حصاد السنين

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : منال فياض | المصدر : www.awu-dam.org

المحطة تضجّ بالمسافرين. لم أتذكره، أشك بأن التقينا يوماً. شاءت المصادفة أن نجلس معاً في مقعدين ملتصقين، أحسست بأن الطريق يسحب من تحتنا حتى يقصر. وكنت حائرة كيف تنحني الأرض وتمتد السماء في الارتفاع، كلنا نسير في درب لا نرى فيه أرضاً أو سماء، نسقط في حفره واحدنا تلو الآخر ومن يكمل دربه تعميه سهام الشمس.‏

الكتب الكثيرة التي قرأتها جعلتني في عماء، غير فاهمة للذي أريد فهمه إلى أن قابلت (سام) توقف الباص، جلسنا في الاستراحة، رشفت كأساً من الشاي الساخن وحدي، وهو أيضاً جلس وحده يداعب بيديه الناعمتين فنجان القهوة.‏

في النصف الآخر من الرحلة شدتني عيناه الشاردتان. عينان حادتان كحبتي لؤلؤ مغمستين بمساء الشتاء.‏

رجل أتقن فن الحياة، عرف كيف يعيش من أجل البقاء الأفضل. رجع إلى الوطن شيء ما شده إليه كما يشد غصناً أخضر إلى جذعه. رجع ليكمل طريق النهاية نحو بداية نهاية أخرى حين نطلب العيش بسلام علينا أن نتلون بلون الحياة كالحرباء... الإقامة الطويلة في الغربة، فرضت عليه أفكاراً جديدة خلعها كلها حين صار في الشام.‏

آمن بالأرض وكفر بالسماء، أرجعه الحنين ورائحة التربة حين يركع فوقها المطر...‏

أرجعه أبوه الذي علمه كيف يعطي الحياة حقها ويأخذ منها حقه.‏

أب أعطى الوطن عمره، صراخه مازال في فضاءات المحاكم كالصدى. اشتغل محامياً يوم لم يكن في المدينة كلها خمسة محامين، رافعاً صوته بالحق، كما ترفع الأم رضيعاً هو تاريخ قادم.. كما يرفع الفلاح منجله، والفران رغيفاً في وجه فقير بائس.‏

كل ما جمعه من حصاد السنين وحصاد الكلمات من أجل الاقتران ببنت البلد صرفه ثمناً لبضعة أيام مؤجلة في حياة أبيه الذي أصيب فجأة بمرض خطير في الرئة. خمسة عشرة يوماً يمكن أن يعيش إن تناول دواءً مفقوداً لايوجد إلا في أوروبة.‏

صارا ينامان في سرير واحد... يكمش بيد أبيه محاولاً أن يغوص بعينيه، بكل تجعيدة في وجهه ليحفظ ملامحه عن غيب.. "ابتعدنا.. فراقنا كان طويلاً يابابا، واليوم نلتقي لنبتعد غداً أكثر...".‏

قبل ثلاثة أيام من دفنه صرخ مذعوراً (ألا تراه.. إنه آت.. ألا تراه؟! يلبس الأبيض، أنظر ها إنه يخترق الجدار.. صار هنا...) وأغمي عليه. احتضن يده مازالت ساخنة كالنار، وقلبه مازال ينبض.‏

تحدثنا كثيراً في اليوم الأخير، حكى له عن حبه للمرأة الشقراء وقد رفضها من أجل أمه التي حذرته من بنات الغربة. في تلك الليلة لم يدعه ينام، حكى له طرائف مضحكة... ضحكاً حتى انفجر بالبكاء. الدموع فضحت نفسها. تعانقا حتى شعر سام بقوة أبيه وهو يشده مرتجفاً حتى كاد يكسر عظامه. استرخى ثانية مكرراً نفس الجملة: (ألا تراه ياولدي.. إنه آت يلبس الأبيض، بل كله أبيض، ها إنه يخترق الجدار... يجلس فوق صدري...).‏

ظن سام أن الغطاء ثقيل على صدره فكشف عنه وهو يرمقه بفزع إلى ذلك الشيء الغائب فوق صدره وكأنه فعلاً فوقه، لم يكن أبوه خرفاً ولا جاهلاً حتى تتهيأ له الأشباح، طلب من سام أن يخرج لخمس دقائق فقط. تردد قبل أن يفعل لكنه احترام أمره فاستجاب.‏

انتظر، أكل الساعة بعينيه، راقب العقرب كيف يدور ببطء وكأن قنبلة موقوتة ستنفجر، بدا يدور، يروح ويجيء في الصالون وحين اكتملت الدقائق ركض قاذفاً نفسه فوق السرير يشد يداً أمست كحجرة باردة كساها الثلج.‏

لم تستمر عملية نقل الروح ثوان.‏

قال سام حين وصلنا إلى المحطة الأخيرة وقبل أن نفترق كل في طريق إنه مازال يشرب.. مازال يسهر... مازال يضحك ويحلم، وحين يزور ضريح أبيه المغطى بالرخام والنقوش الخضراء يحادثه حتى يغص الغيم وينشف المطر...‏

قال إنه لم يتغير، كل ما في الأمر أنه صار يخاف من السماء.‏