرثران بصوت عال. جلسا خلف الرجل.‏

فجأة تكلم الرجل بصوت واضح وكأنه يكمل حديثاً قطعه وصول الشابين "تركته في الملجأ. كانت أمي تمشط شعرها بمشط عاجي وتحب اللون البنفسجي. تصنع لنا قوالب كيك بالكاكاو. تهرب الطيور عندما اقترب منها. اترك لها بقايا الكيك وابتعد. الطائرات لاتبتعد. تظل في السماء صباحاً ومساءً. الطائرات بعيدة في السماء. كان البيت صغيراً ونظيفاً والحليب نشربه في الصباح. في الصباح كانت الطائرات بعيدة في السماء".‏

التفتت الفتاة وبصوت حزين تساءلت "أتتذكر؟" ومن غير وعي ذرفت دمعتين. أمسك الشاب يدها بحنان متسائلاً "مابالك اليوم.. تكلمي أرجوك. لم تعذبيني هكذا". طأطأت الفتاة ولم تقل كلمة.‏

كان الصبي يضغط على حافة الصندوق بجبهته وراح في إغفاءة طويلة. ولم تكن حركة الباص وتأرجحه لتزعزع من وضع رأسه على صندوق العدة أو النوم يلين من قسمات وجهه الجاد، غير أن جسده النحيف كان أكثر انصياعاً للحركة.‏

كانت صفيحة الصبي تتدحرج مع حركة الباص وتوقفه. واصل الرجل النحيف حديثه "البيت نظيف وجميل. كان هناك في الملجأ.. كان يجب أن أنقذه لكن الأوامر لا تنتظر التأجيل. أمي تحب تمشيط شعرها بمشط عاجي وملابسها بنفسجية ناعمة الملمس".‏

كان يتحدث والشابان اللذان جلسا خلفه يعلقان على حديثه بسخرية. غير أنه لم يكن يكترث بهما أو يبدو وكأنه يستمع إليهما. وكان يكرر حديث بآلية ومن دون فجوات صمت.‏

قال الشاب للفتاة "سنعبر الجسر قريباً. ربما رؤية النهر تخرجك من مزاجك المتعكر".‏

ردت الفتاة بصوت بارد بدا عدوانياً "لست متعكرة المزاج.. أنا بأحسن حال"..‏

ألح الشاب بصوت متوسل "ولكن مابك... أرجوك أخبريني ما الذي يزعجك؟"‏

صمت وهو يراها تلتفت بأنظارها كلياً باتجاه الصبي. رافق نظراتها. لفهمها صمت كئيب. اقترب الباص من كتف الجسر.‏

قال الشاب بصوت حاول أن يكون متفائلاً لكنه أتى خابياً "إنه النهر".‏

التفتت الفتاة إلى النافذة.‏

في الماضي كانا يقومان بهذا يومياً وكأنهما يفعلانه أول مرة. يقول لها بصوت أتعبه الترقب والشعور المفعم بالمفاجأة والمغامرة "إنه النهر". فتتلقى المفاجأة بفرح وامتنان صارخة بأعلى صوتها كالصبيان "صحيح.. إنه النهر".‏

-"إنه النهر.. نعم.. النهر" تمتمت الفتاة مكررة جملتها بشرود. "النهر.. كانت ميري في قبضة إحساس يلوح لها بأنها لن تراه أبداً مثلما كانت تراه من قبل. وقد جاء هذا الإحساس موازياً لما كان عليه في أيامه الأخيرة".‏

سأل الشاب "من؟ النهر".‏

-"لا.... ميري".‏

-"من ميري هذه؟"‏

تعالى صوت الرجل "لن أذهب إلى البيت أو أشرب العصير البارد قبل أن أذهب إلى الملجأ. ولكن يجب أن أنفذ الأوامر ثم أنقذه..".‏

قهقه الشابان وهما يسألان الرجل "ومتى تنفذ مهمتك أيها البطل؟". تدحرجت صفيحة الصبي مقتربة من الشابين. فركلها أحدهما باتجاه الصبي.‏

أحدثت الحركة جلبة مفاجئة. استفاق الصبي من إغفاءته مذعوراً. انحنى بتعب والتقط الصفيحة. حشرها بين قدميه ثم احتضن صندوق عدته وعاد إلى النوم.‏

تحدثت الفتاة "كانت ترغب في أن تلقي نظرة عليه وهو نائم. تتحين الفرصة لكي تراقبه في أثناء نومه. ولم تكن تستطيع التغلب على ذهولها وهو مستسلم للنوم. كانت تظل تتحسس معالم وجهه.. جسده من دون أن تجرؤ على ملامسته. تكاد تختنق وهي تكتم أنفاسها مستمعة إلى صوت شهيقه وزفيره. وعندما تتيقن أن وجوده حقيقة وليس وهماً، تحتضنه بقوة لتتأكد من أنه على قيد الحياة.‏

تساءل الشاب "عمن تتحدثين؟"‏

-"عن ميري" أجابت الفتاة بألفة ولا مبالاة.‏

-"آه.. ميري! لقد ذكرتها منذ قليل. لكنك لم تحدثيني عنها من قبل".‏

-"أنت محق" قالت الفتاة بسرعة "لم أعثر عليها إلا اليوم. كنت قد نسيتها منذ سنوات".‏

-"ماذا؟" غادرت مسحة الحماية صوت الشباب وحل محلها التعب المضجر الذي ولده الحر وحزن الفتاة وضغط نزق الشابين وسخريتهما من الرجل ووتيرة صوت الرجل وحديثه المكرور وصوت تأرجح الصفيحة التي أفلتها استسلام الصبي للنوم من جديد. واصلت الفتاة حديثها من دون أن ترد على الشاب وتعبه "في تلك الأيام قرأ لها قصيدة تقول "لأن شعرك طويل كالغابات" بينما كانت الطائرات لاتكف عن سماء المدينة. كان يرعبها عدم شعورها بالخوف من الموت. فتندفع إليه بقوة متحسسة مكامن خوفها السري.. رعبها من أن تفتح عينيها في إحدى الصباحات ولا تتعرف عليه". تساءل الشباب "وهو ماذا عنه؟" التفتت الفتاة فجأة إليه "أتعرف، لو كنت بمكان المؤلف لما كتبت القصة بهذه الصورة. حقاً!! لم أخبرك بأنها قصة كنت قد بدأت بترجمتها منذ سنوات ولم أكملها. عثرت عليها اليوم بين أوراقي القديمة. للأسف لم أجد الصفحة الأولى منها".‏

-ماذا كنت ستفعلين؟‏

-أعتقد أنني كنت سأكتبها بصوت الرجل.‏

-لماذا؟‏

-هكذا! لا أدري لماذا. أشعر أنه من النوع الذي يمكن يكون قريباً أو.. يمكنك أن تقول إن الفرق بينهما هو الفرق بين أسئلتك هذه اللحظة وإجاباتي الملتبسة.‏

-لكني أشعر بما تقولين.‏

-نعم، إنه كذلك.‏

-"وماذا تقول القصة". تساءل الشاب باهتمام.‏

-لاشيء.. لاشيء بالتحديد يمكن أن أسرده.. إنه إحساسي بها. أسمع لا توجد كلمات أو حكاية أو..". توقفت الفتاة عن الحديث. كانت تتصبب عرقاً ووجهها أكثر شحوباً. أمسك الشاب بكف الفتاة. تركت الفتاة كفها تسترخي بين أصابعه الكبيرة. عادت إليها رغبتها في أن تكون تحت حمايته. غادر الثرثاران الباص وفي طريقهما إلى باب النزول ركل أحدهم صفيحة الصبي بقوة. نهض الصبي من نومه مذعوراً. عاد بالصفيحة وجلس يتأمل الشارع عبر النافذة بعينين محتقنتين.‏

سألت المرأة العجوز السائق عن مكان ما. أجابها بأنه سينزلها قرب المكان.‏

ترك الرجل مكانه وجلس أمامهما "شعر أمي طويل وناعم. البيت جميل ونظيف. الطيور في الحديقة تحب الكيك بالكاكاو والطائرات بعيدة في السماء وهو في الملجأ... كان يجب أن أنقذه لكن الأوامر لاتقبل التأجيل...".‏

بدا الشاب سارح الفكر بينما واصلت أصابعه احتضان كف الفتاة. تركت الفتاة جسدها ينزلق مسترخياً في خشب الكرسي الصقيل وواصلت حديثها بصوت بعيد متحشرج "أثناء إحدى الغارات أغمضت عينيها وهي في حضنه مستسلمة للتفكير بالطريق التي ستسلكها لكي تصل النهر وصوت طرطشة الماء عندما يسقط جسدها والأغصان العالقة بشعرها الطويل عندما يخرجون جثتها. لكنها وجدت نفسها، مع اقتراب صوت الطائرات، تضغط جسدها بقوة، مختنقة بدموعها".‏

عادت أنظار الشاب تحيطها بحنان واهتمام. كان الحزن قد تغلب عليه تماماً. إنزلق جسد الفتاة في الكرسي أكثر حتى أوشكت على السقوط. كان اهتمام الشاب بها أكبر من اكتراثه بحزنه فسحبها بسرعة إلى مكانها.‏

ردد بصوت مخنوق ما بالك اليوم... ماذا حدث؟ ألم نتوصل إلى قناعة تفيد بانتهاء كل شيء وإن علينا التماسك من جديد!".‏

-"لا تقلق أنا بخير" حاولت أن تضفي على صوتها نبرة تطمئنه فيها مما زاد قلقه.‏

-اسمعي. هل تريدين الحديث بالأمر. لابأس سنتحدث إن كان هذا يساعدك.‏

-"لاشيء. صدقني، لاشيء هناك. فقط أردت أن أحدثك عن هذه القصة التي لا أدري من كتبها ولا أعرف لِمَ لم أكمل ترجمتها".‏

قالت كلماتها بسرعة محيطة إبهامه بقبضة كفها.‏

صرخ الرجل خارجاً عن حدود لازمته "كلاب... لابد أن أنقذه".‏

توقف الباص عند مفترق شارع. أشار السائق للمرأة العجوز. نزلت المرأة. تبعها الصبي حاملاً عدته لكنه لم يغادر الباص. وقف عند الباب متحيناً والسائق فرصة خلو الشارع من شرطة المرور لكي ينزل قبل منطقة الباص.‏

وضعت الفتاة رأسها على كتف الشاب. ضغطت كفها إبهامه بقوة كان الباص خالياً إلا منهما والرجل. شعرا بأنهما يعودان إلى عزلتهما من جديد وأن كل شيء من حولهما مبهم. ودا لو استطاعا أن ينصهرا أحدهما بالآخر ويتلاشيا عند حافة النهر الذي ظهر من جديد. لكنهما لم يفعلا سوى الجلوس بسكون.‏

انفصلت أصابعهما وهما يتركان الباص في محطته الأخيرة.‏

قال الشاب وكأنه يستمع إلى صوته أول مرة بعد سنوات صمت "هل أرافقك إلى البيت؟".‏

أشارت الفتاة برأسها "لا". قالت "أنا بخير... سأشتري بعض الأشياء وأذهب إلى البيت".‏

قال الشاب وهو يرسم ابتسامة جاءت شاحبة. "سأذهب لحلاقة شعري كما طلبت مني.. هل يعجبك هذا؟".‏

تمتمت الفتاة بابتسامة مماثلة "نعم.. يعجبني" افترقا. سارا متعاكسين. شقت الفتاة طريقها بصعوبة بين المارة. التفتت إليه. تعرفت على ظهره وسط الحشود. كان يمشي بانحناء وكأنه يعاني من شيء لاتعرفه. شعرت بخوف وهي ترى خطواته المتعثرة. كان قد اختفى في ظل محل الحلاقة. انتظرت لتراه يدفع الباب ويدخل. انتابها إحساس بالضعف والغثيان. حاولت إبعاد ضعفها بالتحديق إلى المارة. بدت لها الوجوه بملامح موحدة والشارع يختنق بصراخ الصغار ونزاعات الباعة. تعثر بها أحدهم. لم يعتذر. اكتشفت أنها تقف في وسط الشارع.‏

غيرت مسار طريقها. شعرت بأن التحرر من كل شيء دفعة واحدة ليس بالأمر السهل. سارت بخطوات ثقيلة نحو الجسر. اتكأت على حافة السور متأملة النهر. رددت مع نفسها" صحيح أن الأمر ليس سهلاً لكنه ليس مستحيلاً".‏