ذلك زمن مضى..
لكنّ الأيام لا يمكن أن تمحو تلك الرؤى..
ومهما يمرّ بي من ذكريات، مهما يمرّ بي من أطياف وأخيلة. فالقلب ما يزال يخفق وجداً، ينهض وينبض حتى يفيض بأحلى الأماني، وأرقّ الأحلام.. فالصّور العذبة تتجدّد. والتطواف في رحاب الماضي له مذاقه الخاص، والحبّ الأول يبقى في حنايا الصّدر إلى الأبد..
الحارة الصّغيرة، حارتنا التي تعانقت بيوتها، ماثلة أمامي، أحفظ عن ظهر قلب تفاصيلها. بيتاً بيتاً، وشباكاً شباكاً. أعرف عدد الأبواب، وعدد بلاطاتها المرصوفة، من الفرن حتى نهاية الزقاق المسدود. أستطيع أن أحصي فروع شجرة التّوت المنتصبة التي غطّت حائط بيت غشرانيان، وامتدّت إلى فسحة دار الهبيان، إلى دار اللبابيدي. أعرف ناسها وقططها، أسمع هديل يمامها السابح في فضاء الحارة.
بين كوي السوق وأعلى شرفة من شرفات قصر الطّيارة، ها هنا حارتنا البيضاء، أصغي إلى همساتها ووشوشاتها تتردّد وقت السحر، أناجي حيطانها، ودروبها، وما حفرناه على عتبات أبوابها، حارتنا التي مضى عليها زمن طويل عالقة في شغاف القلب.. وها أنذا على مشارف الأربعين، أدبّ في سنيّ العمر، وأوغل في الطّريق، الشيب بدأ يغزولمّتي، الأولاد الصّغار كبروا. الزوجة التي سارت كتفاً لكتف معي تغيرّت صورتنا. يوم زواجنا، ويدي تحيط خصرها. بدت غريبة، هذا أنا. هذه هي. أحقاً نحن كنّا هكذا.. أم أنّنا نتوهم.. بردت عواطفنا، أو أنّها استكانت بعد رحلة.. بعد أن اشتعلت وتوهّجت وتأجّجت.. لكنّ مرور الأيام، ورتابتها. وتعاقب الليل والنهار، والقلق، والأرق، والسهر، والنكد، والانتظار، والعذاب، والترقّب، دفع بنا إلى منعطف ناءٍ، استنامت فيه مشاعرنا دفعة واحدة، صار تعلّقنا بالماضي نوعاً من التعويض عن أمانينا التي وئدت.. الماضي نحمله معنا. يحيا فينا، ينقلنا بين الحين والحين إلى دنيا مسحورة، ملوّنة نتزوّد منه لننطلق في الحاضر، هل مرّت عشرون سنة، هل عبرت تلك السنون حقاً!
ذلك عهد مضى..
لكنّه مازال يتألّق، يلتمع كالبرق الخاطف، يغيب وراء سدوف العتمة، ثم ما يلبث أن يشقّ الحجب والأستار، فيخطف الأبصار، ويعيد لنا التّذكار..
لقد رأيتها؛ وأنا ماضٍ في طريقي..
كنت أقود سيارتي، وخطر لي أن أختصر المسافة، فأقطع شارعاً فرعياً، أصل إلى وجهتي مبكّراً، لكنّها كانت هناك، كعهدي بها منذ عشرين سنة!..
لست أدري كيف توقفْتُ.. على غير انتظار.. ضغطت على الكابح، صرّ صوته وسط الشارع المعزول.. التفتتْ إليّ هي.. هي، تلك التي أحمل لها في قلبي أعذب صورة، وأحلى مثال..
تجمّدت اللحظة.. توقّفت حركة الأشياء. لا صوت ولا نأمة. لا همسة ولا نسمة.. لاح وجهها على ضفة الشارع، إشراق مبهر جذبني إليه، خِلّتُ أنّني في الحارة، حارتنا الصغيرة، رأيت نفسي فوق درّاجتي، في ربيعي الثامن عشر، أريد أن أقطع الزقاق، أنطلق على صهوتها كمن يركب فرساً. درّاجتي الأثيرة لديّ. أجتاز بها الحارة، والمدينة، والجسر، أعبر الضّفاف. أجوس خلال البساتين والظلال، أفياء وأنداء.. درّاجتي تلك شهدت حبيّ الأول، تعرف كلّ خفقة قلب، كلّ رفّة هدب، سمعتْ وشوشات الصّباح، وكتمت نجوى صباي، أصغت إلى دبيب أقدامنا تنقر بلاطات الحارة في الأماسي..
فتى غرير، يلبس قميصاً بكميّن قصيرين، يظهر عضلاته المفتولة. يردّ بنزق خصلة شعره الأشقر عن جبينه، وينطلق فوق الدرّاجة، يضع قدميه على دوّاستيها، وينطلق.. يطير، من أول الحارة إلى آخرها.. وحين تهدأ الأقدام، وينقطع السابلة، يقف في المدخل، يسدّ الطّريق على مَنْ سيمرُّ ومن سيمرُّ!. غيرها!. غير"نركيز"..
كنتُ أتسمّر في مكاني، وأنا ممتطٍ دراجتي، أنتظر.. وأنتظر.. و.. تأتي.. لم تتخلّف يوماً، تهمسُ:
- دعني أمر..
- المرور ممنوع..
- لكلّ النّاس!
- لكلّ الناس.. عدا من...!
- وأين هي التي ....!
- أمامي!
تتلفّت:
- أين؟
- مَنْ؟
- أنت!
وتهدل بين يديّ، تتطامن برأسها الجميل، في عينيها أرى دفء الثلوج في آرارات، ألمح تلوّن الأزهار التي تتفتّح على ضفاف آراز وسيفان، تتغيّر نبرة صوتي. ويتضرّج وجهانا، أقبل عليها بكلّ قلبي، وتقبل عليّ..
"احسبوا اذن..
بأيّ موجة، وفي كم دقيقة..
كم غراماً من الدم يجري من قلب نركيز
إلى خدودها الطاهرة
جالباً ذلك اللهب الداخلي..
والذي كنّا نسميّه إلى يومنا وبسذاجة: الخجل"(*
أنا لم أعد ذلك الصبيّ الغرير، بل أصبحت عاشقاً، وها وَلْهي قد بدأ... روحها تجتذبني إليها، لا ملاحتها، لا قوامها البديع، ولا عيناها الحلوتان الواسعتان، لا جيدها العاجي ولا شعرها الطويل.. لقد ملكت عليّ نفسي، ملأت روحي، سكبت كلّ ما عندها من لطف وظرف ورشاقة ورقّة.. أنا عاشق صغير لهذه البنت التي تقف أمامي.. تبتسم..
- يالك من عابث!
- لست عابثاً..
- كم تحبّ مشاكستي
- بل أحب أن أتملّى منك
- لو رآنا أحد، لقال..
- ليقل ما يقول.. أنا.. أحبك..
أدرْتُ بصري، غمرني شعور غريب، لقد قلت ما أريد، ما أروع -دائماً- أن نقول ما نريد..
- اسمعي، نركيز، أنتِ لي..
- أنا لك. اسمح بالمرور
أتزحزح من موضعي، أُنحّي درّاجتي، تنفلت بسرعة، يمامة طال أسرها في شبكة صيّاد..
تلك هي..
ما أعذب أن أسترجع هذه اللحظات..
كنّا ساذجين، نوايانا بيضاء، أحلامنا ورديّة، حروفنا من شهد، نهدل همساً شجيّاً، خلف الأبواب، وراء الشبابيك، تحت المزاريب، مع إيقاع قطرات المطر فوق السقوف، في ليالي الصّيف، والقمر معلّق على السطوح، في برد الشتاء وأنفاسنا تشيع الدفء في أصابعنا المثلّجة..
وفي الحارة
سرى خبر، لم يهتمّ به سواي. نركيز خطبت، وعرسها قريب، نقلتْ أمي النبأ، كمن يقول، المطر ينزل من السماء!
هل هناك من يعرف.. أو يهتمّ؟!
ولكنّ"نركيز" ...."نركيز" التي علق قلبي بها، هي التي خطبت، وستتزوّج، وأنا طالب"البكالوريا" أركب الدّراجة و.. أحلم، أقطع دروب الحارة، معلناً بجرسي المبحوح عن تطوافي المجنون، أحلم بأن تكون نركيز لي،..، عشّنا الصّغير فوق سطح الدار، "علّية" من خشب، أضمّ فيها نركيز.. هذه أحلامي تبخّرت.. وأنا واقف أول الحارة، بعضلاتي المفتولة، أردّ خصلة الشعر عن جبيني بنزق.. وأنتظرها!!
***
عشرون سنة مرّت..
وها هي ذي الآن، أمامي، أنا في سيّارتي، وهي في طرف الشارع، رفعْتُ كفي محيّياً، هزّت رأسها.. ترجّلْتُ إليها، انتظرتْ أن أفعل ذلك، قرأْتُ في عينيها حكاية لا يعرفُها غيري، قرأت في عينيّ حكاية لا يعرفُها غيرُها..
ها هنا مرفأ تحطّ فيه الأشرعة البيضاء..
أعرف أنّها تزوّجتْ وأنجبتْ.. صار أولادها في الجامعة.. تعرف هي أنني تزوّجْتُ وأنجبْتُ.. صار أولادي شباباً، هل هناك مسافة للحب الأول.. المنبعث، أفي السراج بقية زيت!..
نطقَتْ على استحياء:
- أهلاً..
ردّت شفتاي بلهفة:
التمعت عيناها اللتان مازالتا حلوتين.. تمتمتْ:
- دعْني أمرّ!.
- ليتني أستطيع أن أقول: المرور ممنوع.
- ليتك تمنعني -فعلاً- من المرور.
- ليت الزمن لم يكن بخيلاً.
- لم تعد تنفع ليت.
- ذكرانا باقية..
لم أكن أعرف ما الذي اعتراني، توقّفت الكلمات، بقيت معلّقةً بيننا، بدت نركيز أجمل ممّا كانت عليه قبل عشرين سنة، صارت أكثر نضجاً، أكثر جرأة..
- أبوسعي أن أراك..
- دع ذلك للزمن..
- لكنّه غدّار..
- تلك سنّة الكون..
- سننتصر بالحبّ..
- حقاً!.
- حقاً..
وتجاوزتني..
ومن وراء زجاج سيارتي، لاحقتها نظراتي.. كنت ما أزال تحت وَقْع المفاجأة، ظلْلتُ مشدوداً إليها.. تجذبني روحها... أأنا في حلم!. علا زعيق سيارة خلفي.. أطلقت بوقها ورائي، ماذا يريدون منّي؟!..
وسمعْتُ صغيراً يستحثّني على المضيّ، قبل أن يأتي شرطيّ السّير، وتلحق بي مخالفة عرقلة المرور في.. الشارع..
(* من قصيدة للشاعر باروير سيفاك، ترجمة مهران ميناسيان