غريق

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : مصطفى فاسي | المصدر : www.awu-dam.org

عبر الموج تسافر وحدك نحو الآفاق بعيداً، عشرين سنة، تعذبت، تحملت، خنقت الأشواق في داخل ذاتك، لكن الشوق أكبر من أن يقتل، حلاق أنت بسيط متواضع في حي متواضع، لكنك في الحي أكبر من كل الناس، من أمام الحي ومن رئيس البلدية، هذان تغيرا أكثر من مرة، أما أنت فإنك حلاق في الحي منذ عشرين سنة، من يوم قدومك من هناك من أرض الأشواق، حلاق تحسن فن الموسى كما تحسن فن العوم، كسيف علي تتحرك في يدك الموسى، وعبر الماء تنساب تماماً كالسمكة، وتغطس أحياناً فتلامس قاع البحر ويظن الناس بألا عودة، لكنك تطلع فجأة من حيث لا أحد يتوقع..‏

ظللت شهوراً قبل السفر تجرب حظك، صرت رفيقاً للموج وللحيتان، صار الصيادون يرونك في كل الأوقات، مساء وصباحاً، وحتى في الليل، تغطس في الماء وتغيب طويلاً، ثم ترجع بعد أن تنقطع الأنفاس، وتصاب باليأس الأنظار، لم يعد يرهبك الليل ولا الماء البارد، فالشوق أكبر من كل الأهوال..‏

وفي ذات صباح بارد، كالبرق انتشر الخبر سريعاً.. من عشرين سنة لم يغلق باب الدكان فلماذا لم يفتح هذا اليوم؟ وجرى الناس إلى كل جهة، وسؤال واحد يشغل كل الأذهان.. تحولت البلدة إلى سؤال كبير ومحير.. الرجل الشاب والطفل والمرأة والشيخ.. كل يبحث عنك، كل يسأل عنك.. موحا الحلاق.. متى رأيته آخر مرة؟ إلى أين كان متجهاً؟ ماذا كان يلبس؟ ألم يقل لك شيئاً؟ ماذا كان يحمل معه؟ هل كانت ملامح وجهه تعني لك شيئاً؟ أتحدثت معه؟ ما هي آخر كلمة نطق بها؟ وأتى من جهة البحر خبر، لا بد أنه آخر أخبارك.. شاهد رآك تغطس مساء، أو قل ليلاً، هو لم يؤكد أنه رآك أنت بالذات، فالدنيا ظلام والبحر في الليل سواد، لكنه روى خبراً للناس مثيرا.. عملاق.. نعم عملاق. أبداً لم أر في عمري شخصاً بهذا الحجم..‏

الرجل الراوي صياداً كان، دنياه الزرقة والابحار، قال الرجل الراوي: لا أبداً ما كان ذلك إنساناً واسمعوا..‏

وهو دائماً عندما يروي قصته تحيط به مجموعة كبيرة من الأطفال والكبار، وقد ظل يروي القصة سنوات كثيرة بعد الحادث، حتى نسي الحادث وبقي الصياد الذي يحكي القصة، شاخ الرجل، وانحنى ظهره.. شواربه ما زالت تنبئ عن صياد قوي ونظرته أيضاً.. الراوي كان صياداً متأخراً في البحر..‏

اسمعوا قال الصياد، لا بد أنها كانت العاشرة أو الحادية عشرة ليلاً، لا أدري فأنا عندما أدخل البحر لا أحمل الساعة، أفضل في البحر نسيان الزمان تماماً، كنت داخل البحر ربما بمسافة ساعتين أو ثلاث ساعات، لا أدري.. ولكني كنت قد غادرت اليابسة عند غروب الشمس متجهاً نحو عمق البحر.. أذكر جيداً كأنما يحدث ذلك أمام عيني الآن. البحر كان هادئاً ومسالماً، بل أستطيع أن أقول إنه كان ميتاً إلى درجة أنني بعدما قطعت مسافة لا بأس بها جلست في هدوء على حافة القارب وأشعلت سيجارة، كنت أدخن وأنظر إلى جهة الشاطئ الذي كان يختفي عن نظري، ثم سمعت ويا للهول كأنما عمارة كبيرة أو صخرة عظيمة قد انهارت عند الشاطئ من شاهق وهوت إلى أعماق البحر.. أحسست وأنا بعيد عن الشاطئ باهتزاز قوي في قاربي مما اضطرني للنهوض سريعاً من جلستي استعداداً لمجابهة أي طارئ، ولكن عاد إلى البحر هدوؤه وصمته بعد ذلك عدا المويجات الصغيرة المتلاحقة التي ما تزال تهز قاربي بشكل منتظم فتجعله يرقص رقصاً جميلاً متوازناً.. ظلت الحيرة تغمرني.. لم أعرف ماذا أفعل بالضبط، في يدي كنت أحمل سلاح الصيادين عصا طويلة تنتهي بسكين حادة.. وأنا أقف وسط القارب وأنقل نظري في كل الاتجاهات محتاراً.. وظل البحر بعد ذلك يزداد هدوءاً ولم الحظ شيئاً آخر ذا بال سوى أنني عندما جلست لاحظت شيئاً يمر بقرب القارب.. كان يمر سريعاً حتى أنني لم أستطع تمييزه جيداً.. هل هو حوت كبير؟ هل هو مجموعة من الأسماك؟ هل هو عملاق يسري تحت الماء؟ لا أدري، المهم لقد شعرت بخوف شديد آنذاك على الرغم من طول تجربتي في البحر، ودفعت قاربي بأسرع ما يمكن نحو الشاطئ، وعدت إلى بيتي، وقد قضيت بقية ليلتي في عالم من الهلع والحمى، وقضيت بعد ذلك يومي في نفس الوضع إلى أن وصلني خبر موحا الحلاق الذي اختفى فقمت من فراشي، وقد عرفت ما حدث..‏

تلك حكاية الرجل الصياد كما ظل يحكيها باستمرار.. وفي البحر تسافر يا موحا الحلاق بعيداً.. لطالما كان الناس يرونك تحمل منظاراً مقرباً وتصعد على الربوة العالية التي يتكسر تحتها الموج الأبيض.. هناك فوق أعلى صخرة فيها تجلس متجهاً نحو الغرب.. يكون ذلك عادة قبيل الغروب.. الشمس نازلة حمراء تشع في هدوء فوق الجبال وفوق صفحة البحر الهادئة تجللها العظمة.. تنسى نفسك وتعيش هناك.. هم هناك.. ترى كيف يعيشون؟ ماذا يحسون؟ كيف يقضون أوقاتهم؟ هل تغيروا أم ما زالوا مثلما كانوا؟ هل مات بعضهم أم ما زالوا جميعهم أحياء، ما باليد حيلة، حاولت مراراً أن تجتاز الحدود إليهم، لكن هيهات.. فلم يبق إذن إلا البحر طريقاً.. البحر لا حدود به، البحر ماء أزرق واسع.. نعم أنت تعرف.. حكى لك أحد يوما.. هو من رجال حرس الحدود كان يقصد دكانك باستمرار ليحلق ذقنه، وكان الموضوع يؤرقك، حدثك عن الحدود ومشاكلها فقلت له:‏

-كيف يمكن أن يضعوا حدوداً في البحر؟؟‏

وأكد لك أن البحر أيضاً قسموه.. وسألته:‏

-وهل تعتقد ألا أحد يجتاز حدود البحر؟‏

فرد بأن هنالك بالفعل من يجتازون حدود البحر.. الرجل كان يتحدث في بساطة، لم ينتبه لما كنت أنت تفكر فيه، وأضاف:‏

-ولكن هناك من قبض عليه ومن رمته الأمواج إلى الشاطئ بعد ضياعه أياماً، معظم هؤلاء كانوا يغامرون من أجل تهريب الحشيش أو الذهب أو أمور أخرى أثمانها غالية أيضاً.‏

أما أنا فلي مع البحر حكايات.. أنا لن أغرق.. كنت تفكر في نفسك.. وظلت الفكرة تكبر وتتضخم.. لي هنالك أحباب وأصحاب ينتظرون.. الشاطئ الواحد يجمعنا.. لو جاء غريب -مثلاً- عن هذه الجهة فإنه لا يمكن أبداً أن يتصور أن هنالك حدوداً تفصل بين بيوت وبيوت أخرى.. في الصيف هم هنالك يعومون في الشاطئ وينامون على الرمل.. ونحن هنا أيضاً.. الشاطئ نفسه والرمل نفسه.. في الماضي كنا نعوم معاً.. نمرح ونجري على رمل الشاطئ، لم نكن أبداً نتصور أن هذا الشاطئ يمكن أن يصبح شاطئين اثنين.. لو كانت لي أجنحة لحلقت بعيداً في أعالي السماء وطرت إليهم فوق اليابسة أو فوق البحر...‏

ولكن لا أجنحة لي.. وإذن لم يبق إلا الليل والبحر.. الليل جميل يخفي الأشياء عن الأعين المتلصصة، والبحر صديق واسع الصدر جميل رائع، فلماذا لا أصطحبه في رحلة مغامرة. السباحة أحسنها كما أحسن فن الغوص بعيداً في الأعماق.. والشوق يؤرقني باستمرار.. حكى بعض حراس الحدود قال: في ذلك المساء وهو يعني المساء نفسه الذي حكى عنه الصياد، حكى بأنهم كانوا على الشاطئ في أحد قوارب الحراسة عندما رأوا بالمنظار المكبر، وبالأضواء الكاشفة كأن شيئاً، ربما هي سمكة أو حيوان بحري ما، أو إنسان، ولا ندري.. كان يظهر أحياناً ثم يختفي على بعد حوالي كيلو مترين من الشاطئ.. رأوا ذلك لحظاتٍ ثم اختفى.. يقول حارس الحدود: أقلعنا بسرعة في اتجاه ذلك الشيء، ووصلنا إلى المنطقة التي قدرنا أننا رأيناه فيها، أوقفنا القارب وسلطنا الأضواء في كل الجهات، بقينا كذلك عدة دقائق نحاول أن نعثر له على أثر، ولكن بدون فائدة..‏

كان الأمل وكان الشوق، وكنت آنذاك وأنت ترى القارب يدنو منك تغطس تحت الماء وتمضي بعيداً.. كنت تحاول أن تلتهم البحر التهاماً.. على بعد خطوات فقط يمدون لك أيديهم.. يشجعونك على المواصلة، كانوا يبتسمون لك.. وكانت الدموع تجري من أعينهم.. وتصعد فوق سطح الماء.. تتنفس في عجلة.. ثم لا تلبث أن تغيبك الأعماق.. في الأعماق نجاة.. في الأعماق دنيا واسعة وجميلة.. تواصل، وتواصل، ثم تصعد إلى سطح الماء.. لا قارب تجد ولا أضواء.. الليل وحده.. سواد الليل وسواد البحر.. وفي خضم الإرهاق تحاول أن تمد النظر بعيداً، تبحث عن نجمة عن قمر ما عن نور.. لكن لا شيء من ذلك كله... وبيديك ورجليك تخبط في اتجاهات مختلفة.. لكنك لا تعرف هل أنت تتقدم أو تتأخر.. وتظل تدور وتدور.. يزداد الليل سواداً، وتحس مفاصلك تتقطع إرهاقاً.. تتخدر، تترك جسمك ينزل تحت الماء قليلاً.. تصعد تتنفس ثم تنزل.. تصعد.. تنزل.. وتراهم.. ها هم تمتد نحوك أيديهم مفتوحة.. يقفون.. يهللون.. يبتسمون.. تصل إليهم.. تلامسهم.. تندمج فيهم.. وتغيب..‏

***‏

ورماك الموج إلى الشاطئ في الجهة الأخرى بعد يومين طوفت خلالهما فوق المياه الزرقاء، كان المساء، وكانت الشمس تنزل نحو صفحة البحر التي تحولت إلى لون قريب من الصفرة.. كنت تنام فوق الرمل هادئاً وجميلاً..‏

كان أطفال يمشون على الشاطئ، عندما رأوك جروا بسرعة.. ثم جاء آخرون.. كانوا رجالاً ونساءً.. وقفوا ينظرون إليك.. كنت تعلق في حزامك مجموعة من السكاكين.. فكرت.. أخذت حذرك قبل مغامرة البحر.. وقلت ربما ستهاجمني الأسماك الكبيرة، يجب أن أدافع عن نفسي.. لم تهاجمك الأسماك الكبيرة، ولا سمك القرش.. كنت نائماً على الرمل، وكانت السكاكين معلقة بحزامك.. وكان زبد البحر يتخلل شعر رأسك الجميل الأسود الذي يغطي نصف وجهك.. كانوا ينظرون إليك.. أترون؟ ها إني وفيت بعهدي وجئت إليكم.. يا أحبابي.. رمتني موجة البحر إلى شاطئكم بعد يومين طوفت خلالهما فوق المياه الرائعة الزرقاء.. انظروا.. انظروا في وجهي لتعرفوا الحقيقة