جميل أن يتعلم المرء من تجربته الخاصة خلال لقطات حياته المهمة، ولكن من القادر على ممارسة نفس التجربة ثانية بنفس الحماس، وبنفس التمثيل، ومن ثم البحث عن الشخص -الفار-. أما أنا فقد علمتني التجربة أن الحبَّ لا يأتي سوى مرة واحدة، وأنّ فرحة بلوغ الطاولات تأتي مرة واحدة. لاشيء جديد، عناوين الصحف نفسها والموضوعات ذاتها، اتسمت في كتب الخمسينات وما قبل.. حروب، سلام، أفكار كثيرة تتضارب، نظريات تنقلب على ذاتها. وفي نهاية المساء يحمر وجهي من حرارة المدفأة اللاهبة، تنغلق جفوني عنوة، تتضخم الحروف وتنتفخ حتى تعلق في حلقي فأشعر بالاختناق يوقظني أخي آخذاً مكاني ليحتسي ما تبقى من الشاي أمام محطات البث في ذاك اليوم نمت كثيراً، طوال النهار.. حتى انتفخت جفوني وغيبت عن ناظري تفاصيل الصور. وفي غمرة شرودي، وقف أخي عاطف قبالتي مبتسماً ثم جلس يداعب مفاتيحه، هل هو مريض حتى يرسل من فمه الداكن تلك الكلمات الجميلة، لم يعتد حتى أن يسلّم عليّ. قذفني بقطعة من "الشوكولا" وأمرني بلطف أن أغيّر ملابسي لقضاء أمسية جميلة في مقهى. اليخت، الذي أفضله، لم أتردد أسرعت قبل أن يغيّر رأيه، فهو شاب غريب الأطوار، غامض، يعيش معي برابطة الدم التي تسري في جسدينا، يحميني من الوحدة الساكنة التي يحرّكها بوجوده يحميني من النظرات، يحمي شباكي من حثالة الشارع. كنت أعلم أنه إذا أحب يموت حباً، يسهر، يتألم، يقرأ روايات سطحية لا أجرؤ على وضعها في المكتبة بين كتب الجرجاني وابن هشام. لبست بنطالاً ضيقاً، وحذاء بكعب عالٍ، مشيت في الممر ففاحت رائحة عطر البنفسج، فرحت لأنه أدرك من حديثي على الغداء حاجتي إلى النور، والهواء النقي، والعاطفة الأخوية، صرت أدندن مع الموسيقا الصاخبة التي لا أحبّها في بعض الأحيان. أوقف السيارة فجأة، فتح لي الباب ثم أغلقه ورائي.. أنهينا القهوة المرّة، أخذت نفسَاً بحرياً حتى تعبأ صدري، تابعنا طريقنا، كنت قلقة وأنا أرقب نظراته إلى الساعة المعلقّة فوق المرآة الصغيرة، بدأ يحدثني عن -ساميا- التي تشغله، أحزنني جنونه بها، فتاة تعمل في ناد لتقويم الجسد، اهتماماتها بسيطة تنجذب إليّ معرفة أناس من ذوي المراكز المرموقة، وأصحاب السيارات الحديثة، سمعت الحكاية. لم ترقني بل أشعرتني بالاضطراب والقلق، للحديث عنها غاية غامضة. دخلنا بالسيارة قاطعين شارعاً مغمسّاً بالمياه السوداء، مررنا بأزقة مظلمة ثم توقفنا أمام باب حديدي ضيق. غاب كفه في صدره مخرجاً ظرفاً صغيراً. كنت أرقبه منقّلة نظري بين الباب الحديدي والظرف مشدوهة كالبلهاء لدرجة أني نفذت ما طلبه مني بدون تفكير أو اعتراض. قرعت الجرس مرتجفة أمام ضوء السيارة، ارتجف صوتي أيضاً عندما وقف أخوها أمامي بجسده الضخم سائلاً عن إسمي. خرجت الفتاة من غرفتها عانقتني حتى اطمأن أخوها واختفى عن نظرنا.. -يا للوضاعة- قلت لنفسي.. إنها المراهقة بعينها، اهتززت في مكاني كباب من خشب تفتته الريح. ويعفنه سيل صنعه المطر. أرقب الاثنين كيف يمثلان الحبّ. همست لها وأنا أسلّمها الظرف أنْ تحذره، فضحكت واضعة الظرف في صدرها الثائر على قدره وسترته ولم ترد. لو كان هذا الحبّ هو حبّه الأول لما حزنت كلّ هذا الحزن، لو كان يريد الزواج منها لسعيت له من أجل ذلك بكلّ طيب خاطر، أينام ويشاركني مغامرته المجنونة من أجل أن يلمحها في ثياب النوم؟! كنت وإلى الآن مندهشة كيف تتعارض مقولات الكتب مع معظم البشر الساكنين فينا وحولنا... أما بالشر القليل الذي يترسب كالرماد في مدفأة قلبي فإني أكتب "من ذكريات أخي الذي بدّل سياّرته بعربة للخضار، أخي القوي جداً.. الذي مارس تجربته ألف مرّة، بنفس الحماس، ونفس التمثيل والموهبة؛؛؛ فما أكثر الفئران أمام غباء العلماء..".
جميل أن يتعلم المرء من تجربته الخاصة خلال لقطات حياته المهمة، ولكن من القادر على ممارسة نفس التجربة ثانية بنفس الحماس، وبنفس التمثيل، ومن ثم البحث عن الشخص -الفار-.
أما أنا فقد علمتني التجربة أن الحبَّ لا يأتي سوى مرة واحدة، وأنّ فرحة بلوغ الطاولات تأتي مرة واحدة.
لاشيء جديد، عناوين الصحف نفسها والموضوعات ذاتها، اتسمت في كتب الخمسينات وما قبل.. حروب، سلام، أفكار كثيرة تتضارب، نظريات تنقلب على ذاتها. وفي نهاية المساء يحمر وجهي من حرارة المدفأة اللاهبة، تنغلق جفوني عنوة، تتضخم الحروف وتنتفخ حتى تعلق في حلقي فأشعر بالاختناق يوقظني أخي آخذاً مكاني ليحتسي ما تبقى من الشاي أمام محطات البث في ذاك اليوم نمت كثيراً، طوال النهار.. حتى انتفخت جفوني وغيبت عن ناظري تفاصيل الصور. وفي غمرة شرودي، وقف أخي عاطف قبالتي مبتسماً ثم جلس يداعب مفاتيحه، هل هو مريض حتى يرسل من فمه الداكن تلك الكلمات الجميلة، لم يعتد حتى أن يسلّم عليّ. قذفني بقطعة من "الشوكولا" وأمرني بلطف أن أغيّر ملابسي لقضاء أمسية جميلة في مقهى. اليخت، الذي أفضله، لم أتردد أسرعت قبل أن يغيّر رأيه، فهو شاب غريب الأطوار، غامض، يعيش معي برابطة الدم التي تسري في جسدينا، يحميني من الوحدة الساكنة التي يحرّكها بوجوده يحميني من النظرات، يحمي شباكي من حثالة الشارع.
كنت أعلم أنه إذا أحب يموت حباً، يسهر، يتألم، يقرأ روايات سطحية لا أجرؤ على وضعها في المكتبة بين كتب الجرجاني وابن هشام.
لبست بنطالاً ضيقاً، وحذاء بكعب عالٍ، مشيت في الممر ففاحت رائحة عطر البنفسج، فرحت لأنه أدرك من حديثي على الغداء حاجتي إلى النور، والهواء النقي، والعاطفة الأخوية، صرت أدندن مع الموسيقا الصاخبة التي لا أحبّها في بعض الأحيان. أوقف السيارة فجأة، فتح لي الباب ثم أغلقه ورائي.. أنهينا القهوة المرّة، أخذت نفسَاً بحرياً حتى تعبأ صدري، تابعنا طريقنا، كنت قلقة وأنا أرقب نظراته إلى الساعة المعلقّة فوق المرآة الصغيرة، بدأ يحدثني عن -ساميا- التي تشغله، أحزنني جنونه بها، فتاة تعمل في ناد لتقويم الجسد، اهتماماتها بسيطة تنجذب إليّ معرفة أناس من ذوي المراكز المرموقة، وأصحاب السيارات الحديثة، سمعت الحكاية. لم ترقني بل أشعرتني بالاضطراب والقلق، للحديث عنها غاية غامضة.
دخلنا بالسيارة قاطعين شارعاً مغمسّاً بالمياه السوداء، مررنا بأزقة مظلمة ثم توقفنا أمام باب حديدي ضيق. غاب كفه في صدره مخرجاً ظرفاً صغيراً. كنت أرقبه منقّلة نظري بين الباب الحديدي والظرف مشدوهة كالبلهاء لدرجة أني نفذت ما طلبه مني بدون تفكير أو اعتراض.
قرعت الجرس مرتجفة أمام ضوء السيارة، ارتجف صوتي أيضاً عندما وقف أخوها أمامي بجسده الضخم سائلاً عن إسمي.
خرجت الفتاة من غرفتها عانقتني حتى اطمأن أخوها واختفى عن نظرنا.. -يا للوضاعة- قلت لنفسي.. إنها المراهقة بعينها، اهتززت في مكاني كباب من خشب تفتته الريح. ويعفنه سيل صنعه المطر. أرقب الاثنين كيف يمثلان الحبّ. همست لها وأنا أسلّمها الظرف أنْ تحذره، فضحكت واضعة الظرف في صدرها الثائر على قدره وسترته ولم ترد.
لو كان هذا الحبّ هو حبّه الأول لما حزنت كلّ هذا الحزن، لو كان يريد الزواج منها لسعيت له من أجل ذلك بكلّ طيب خاطر، أينام ويشاركني مغامرته المجنونة من أجل أن يلمحها في ثياب النوم؟!
كنت وإلى الآن مندهشة كيف تتعارض مقولات الكتب مع معظم البشر الساكنين فينا وحولنا...
أما بالشر القليل الذي يترسب كالرماد في مدفأة قلبي فإني أكتب "من ذكريات أخي الذي بدّل سياّرته بعربة للخضار، أخي القوي جداً.. الذي مارس تجربته ألف مرّة، بنفس الحماس، ونفس التمثيل والموهبة؛؛؛ فما أكثر الفئران أمام غباء العلماء..".