الخير كثير، رحل لأأبو وديع بعد تعب، أرض واسعة عريضة على مد النظر، رجل دون إرادته رحل وطعم شراب البرتقال يبلل آخر ما استقر من لعاب، كتب وصية ونُفذت، جنازةٌ أثارت دهشة أهل القرية والقرى المجاورة الممدودة على الساحل، وُضع في تابوت وأخرجت يداه بشكل مفتوح خارج الصندوق الطويل. الشخص الذي تحدّث وهو صامت بحركة كفيه... بكته زوجته ومازالت تتنهد وتقول: (لا تفهم الحياة إلا في موعد فراقها). جميع شباب القرية ينظرون إلى سطوح بيتهم بحسرة، صحن كبير أبيض يلتقط كلّ المحطات، في الداخل يتمدد وديع بنشوة، يحملق في الصور الخليعة؛ (أجل، ما أخذ والدي معه لاشيء لم التعب، الرزق كثير، والمال وفير.....). أخته في الغرفة المجاورة تتمدد متضجرة، كيف رحل أبوها وكيف صار أخوها، سهر طويل وعربدة، شعوره باللامبالاة، كان يجالسها ويحدثها عن التطور، فالحياة تمضي بسرعة. وهي تصغي من وراء الستار إلى أحاديث صديقه عن المدينة والحب والمطاعم الفخمة على الشاطئ، والبنات المثيرات. تسمع مقتطفات من الكلام وهي تقدم الشاي، جالسة على الكرسي بأمر من أخيها: -(أنت كأختي، واللّهِ)، جملة كانت تبريراً لأحاديث طويلة. مضت سنتان، وتلك هي الثالثة.. كرهت المدرسة والشهادة والساعات الخصوصية، حتى جلست عاجزة عن التفوق والنجاح. تفكر بالرجل النموذجي الذي تعبق منه رائحة العطر الثقيلة- ابن المدينة- ببذته وربطة عنقه واحترامه للبنت بتصرفات وكلمات مثيرة... الأيام الزائلة لم تغير من طبع وديع، شباب يعملون لديه بالأجرة، يرضيهم بتكريمهم ويرضونه بالجهد الرزق يزداد عاماً بعد عام، وهو أمام المال وإسرافه صار هاجسه الوحيد صيد النساء، بالحب بالكذب، بالمال، لا فرق كلّه موجود فيه، ورث عن أبيه المال والرزق وورث عن أمه الجمال إنه قادر بنظرة من عينيه الزرقاوين أن يوقع أشرف النساء، وقادر بغمزة من سيارته أن يوقع بأغنى النساء. كالعادة ساعة أو أكثر من ترتيب هندامه، الأرض سخنت بعد أن ثبتت الشمس فوق ساحة البيت بشكل عمودي، معلنة لديه بداية يوم جديد في الثانية عشرة ظهراً. أخذ من المال ما يملأ محفظته، واختفى مع سيارته، متجهاً نحو المدينة حيث مكانه المفضل الساخن ومن خلف الزجاج ينقر المطر، ويهدر الهواء يلاعب الموج الرمادي. مشهد البحر والسفن لم يستهوهِ في تلك اللحظة التي يرمق بها تلك الفتاة بنظراته. نسيت كأس الشاي وهي تنقِّل ناظرها ما بين ساعة يدها والباب الواسع للمطعم. شكلها الآن يوحي له بأنها تجهّز نفسها للمغادرة اقترب منها بتأدب واستأذن منها أن يجلس، أسعدها ذلك ووافقت كمن تتحدى شخصاً آخر لم يأتِ. أشعل لها سيجارة من النوع الأمريكي المستورد، حدّثها كأنه يعرفها من سنين، إنها طريقته في زرع الطمأنينة في قلوبهن، يجد لذة في الثرثرة الكاذبة المخالفة لآرائه الحقيقية، يتحدث كثيراً عن الفروقات بين المرأة العربية والغربية، ويردّد كثيراً أسماء الكتاب العظام الذين يحفظ لهم بعض مقولاتهم في فلسفة الحب وفلسفة الحياة، لكنه لم يتحدث يوماً عن شجر الليمون، والأرض أو أي خبر عن القرية أو الطقس... ينفذ ما يراه في الليل، تحت ضوء النهار، على شاطئ البحر وتحت الصخرة الكبيرة... صار وحشاً من داخله ينقل مشاعره الكاذبة باسم الحب ليصل إلى غايته الأخيرة، واضعاً في قلب كل فتاة كهفاً أسود لا يخبئ سوى خفاش أسود يقلق سكون لياليهن. الأضواء اختفت من الدار.. صوت كلاب تنبح ونقيق ضفادع بعيدة، وهج الشاشة يلّون وجهه في العتمة، ولون برتقالي يخرج من المدفأة المتأججة بنار تهمس وتحشرج، المطر في الخارج لم يتوقف، يطرق على النافذة بقوة، يغسل الوريقات الخضراء، كم هو متفائل، الشجر يحمل الثّمر والزهر الأبيض في وقت واحد... بللت الصناديق من برك الماء كي يزداد وزنها بالليمون والبرتقال كي ترسل إلى حلب بالشاحنات... يوم شاق انتهى بتنهيدة عميقة من أمه التي قعدت متأملة ابنها مطولاً، أتجادله بموضوع زواجه، حديث تجادلا فيه عشرات المرات حتى كرهت أن تعيده. صبّ كأس شاي ونظر إلى ساعته ثم صرخ لأخته فلم تجب: -أختي تنام باكراً، كالدجاجات... أحوالها لا تعجبني كثيراً... ولاحقت نظراته منظر أمه وهي تمشي نحو غرفتها صاعدة الدرجات بتثاقل: "أريد زوجة مثلها تماماً، عيون عسلية صغيرة لكن فيها ألف معنى، ووجه مستدير كقرص الشمس، خجولة، صبور، لا تشتكي ولا تتذمر، تنفذ ولا تعترض، حجاب برتقالي مذهب حول وجهها لتبدو كوردة عباد الشمس التي أحب، تنحني لي عند الفجر لتنهض عند الغروب"... رنَّ جرس الهاتف، في البداية تكلم ببرود، ثم همس بكلمتين، وهرع إلى سيارته.. "ذاك النادل يستحق مكافأة، علي أن أكافئه بمبلغ محرز... كأنه يفهم صنف النساء الذي أحب، لم يصدمني يوماً بوجه قبيح أو بجسد يمتص العظم جلده". دخل من الباب الواسع، مصّ السيجارة بشدة، تقدّم من النادل برزمة من النقود: -خذها... أنت تستحقها.. دلّني عليها... أسرع... همس له بأنّ فتاة اليوم مثيرة ومميزة، سهلة بمعاملتها، تأتي دائماً مع رفيقتها الشقراء ثم تخرجان مع أحدهم، (وصنف الرجال الذي ترغبه تلك الفتاة متحقق فيك، يا سيد وديع)، وأشار له بعينيه نحوها. تراخت أعصابه، انفرجت أصابعه، تطايرت الأوراق النقدية بهدوء على الأرض، اختفى المشهد لثوانٍ ثم توضّح ثانية، صار يسعل بقوة حتى جحظت عيناه. تقدّم ماسكاً بالنادل نحو الطاولة، التقت عيناه بعينيها، لم تمضِ ثوان حتى اختفت الأخت وأخوها وسط حلقة من الأجساد البشرية. اختفى صوت الموج وصوت المطر وسط الصخب والضجة، أبعدوه عنها وهو يصرخ ويبكي دموع لم يذرفها في حياته كلها... والأم تنتظر وقد شارف المساء على القدوم.. المطر يغسل الورق ويُسقط البَرَد زهر الليمون يقبره في الوحل الداكن.. الأم قلقة والمطر، المطر غزير، فهل يبشِّر بالخير؟!
الخير كثير، رحل لأأبو وديع بعد تعب، أرض واسعة عريضة على مد النظر، رجل دون إرادته رحل وطعم شراب البرتقال يبلل آخر ما استقر من لعاب، كتب وصية ونُفذت، جنازةٌ أثارت دهشة أهل القرية والقرى المجاورة الممدودة على الساحل، وُضع في تابوت وأخرجت يداه بشكل مفتوح خارج الصندوق الطويل. الشخص الذي تحدّث وهو صامت بحركة كفيه... بكته زوجته ومازالت تتنهد وتقول:
(لا تفهم الحياة إلا في موعد فراقها).
جميع شباب القرية ينظرون إلى سطوح بيتهم بحسرة، صحن كبير أبيض يلتقط كلّ المحطات، في الداخل يتمدد وديع بنشوة، يحملق في الصور الخليعة؛ (أجل، ما أخذ والدي معه لاشيء لم التعب، الرزق كثير، والمال وفير.....).
أخته في الغرفة المجاورة تتمدد متضجرة، كيف رحل أبوها وكيف صار أخوها، سهر طويل وعربدة، شعوره باللامبالاة، كان يجالسها ويحدثها عن التطور، فالحياة تمضي بسرعة. وهي تصغي من وراء الستار إلى أحاديث صديقه عن المدينة والحب والمطاعم الفخمة على الشاطئ، والبنات المثيرات. تسمع مقتطفات من الكلام وهي تقدم الشاي، جالسة على الكرسي بأمر من أخيها:
-(أنت كأختي، واللّهِ)، جملة كانت تبريراً لأحاديث طويلة.
مضت سنتان، وتلك هي الثالثة.. كرهت المدرسة والشهادة والساعات الخصوصية، حتى جلست عاجزة عن التفوق والنجاح. تفكر بالرجل النموذجي الذي تعبق منه رائحة العطر الثقيلة- ابن المدينة- ببذته وربطة عنقه واحترامه للبنت بتصرفات وكلمات مثيرة...
الأيام الزائلة لم تغير من طبع وديع، شباب يعملون لديه بالأجرة، يرضيهم بتكريمهم ويرضونه بالجهد الرزق يزداد عاماً بعد عام، وهو أمام المال وإسرافه صار هاجسه الوحيد صيد النساء، بالحب بالكذب، بالمال، لا فرق كلّه موجود فيه، ورث عن أبيه المال والرزق وورث عن أمه الجمال إنه قادر بنظرة من عينيه الزرقاوين أن يوقع أشرف النساء، وقادر بغمزة من سيارته أن يوقع بأغنى النساء.
كالعادة ساعة أو أكثر من ترتيب هندامه، الأرض سخنت بعد أن ثبتت الشمس فوق ساحة البيت بشكل عمودي، معلنة لديه بداية يوم جديد في الثانية عشرة ظهراً.
أخذ من المال ما يملأ محفظته، واختفى مع سيارته، متجهاً نحو المدينة حيث مكانه المفضل الساخن ومن خلف الزجاج ينقر المطر، ويهدر الهواء يلاعب الموج الرمادي. مشهد البحر والسفن لم يستهوهِ في تلك اللحظة التي يرمق بها تلك الفتاة بنظراته. نسيت كأس الشاي وهي تنقِّل ناظرها ما بين ساعة يدها والباب الواسع للمطعم. شكلها الآن يوحي له بأنها تجهّز نفسها للمغادرة اقترب منها بتأدب واستأذن منها أن يجلس، أسعدها ذلك ووافقت كمن تتحدى شخصاً آخر لم يأتِ. أشعل لها سيجارة من النوع الأمريكي المستورد، حدّثها كأنه يعرفها من سنين، إنها طريقته في زرع الطمأنينة في قلوبهن، يجد لذة في الثرثرة الكاذبة المخالفة لآرائه الحقيقية، يتحدث كثيراً عن الفروقات بين المرأة العربية والغربية، ويردّد كثيراً أسماء الكتاب العظام الذين يحفظ لهم بعض مقولاتهم في فلسفة الحب وفلسفة الحياة، لكنه لم يتحدث يوماً عن شجر الليمون، والأرض أو أي خبر عن القرية أو الطقس...
ينفذ ما يراه في الليل، تحت ضوء النهار، على شاطئ البحر وتحت الصخرة الكبيرة... صار وحشاً من داخله ينقل مشاعره الكاذبة باسم الحب ليصل إلى غايته الأخيرة، واضعاً في قلب كل فتاة كهفاً أسود لا يخبئ سوى خفاش أسود يقلق سكون لياليهن.
الأضواء اختفت من الدار.. صوت كلاب تنبح ونقيق ضفادع بعيدة، وهج الشاشة يلّون وجهه في العتمة، ولون برتقالي يخرج من المدفأة المتأججة بنار تهمس وتحشرج، المطر في الخارج لم يتوقف، يطرق على النافذة بقوة، يغسل الوريقات الخضراء، كم هو متفائل، الشجر يحمل الثّمر والزهر الأبيض في وقت واحد...
بللت الصناديق من برك الماء كي يزداد وزنها بالليمون والبرتقال كي ترسل إلى حلب بالشاحنات... يوم شاق انتهى بتنهيدة عميقة من أمه التي قعدت متأملة ابنها مطولاً، أتجادله بموضوع زواجه، حديث تجادلا فيه عشرات المرات حتى كرهت أن تعيده.
صبّ كأس شاي ونظر إلى ساعته ثم صرخ لأخته فلم تجب:
-أختي تنام باكراً، كالدجاجات... أحوالها لا تعجبني كثيراً...
ولاحقت نظراته منظر أمه وهي تمشي نحو غرفتها صاعدة الدرجات بتثاقل: "أريد زوجة مثلها تماماً، عيون عسلية صغيرة لكن فيها ألف معنى، ووجه مستدير كقرص الشمس، خجولة، صبور، لا تشتكي ولا تتذمر، تنفذ ولا تعترض، حجاب برتقالي مذهب حول وجهها لتبدو كوردة عباد الشمس التي أحب، تنحني لي عند الفجر لتنهض عند الغروب"...
رنَّ جرس الهاتف، في البداية تكلم ببرود، ثم همس بكلمتين، وهرع إلى سيارته.. "ذاك النادل يستحق مكافأة، علي أن أكافئه بمبلغ محرز... كأنه يفهم صنف النساء الذي أحب، لم يصدمني يوماً بوجه قبيح أو بجسد يمتص العظم جلده".
دخل من الباب الواسع، مصّ السيجارة بشدة، تقدّم من النادل برزمة من النقود:
-خذها... أنت تستحقها.. دلّني عليها... أسرع...
همس له بأنّ فتاة اليوم مثيرة ومميزة، سهلة بمعاملتها، تأتي دائماً مع رفيقتها الشقراء ثم تخرجان مع أحدهم، (وصنف الرجال الذي ترغبه تلك الفتاة متحقق فيك، يا سيد وديع)، وأشار له بعينيه نحوها.
تراخت أعصابه، انفرجت أصابعه، تطايرت الأوراق النقدية بهدوء على الأرض، اختفى المشهد لثوانٍ ثم توضّح ثانية، صار يسعل بقوة حتى جحظت عيناه. تقدّم ماسكاً بالنادل نحو الطاولة، التقت عيناه بعينيها، لم تمضِ ثوان حتى اختفت الأخت وأخوها وسط حلقة من الأجساد البشرية.
اختفى صوت الموج وصوت المطر وسط الصخب والضجة، أبعدوه عنها وهو يصرخ ويبكي دموع لم يذرفها في حياته كلها...
والأم تنتظر وقد شارف المساء على القدوم.. المطر يغسل الورق ويُسقط البَرَد زهر الليمون يقبره في الوحل الداكن.. الأم قلقة والمطر، المطر غزير، فهل يبشِّر بالخير؟!