صورة المشتاق

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : نزار نجار | المصدر : www.awu-dam.org

تعالوا.. اقتربوا منّي.. هذا أنا.. اُنظروا إليّ تفرّسوا في وجهي؛ حدّقوا في عينيّ، هل هناك علامات فارقة؟! ألست واحداً منكم؟! تأمّلوني جيّداً، سامحكم اللّه، أو عليكم اللّعنة: تودّون أن تجدوا ما يميزّني عنكم، لتكون لكم ذريعة في تصفية دمي، أو إبادتي، أو سحقي بالطريقة التي تحبّون!!!‏

مهلاً، فأنا لست كما تتصورون، ولن أكون تسلية سهلة لأهدافكم؛ بوسعي أن أحلم، حتى لو سرقتم كلّ أحلامي، أعرف أنّه يزعجكم وقوفي مرفوع الرأس، متشبّثاً بحفنة من تراب، عنيداً، أعرف أنكم تؤيّدون منْ وضع على وجهي قناعاً قبيحاً من صنعهم، واتّهموني بأنّني خارج على الأعراف والقوانين الوضعية.‏

وأنني مُ..... خـ..... رّ..... ب، فهل أنا كذلك؟!..‏

انظروا إليّ، ها أنذا أنحدر من جبل الزيتون، ها ترون التماع السماء، بعد أمطار الربيع.. تقول فاطمة زوجتي، وهي تهدل بين يديّ:‏

- اُنظر، ما أجمل الربيع في القدس!..‏

على سبعة تلال نهضت مدينتي الصّخرية، كنت أرتقي كالماعز، أرتقي كلّ ما فيها من تلال، أهبط كلّ مافيها من منحدرات. بيوت من حجر أبيض. بيوت من حجر ورديّ، بيوت من حجر أحمر، بيوت كالقلاع تعلو وتنخفض مع الطرق الصّاعدة النّازلة. بيوت كأنّها جواهر منثورة على ثوب أزرق، القدس كلّها صخور، فلسطين نفسها صخرة، صلدة، عميقة الجذور، تتّصل بمركز الأرض. في الليالي المقمرة ترون رؤوس الرجال وأكتافهم ناتئة من حفرها. وإذا هي.. صخر..‏

ها أنذا أنحدر إلى بوّابة الخليل، أقطع الطّريق مارّاً بمشفى المقاصد الخيرية، يستقبلني بائع الكعك كلّ صباح..‏

- السلام عليكم..‏

- وعليكم السّلام. أهلاّ بالأستاذ حسين‏

يعرج أمامي حاملاً حلقاته السمسمية، ينادي بصوت مبحوح:‏

- الكعك، طازج، الكعك..‏

أشتري واحدة عابقة بالزعتر، أمضي خلال طرقات مسقوفة أو مكشوفة، المدرسة ليست بعيدة، وتيارات من الرجال بحطّات وقنابيز، والنساء، بأثواب مزركشة، والعربات أمام الدكاكين، وباعة الحلوى والزيت والزيتون وأطباق القش، وقرويات يرفعن أصواتهن، يبعن الفجل والبندورة والتين المجفّف والزبيب وإشارات ونبرات غير مسموعة، وعواطف جيّاشة، وابتسامات وضحكات وزجرات ومساومات لا تنتهي، و.. أطفال يستقبلونني أمام باب المدرسة، يبسبسون:‏

- أستاذنا.. أستاذنا.. حسين‏

أنا قائد هذا القطيع. أفرش لهم اهتمامي ومودّتي. وبوابات القدس القديمة مشرعة. بوابة"العمود" تفضي إلى بوابة"المغاربة". دروب مفتوحة وأناس يتدفّقون من الحارات الضيّقة، البلاطات الحجرية تشتعل تحت وقع الأقدام الصّغيرة، والتلاميذ الصّغار يتأبّطون حقائبهم ويركضون، عجوز ينهمك في لفّ كوفيّته حول عنقه وهو يجتاز بولده الطّريق، طفل دامع العينين مسحوب من ذراعه خلف امرأة مسرعة، تنداح أصوات مبهمة، تندغم في المدى الأخضر الشفيف الذي يزنّر المدينة البيضاء، والطرقات.. كلّ الطرقات مفتوحة للشمس..‏

كنّا نفتح صدورنا للهواء البارد. كنّا نركض من جبل الطّور إلى جبل المكبّر، نلهث من الفرح، صباحاً ومساءً. ونحن لا ننام من شدّة الهيام، أقسم، أننا لم نكن ننام. فاطمة بوجهها المقدسيّ كوردة بعد المطر، وجوه بنات القدس كلّهن كالورود، كالورود بعد رشّات المطر، فاطمة بلمسات كفيّها الحانيتين تحيل بيتنا إلى جنّة صغيرة، يرتفع الأذان من المسجد الأقسى... اللـ .......... ـه أكبر، حلوة، طويلة، شجيّة، مباركة، تهمس فاطمة، تخاطب الكائنات جميعها، كلاً بلغته الخاصة، تخاطب الله في سمائه، وتخاطب الأنبياء والملائكة، كما تخاطب الأولياء في أضرحتهم، حتى الجنّ والطّير والجماد والموتى.. تنهداتها تجيء، لا فرق في ذلك بين مَلاك وباب ضريح، بين الهدهد وبوابات القدس القديمة. أحلامنا تنهمر كالمطر. تشتعل عيوننا بالحبّ. وتنبت لنا أجنحة. ونحن نحلّق إلى جبل المشارف، نجتاز تلالاً. نعبر أودية. نقطع جدولاً، أو نتراشق بماء ساقية، فمن سرق قمرنا...وكسر قلوبنا؟! ما الذي بدّل مدينتنا. وجعلنا نهجر السّمر فوق مصاطبنا الحجرية؟ لماذا تغيرت الدروب؟ ولم تعد تأخذنا إلى منفسح الخضرة الشفيفة تحت ظلال الزيتون؟ لماذا حوّلت طريقها. وصارت تفضي إلى ذاتها، بعد أن كانت مفتوحة لنا.. للريح.. للعصافير.. للشمس..‏

قرأت في عينيّ فاطمة حزناً و.. خوفاً، ارتجفت أطرافها الهشّة وهي تقول:‏

- ليس هناك أمان، الصّهاينة يداهمون البيوت!..‏

على واجهة دارنا مشربية من الخشب، مدهونة باللون الأخضر. وفوق زخارفها المحفورة على هيئة قباب، وعلى هيئة مآذن ثقوب الرصاص!..‏

لقد أطلقوا النّار حين مرّوا من هنا.. لم أكن أفهم ما حدث تماماً، وما زلت لا أفهم، ولكنّه كان حقيقياً.. كما لم تكن أشياء كثيرة مّما أظنّ، أننّي أفهم، كيف ولماذا يحدث ذلك؟!‏

من باب الحرم المقدسيّ، رأيتهم، ماذا يريدون؟ تفرّق المصلّون، سكت الأذان، انطفأت شموس، طار اليمام بعيداً عن قبّة الصخرة...تدفّقت جموعهم، أصوات تبرطم ضدّنا، صلوات يهودية، ثمّ تحولوا إلى....الرقص، إنّهم يرقصون.. رقص وموسيقى، موسيقى ورقص، تتبارى راشيل ببنطلون الجينز مع ليزا بتنّورتها القصيرة، رقص حتى الجنون، ونحن مسمّرون.. دموع تحجّرت في مآقي الشيوخ، وهم يرون ما يرون!!‏

في المدرسة، شعرت أن أحداً ما سحق حروفي، وبدّد كلماتي، لم يخرج صوتي، والتّلاميذ ينظرون إليّ، وينظرون.. أيّ حصّة هذه؟!. الحزن يغمر العالم... اجتمع طلاّب المدارس كلّهم في فناء قبّة الصخّرة.. خرج تلاميذ مدرستي إلى طرقات المدينة، تدافعوا أفواجاً، والسقوف المعقودة ترجّع هتافاتهم، الناس يغلقون دكاكينهم، ينضمّون إلى جموع التلاميذ،...‏

عند باب الخليل، وقف الجنود الإسرائيليون، وشرطتهم.. سيل التلاميذ الهادر يتواصل دون انقطاع، طالب في الصّف الخامس ردّ بنزق خصلة شعره الفاحم، وهزّ قبضته في وجوههم:‏

- هيّا.. اقتلونا..‏

رددّ ذلك وهو يفتح سترته، ويزيح قميصه، معرّضاً صدره العاري، مرغماً الجنود على التّراجع، مرعباً إياهم بتحدّيه..‏

- أيّها الجبناء..‏

بم.. بم.. بم.. الجنود يطلقون، يهجمون على الأطفال، تنهال الحجارة والعصي.. حتى الأحذية تطايرت من كل صوب.. بم.. بم.. بم.. يلعلع الرصاص، .. بم.. بم.. بم.. تنفجر القذائف.. الهتافات تملأ الحناجر وقع أحد التلاميذ الصّغار، دمه يسيل إلى حذائه، يرسم فراشات حمراء فوق البلاطات الحجرية، حملوه على أكتافهم .. و.. انفجرت القدس.. كانت صدورهم مدرّعة بواقيات الرصاص، وصدورنا مشرعة مفتوحة للهواء.. والشمس.. و.. الرصاص..‏

................‏

.....................‏

فاطمة، أرجوك، لا تلوميني، إذا تأخّرت عن موعدي، بي شوق إلى أن أعيد الفرح إلى عينيك الجميلتين، وأن أمسح الحزن عن وجهك المقدسي الغاضب، ماذا تنتظرين من المعلّم حسين؟..‏

سقط صاروخ إسرائيلي على مدرسته في وضح النّهار، قتل سبعة من تلاميذي الصّغار.. لم أستطع رؤية أجسادهم الصّغيرة الممزّقة وهم يخرجونها أشلاء من تحت الركام، ولا دفاترهم وأقلامهم المبعثرة، ولا عيون أهليهم النادبة، وهي تهتف بأسمائهم.. محمّد.. حسن.. علي.. حمزة.. سامي..‏

فاطمة، أرجوك، اعذريني إذا تأخرّت اللّيلة، لدي شغل، غير تعليم الصّبيان، المدارس كلّها معطّلة، والتلاميذ هائمون في طرقات القدس، وأنا على تلّ المشارف أو فوق جبل المكبّر أو عند سفح الطّور، أو في بوّابة الخليل، أنتظر الضابط مردخاي؛ هل أنسى كيف حدّق بي طويلاً. شفط دخان سيجارته وقلّب النّظر فيّ. كان عليه أن يقول شيئاً.. في عينيه الغائرتين شهدتُ رعباً، والكاب منزلق إلى الخلف فوق رأسه الأصلع، وجنوده يحيطون به، وهم يقتحمون المدرسة:‏

- أنت معلّم .. مُ.. خ.. رّ.. ب‏

بنيامين، واليعازر، وجاكوب، وروبنشتاين كلّهم يقتلون، نسفوا بيوتنا في قلب القدس، حرقوا المنبر والمحراب في الجامع الأقصى. قطعوا زيتون أهلنا. بلدوزراتهم داست بياراتنا وكرومنا، نقبوا جدران قبّة الصّخرة بحثاً عن هيكل سليمان. هتكوا أسوارنا، عصابات الهاجاناه وشتيرن والأرجون روّعت أمننا، لست أدري لماذا يحيلون العالم إلى لون أحمر؟!.‏

ذبحوا مصلّينا في الحرم الإبراهيمي، ولم تسلم من أيديهم كتبنا ومصاحفنا.. ألقوا بها في النّار، وعبثوا بكلّ حرماتنا، تركونا ضائعين، مشتّتين، عاطلين عن العمل، لا مستقبل لنا..‏

حين يشتعل الغضب، وتلتهم ألسنته كلمات السماء، تُفتح أبواب غامضة، تتسلّل منها الشياطين، بل يجيء إبليس نفسه في موكبه النّاري، يحفّ به الجلاّدون والمستكبرون ورجال الشرطة ومردخاي وكوهين، ويزهار، والسجّانون، عندئذٍ سيغيّر كلّ واحد جلده، ويخفي اسمه ولقبه ويقول:‏

- شالوم.. شالوم‏

وتهتف المذيعة في الراديو بلكنة ملتوية..‏

- صوت أورشليم.. أورشليم‏

تعالوا إلى إسرائيل..‏

تعالوا إلى واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، هلمّوا إلى أرض الميعاد، إلى أرض اللبن والعسل..‏

بم.. بم.. بم.. هذه مدافع الفرح .. بم.. بم.. بم.. هذه متفجّرات السلام والأمان .. بم.. بم.. بم..‏

فاطمة، معذرة، لا تلوميني. لم أعد إلاّ رجلاً محروماً من هذه المدينة الرؤوم، التي نسمّيها حبّاً وتحدّياً: القدس..‏

إنّي مطارد. أغادر تلّة الرضوان لأهيم على وجهي في الطرقات من مرجوش إلى سوق النحّاسين، إلى خان الحنّة، في كلّ مكان لي ذكرى ونجوى.. وفي المقاصد، وحيّ المغاربة، وفي ميدان الفاكهاني وباب الحديد يخفق قلبي.. وفي لحظة من الأسى ينطلق صوت المؤذّن يعانق أمواج الظلام..‏

مهلاً، فاطمة، ففي عروقي ينبض توق وحبّ واشتياق، في عروقي يضجّ مجد،.. خلفاء. وتخفق رايات، وفتوحات، وتكبيرات.. في صدري صوتك الهامس، وكلّ أصوات المستضعفين، ينهض نُبلي وكبريائي ويشتعل ضوئي..‏

صار بوسعي أن أُحدِّثكم عن الموت نفسه، فإني به خبير، إني من صناعه. الأحزان تنهمر كالمطر، وثورتي ستقلب نواميس الحياة، فانتظروا..‏

تعالوا، اقتربوا منّي، انظروا إليّ. هل عرفتموني جيّداً.. تأمّلوا صورتي، صورة المشتاق، سأخرج إليكم، حدّقوا في وجهي.. أ أنا مخرّب؟!‏

لن يقشعر الجلد، ولن تدمع العيون أو ترتجف الأوصال، فأنا قادم إليكم، أقاوم أمنية أن أخترق الغيوم، أو أصلب عين الشمس، أو أجتاز المجرّات.‏

أنا إنسان مثلكم، فلماذا تجعلون مني دريئة لأهدافكم، لماذا تعملون على تصفية دمي. قطرة.. قطرة.. قطرة.. وتلهثون ورائي، سعياً لإبادتي!!‏

لقد تعلّمت لغة جديدة..‏

والليل مهما طال، سيزيح أستاره نور الصباح..‏

تعالوا.. اقتربوا أكثر.. أنا في لحظة وجد و.. اشتياق.. سأسمعكم لغتي الجديدة