حضرت إلى هنا من أجلها.
إنها نصف الحقيقة.
لقد جئت إلى هنا من أجلي. نعم، من أجلي أنا. غير أني لم أستطع رؤية المكان من دون كلماتها. لقد كانت كلماتها هي الصورة وعبثاً أحاول إثبات عكس ذلك. حتى اختيار الوقت كانت كلماتها من اختاره وليس أنا كما أدعي الآن.
وحدها يحق لها الحديث واختصار كل شيء بإطراقة قصيرة... إطراقة تختفي خلفها حديقة صغيرة تتعلق فوقها شمس تخترق أشعتها الغيوم البيض بخجل وتنام على أراجيح الأطفال المهجورة الصدئة.. إطراقة يختفي خلفها الصمت الذي حلق فراشات زاهية الألوان على خيوط الشمس الملتفة حول زهرة وحيدة بينما القمر شاحب بين أمواج الغيوم الرقيقة.
"لم يكن الصمت هو العدم ولا الغياب خارج الزمن. إنه الامتلاء الأبيض الثلجي الذي يسبح في داخلنا ويجعلنا نحس بقرب نهاية العالم. كان الصمت بمثابة إعادة توازن لخطواتنا السائرة نحو شاطئ الأبدية.. نحو تلك الأغنية.. ستفهمين معانيها حالما تدركين أسرار الألم وطعم الحزن".
متى قالت لي هذا؟ أتراني أتذكر أم أحلم؟ لكنه، بالتأكيد كان في سنة تأخر فيها هطول المطر، حتى الذي لا يهمهم هطوله تساءلوا عن سر غيابه.. شبه إجماع على انتظار المطر كان شغل المدينة الشاغل.
يومها باغتنا المطر وهطل بعد أن يئس الجميع منه.
كنت أسير تحت المطر بانتظاره. سارت إلى جانبي وكأنها لاتشعر بما يحيط بها من ناس. لك يكونوا أكثر من أشياء عابرة لم تدخل حياتها.
لم أرها أول مرة، لكني سمعت من يقول "حضر المطر ولا من أحد يستقبله. يحدق إلى الوجوه فلا يتعرف إليه سوى الأطفال الذي يثير دهشتهم كل شيء والشيوخ الذين امتهنوا الانتظار!
قالت هذا من دون أن تنتظر إجابة لكني سألتها:
-وماذا عنا؟ أقصد...
-أنت عاشقة.
-وأنت؟
-عاشقة وهرمة.
تأملتها. كانت هرمة حقاً. ترتدي ملابس قديمة تمثل قمة الموضة في يوم من الأيام، ربما تعود إلى أكثر من ثلاثين سنة. كنت أرى هذه الأزياء في مجلات الموضة وتغيراتها. فكرت حينها أنني ربما أرتدي مثل هذه الملابس بعد ثلاثين سنة وفقاً لمقاييس الموضة!.
"ستجدين قطتك الصغيرة التي لم تر المطر من قبل تختبئ خائفة". قالت هذا وبسمة صغيرة تنفلت من بقايا فرح طفولي منكسر أخفقت في الوصول إلى شفتيها الصارمتين فمات على وجنتيها المتهدلتين.
سألتها: كيف عرفت أن لي قطة صغيرة؟
توقفت مدعية التساؤل غير أني كنت أحاول الاستعداد لما تقول.
-لا تذهبي إليه. أرجوك، لاتذهبي إليه. لابد أن توقفي هذا العذاب. اتعبني انتظاره. ينبغي إنقاذكما.. إنقاذه هو بالذات.
-من أي شيء؟
-من نفسيكما.
كنت أتبادل الحديث معها بلا امتعاض أو غضب.
سألتها: من أنت؟
-أنا؟.. أنا حلم من أحلامك.
لا، ليس حلماً، أنت لست حلماً. أتذكر حديثنا هذا حرفاً حرفاً. أعرفه جيداً. قلت لي حينها إنني عثرت عليك في الحلم وأجبتك أن هذا الحوار قد جرى بيننا من قبل.
-لكن..
-لاتكملي أرجوك. ستقولين "لكن هذا ماجرى فعلاً وأننا لم نلتق من قبل".
-أن نوجه الحديث بهذه الطريقة أمر سهل وصعب في الوقت ذاته.
-سأجيبك نعم ولكن ليس إلى حد التفاصيل ذاتها. عندها تشيحين بوجهك متبرمة وتتوجهين إلى تلك المكتبة.
-وماذا بعد؟
-بسؤالك هذا تحاولين أن تؤجلي برهة ماستقومين به.. ستتلقفين ذلك الكتاب في زاوية المكتبة وتقولين كيف عرفت أنني أبحث عن هذه النسخة الوحيدة الموجودة في المكتبات.
-وتقولين أن اسم المؤلفة الأول يشبه اسمي.
-ثم تشعرين باليأس وتقولين أريد أن أوقف تكرار مايحدث من سنوات. أتعبني هذا التكرار.. تكرار هذا العذاب.
-لقد تعبت. كانت الحرب هي البداية لكن دورنا لم يتوقف بانتهاء كل شيء. مازلنا معلقتين بنقطة نخشى مغادرتها ويعذبنا البقاء فيها.
-أنا تعبت أيضاً من تكرار هذا. أرجوك أوقفيه وقولي لي ما يحدث.
-لقد كانت الحرب.
-أية حرب؟.
-حيث التقينا وأنت تسيرين في كل مكان مرددة "أبحث عنه لكني لا أرى سوى ابتسامته المشمسة وهي تسأل هل تتذكرين؟".
-هذا يعني أننا التقينا من قبل.. هل التقينا؟
-لكنها الحرب.
-الحرب!
-إذا كنت تحلمين بي الآن فأنا أتذكرك. عودي إلى كتابك.
-كتابي؟
-لاشيء.. لاشيء. إنك لاتعرفين هذا بالتأكيد. إنه كتابك الأول فيه تفاصيل عنه وعني.. عن لقاءاتنا.
-صحيح أني أكتب له أحياناً بعض القصائد لكني لم أؤلف كتاباً بعد. ثم عن أي حرب تتحدثين؟
-الحرب التي جمعتنا أول مرة.
-لكنها ليست حقيقة. كان ذلك أحد كوابيسي. أتذكر أنني صحوت مرتعبة وحدثته عن الكابوس.
-وأخبرك أنه رأى الكابوس ذاته لكنه لم ير المرأة وإنما أحس بوجودها.. بصرختها المحذّرة.
-هذا ماحدث بالضبط.
-كنت أحاول إنقاذكما... إنقاذ ابتسامته المشمسة من الذبول.. شعرت بالعجز عن أن أقف تلك اللحظة التي جمعت مصيريكما إلى الأبد.
-كيف يمكن إنقاذنا بهذه الطريقة. وجودنا معاً هو الإنقاذ.
-وجودكما معاً قوة من شأنها تدميركما. منطق لايمكن لك الآن فهمه. أقوله هذه اللحظة لأني أحاول استباق الأحداث. أتساءل هل كان يمكن أن يحدث خلاف ما حدث فيما لو توقفتما الآن؟!.
-لا أفهم ماتقولين. لكني حلمت بك مرة وأنت تمسكين بيدي صارخة "أنقذيه.. انقذي نفسك واتركيه" يومها أخبرته بما رأيت. كنت أحاول أن أواسيه لحزنه لكنه كان مرهقاً للدرجة التي أرعبته فيها نظراتي وكأنه يدرك الفاجعة أول مرة منذ عرفته. كان يلفه نوع من الشعور باللامبالاة الخارجية لكنه ملغوم بالمأساة.
-لامبالية!!
-فتحت حقيبتها وأخرجت قلماً أبيض. قالت "انظري إلى هذا القلم".
-إنه القلم الذي أهداني إياه لكنه أضاعه العام الماضي.
-إقرئي ماذا حفر على حافته بعد عثوره عليه "لايمكن للزمن أن يرمم همسة لا مبالية لصديق حقيقي".
-والحرب؟
كانت تتلمس حروف القلم بعاطفة حتى بدت وكأنها تبكي وهي تقول:
-ينبغي أن تنقذيه، أتركيه قبل فوات الآوان.
-قبل فوات الأوان؟
-نعم، قبل فوات الأوان. وجودك قربه يجعله عاجزاً عن اتخاذ أي قرار إزاء ما يحدث.. يجعلكما تتمسكان بالحياة.
-أو بالموت!
-لافرق، لكن لحظات عجزكما تلك تجعلكما تتوقان للوحدة والرغبة في إنهاء كل شيء مثلما تتوقان إلى العودة إلى متعكما الصغيرة التي لم تعد تستوعب سعادتكما.. تجعل ماعشتماه ماضياً وليس شيئاً يحدث لكما في كل زمان ومكان وكأنه يحدث أول مرة.
***
عندما اختفيا خلف ذلك التل، كنت قد وصلت إلى أبعد نقطة منظورة. كان الصمت أقوى مني... أقوى من الخوف الذي لم يكن واضحاً وأنا أراقب رجلاً وامرأة يسيران بشرود... بخطوات وئيدة. ابتعدت بأقصى ما أستطيع من سرعة لكنهما لم يختفيا كما كنت آمل. كانت عيناي متعلقتين بهما. لم أسمع سوى صوت لهاثي المدوي. كان هدوء المكان يضج بالأصوات المختنقة.. لهاث مفرغ من الهواء طغى على كل شيء لم يتبق منه سوى نظراتهما التي كانا يوجهانها أحدهما إلى الآخر في زحمة شرودهما... نظرات لاتريد التعاطف أو المساواة. نظرات تبغي ذلك الحب الذي يتعدى أي فهم.. الحب الموبوء بالكبرياء. نظرت إليه ووجدت حزنه ينبعث برقة وشفافية (حجر النجمة) التي وضعها حلية على معصمي.
توقف المطر فأشارت إلى سيارة أجرة. لم تقل لي وجهتنا.
نزلنا في شارع مزدحم. كانت تسير بسرعة لا تتناسب مع عمرها مما اضطرني للسير بما يشبه الهرولة للحاق بها.
مررنا بشوارع متداخلة حتى وصلنا إلى شارع فرعي يفضي إلى حديقة مهجورة اجتاحتها الأحراش والأعشاب الضارة. حديقة تنبئ عن مكان كان مزدهراً في يوم ما. الأراجيح والألعاب تآكلت من الصدأ وغابت ألوانها خلف ألوان الحمام والغربان والعصافير والقطط والكلاب التي تآلفت بحيث لايمكن تصور أحدهما من دون الآخر.
لاحت منها التفاته وأنا أنظر إلى ساعتي. قلت بخجل أشبه بالاعتذار: اعتدت الوصول إليه قبل الموعد.
-لاتقلقي. سينتظرك ولكن سيكون عليك انتظاره طويلاً.. طويلاً جداً، ولاتعودي بحاجة حتى إلى هذه الساعة.
-وهل مازلت هناك؟
-لم تكن همسة عابرة..
طوال حديثنا لم تكن بحاجة للكلمات إلا لتعزز الإشارات والإيماءات والتقطيبات والابتسامات وظلال الحزن التي كانت وسيلة تعبير فاعلة في شخصيتها. مع هذا لم أتنبه سوى في تلك اللحظة إلى الندبة الواضحة في رسغها.. ندبة غطتها أسوارة مرصعة بحجر النجمة خلتها ساعة أول وهلة. استغربت عدم انتباهي لحجر النجمة.. ذلك الحجر الذي خطف أنظارنا ونحن نتطلع إلى واجهات المحال الأسبوع الماضي!
جلسنا على أرجوحتين منفصلتين وبدأنا نتأرجح بصمت وصرير الأرجوحتين الصوت الوحيد في المكان. كانت حركتنا متعاكسة إلى الأمام.. إلى الخلف.
إلى الخلف.. إلى الأمام حيث لاحت أمامي ابتسامة مشمسة. التفت إليها وجدتها شاخصة إلى الأمام: عينان امتلأتا بفيض حياة غسل بحنو سحنة وجهها الذابلة، تطامن عليها هدوء لم أر مثله من قبل وسكينة لا توصف هجست خلفها شبح ابتسامة تذكر (لم تطفأ).
واصلنا التأرجح بهدوء وصمت.. صمت عميق جداً سحب معه ظلال كلمات لم يبح بها بعد، توحدت معه شيئاً فشيئاً حركة الأرجوحتين ولم نعد نسمع شيئاً.