وأنت تركب الطائرة في اتجاه هذه المدينة النائية عن العاصمة، وقبل أن تنزل إلى شوارعها لم تكن تحمل في ذهنك أي إحساس معين، ولعله إذا كان هنالك إحساس ما فهو أنك كنت تشعر ببعض المتعة التي تنتاب الإنسان -عادة- عندما يكون في طريقه لاكتشاف بقعة جديدة من هذا العالم الكبير. إنها فرصة رائعة بدون شك أن تسافر في الطائرة داخل وطنك، أنت تحمل في نفسك إحساساً قوياً بالعزة والكرامة، ذلك لأنك تسافر في طائرة بلادك، وعلى حساب الدولة، كما أنك ستقيم في النزل الراقي وتتناول طعامك في المطعم الفخم دون أن تمد يدك إلى جيبك ولو مرة واحدة، والقضية هنا بالتأكيد ليست قضية اقتصادية، ولكن كون الدولة هي التي تتكفل بدعوتك ودفع كل تكاليف رحلتك وإقامتك معناه أنك ذو قيمة وأهمية كبيرتين وهو ما لم تكن أبداً توليه اهتماماً، من هنا جاء إحساسك بالمتعة وأنت تركب الطائرة متجهاً نحو هذه المدينة النائبة لإلقاء محاضرتك. حين نزلت من الطائرة كنت تلتفت إلى كل جهة، وتتفحص الوجوه لعل هناك من ينتظرك. أنت لا تعرف أحداً من رجال سلطة هذه المدينة، أو المكلفين بأمر الثقافة فيها، ولكن، ومهما يكن فلا بد أن هنالك من سيستقبلك، فقد ظهر اسمك في الجريدة وإلى جانبه عنوان المحاضرة التي ستلقيها، بالإضافة إلى تاريخ اليوم والساعة، ومكان المحاضرة. كل شيء واضح إذن، وبما أن تاريخ إلقاء محاضرتك هو مساء اليوم بالذات، وبما أن هنالك رحلة جوية واحدة في اليوم إلى هذه المدينة فإنهم لا بد سينتظرونك، فأنت ضيفهم قبل كل شيء، لذلك كنت تتفحص وجوه المستقبلين وخاصة أولئك الذين تبدو عليهم مظاهر المسؤولية، وحتى لو لم يستقبلك أحد المسؤولين، فإنهم سيرسلون على الأقل سائقاً لاستقبالك، ترى كيف يكون هذا السائق؟ وكيف أستطيع التعرف عليه؟ لا بد أنه سيصعب التعرف عليه بسهولة، والذي أتمناه هو أن يكون سائقاً متزناً، فسائقو سيارات الدولة هؤلاء معظمهم متهورون يريدون أن يحولوا السيارة إلى طائرة حربية أو صاروخ. خرجت إلى قاعة المطار الواسعة، ما زلت تفتش عن وجه ضائع بين الوجوه، هل هنالك وجه يفتش مثلك بين الوجوه، أم أنك الوحيد الذي يبحث بدون جدوى. لاحظت بعد قليل أن القبلات والمصافحات قد انتهت وإن القاعة الواسعة التي كانت مكتظة بالمسافرين قبل قليل قد صارت شبه خالية وإن الباقين القلائل إما أنهم عمال في المطار، وهم معروفون بألبستهم المتميزة، أو بعض أصحاب السيارات الذين أتعبوك بالسؤال عما إذا كنت تريد تاكسي، وإلى أين تريد أن تذهب. تأكدت أخيراً من أن لا أحد جاء لاستقبالك، وفكرت في نفسك بأن هذا ربما كان أفضل، فأولاً أنت بطبيعتك لا تحب الاستقبالات والمجاملات الكثيرة، وثانياً فإنك تريد أن تتمتع في صمت بالمناظر الطبيعية الجميلة وأنت في طريقك من المطار إلى المدينة، مع العلم أن المسافة بينهما لا تقل عن ثلاثين كيلو متراً كما قيل لك. اتجهت إلى باب القاعة الواسع والمؤدي إلى الشارع فوجدت الحافلة التي تربط بين المطار والمدينة ما تزال متوقفة، فاتجهت إليها بسرعة حتى لا تفوقك فتضطر إلى دفع أجرة الركوب مضاعفة في إحدى سيارات الأجرة مع العلم أن أصحاب هذه السيارات ما زالوا يغازلونك لعلك ترضى أخيراً، وخاصة أنهم رأوك تلبس بذلة زرقاء جديدة وقميصاً أبيض ناصعاً مع ربطة عنق تجمع بين اللونين الأسود والأحمر وحذاء بني اللون لبسته اليوم فقط، وتحمل في يدك محفظة دبلوماسية كبيرة توحي إلى جانب صلعتك التي كانت تمثل بالنسبة إلى بقية مساحة رأسك ما تمثله صحراء بلادنا بالنسبة إلى بقية أجزائها، كانت هيئتك بهذا كله توحي بأنك قد تكون على الأقل مدير مؤسسة، أو شركة أو رجل أعمال ناجحاً. أقلعت الحافلة.. جلست كعادتك بجانب إحدى النوافذ حتى تستطيع التفرج على الطبيعة التي تحبها كثيراً منذ صغرك، كنت تحس براحة كبيرة إذ لم يأت من يستقبلك ويقلقك، ثم لماذا الاستقبال وأنت تعرف عنوان النزل الذي ستسكن فيه فلجنة (الحفلات) في العاصمة سلمتك كل المعلومات، مع العلم أنه النزل السياحي الوحيد في هذه المدينة، كما سلمتك ورقة تحمل مصاريف الإقامة، وما عليك حين تصل إلا أن تقدم لهم هذه الورقة فتصبح من أهل الفندق، يا إلهي ما أروع النظام.. فلماذا إذن الاستقبالات والمجاملات والمتاعب؟ وخاصة أنني لا أحمل معي سوى محفظتي الدبلوماسية هذه، أنا دائماً أفضل عندما أسافر لمدة قصيرة أن أحمل هذه المحفظة حتى أحس براحة السفر أكثر. خرجت الحافلة من المطار، وكنت لا تغفل لحظة عن متابعة المناظر الطبيعية الجميلة، كلما رأيت هذه المناظر أحيت في نفسك ذكريات رائعة من أيام الطفولة الجميلة، عجيب أنت لا تشبع أبداً من حب الطبيعة والإعجاب بها، وخاصة الطبيعة الربيعية مثل هذه التي تبدل أمامك ألوانها في كل لحظة، كنت تحاول أحياناً أن تركز نظرك على شجرة معينة وتحاول أن تتفحص أوراقها، أو تحاول أن تركز على مجموعة من الأزهار، ولكن الحافلة التي تسرع لم تكن تسمح لك بذلك، وتمنيت لحظتها لو تتوقف هذه الحافلة لتخرج منها، وتهيم وحدك بين الأشجار والأزهار وتغيب بعيداً مع الصمت، لكن هيهات، فها هي الحافلة قد وصلت إلى طيف المدينة، وبعد لحظات كنت تنزل منها وتسأل عن الفندق الذي وجدته دون كبير عناء: عندما سلموك المفتاح صعدت إلى الدرج الثاني فقط لتتعرف على غرفتك، وتضع فيها حقيبتك، إذ أنك لم تكن تشعر بأي تعب من السفر على الرغم من أنه استغرق منذ خروجك من بيتك في العاصمة حتى الآن عدة ساعات، ولكنك تعودت ألا تتعب أبداً عندما تسافر إلى مكان تراه لأول مرة مهما كان الجهد الذي تبذله، لذلك فإنك بعدما تمددت على السرير حوالي خمس دقائق قررت أن تخرج لكي تتعرف على المدينة، فالساعة ما تزال الرابعة والمحاضرة لن تكون إلا في الثامنة، وأنت ستعود إلى العاصمة غداً صباحاً، هذه أحسن فرصة إذن لكي تتعرف على المدينة. قبل خروجك بلحظات توقفت قليلاً لتفكر مع نفسك بأنك ربما ذهبت من هناك مباشرة بعد جولتك إلى قاعة المحاضرة، ولذلك فكرت بأنك من الأفضل لو حملت معك محفظتك، فالمحفظة تحمل المحاضرة التي ستلقيها: (الثورة التحريرية في القصة الجزائرية المعاصرة). فكرة حسنة إذن أن تحمل معك المحفظة والمحاضرة، وخاصة أن مثل هذه المحاضرة يصعب ارتجالها وذلك لسببين: -الأول لاحتياجك للإكثار من الأمثلة. -والثاني، وهو الأهم، لضعف ذاكرتك المعروف لدى الجميع: وفكرت بعدما خرجت من الفندق أن تحاول أولاً التعرف على مديرية الثقافة في المدينة، فكان عليك أن تتجه إلى مقر الولاية، ولم تجد صعوبة في التعرف عليه، فالولاية في أية مدينة يعرفها جميع الناس، كباراً وصغاراً رجالاً ونساء، فهي المقر الأعلى للحكومة في عاصمة الولاية، أو هي الحكومة المصغرة. عندما وصلت إلى باب مقر الولاية، عند ذلك فقط تذكرت أنه الخميس مساء، فهل تجد في مثل هذا الوقت من يدلك على ما تريد؟ مع ذلك وجدت رجلين اثنين في مكتب صغير بجانب باب الدخول الرئيسي، ربما هما بوابان أو موظفان، المهم لعل هذين الرجلين يدلانني على مديرية الثقافة، كانا يلعبان (الضامة) أحدهما في عمر الأب والآخر في عمر ابنه، ولكنهما يبدوان منسجمين تماماً، عندما كنت تدخل المكتب كان الأب يقول للابن: -إيه.. يا الله.. تحرك.. العب.. قضيت عليك.. هيه.. بينما كان الآخر يمسك ذقنه بيده ويتأمل أحجار (الضامة) في صمت عميق، والتفتا إليك معاً عندما وقفت بالباب مسلماً: -السلام عليكم. كانت علامات استفهام واضحة في أعينهما، لم تنتظر الرد وأضفت: -رجاء، أين مديرية الثقافة؟ نظر كل منهما إلى وجه الآخر، وعلامة الاستفهام ما تزال واضحة في الملامح: -مديرية.. مديرية ماذا؟ -مديرية الثقافة.. كولتير كولتير، ديريكسيون دولاكولتير، رددت من جديد. -آه كولتير، ردد الشاب. -نعم.. نعم.. هؤلاء الذين يهتمون بالمحاضرات والنشاطات المختلفة، و.. ولم تعرف ماذا تضيف أيضاً إذ أحسست أنك ربما بتوضيحك ستزيذ الموضوع غموضاً، وخاطب الشاب الرجل الشيخ الذي يجلس أمامه فاغراً فاه: -يمكن السينما.. -السينما؟ لا.. لا -لا أخي الله غالب.. ولكن.. ووقف الشيخ، وبعد لحظات من التفكير نصحك بالذهاب إلى ساحة المدينة، حيث مقر البلدية، فهناك عدة مكاتب ومصالح، ولا بد أن ما تبحث عنه يوجد هناك، وفكرت أن نصيحة الشيخ لها أهميتها على كل حال، وعدت تلوم نفسك لأنك لم تذهب إلى الساحة الرئيسية في المدينة من البداية، وفضلت المجيء إلى مقر الولاية على الرغم من بعده، لا يهم أنت على كل حال لا تخسر شيئاً عندما تتعرف على المدينة وعلى مرافقها، خاصة وأن موعد المحاضرة ما يزال بعيداً. عندما وصلت ساحة المدينة سألت أحدهم عن مديرية الثقافة، فكرت أنه لا بد أن يكون معلم مدرسة حسبما يظهر من خلال ملامحه، ولذلك فلا بد أنه يعرف مديرية الثقافة، ودلك هذا على شارع جانبي صغير، هناك يوجد متحف المدينة، وقبالته يوجد مكتب ربما هو ما تبحث عنه، وزاد فنصحك بأن تسأل موظفي المتحف فهم يعرفون بدون شك مقر مديرية الثقافة. شكرته على نصائحه الذكية، وواصلت، كان المكتب المقابل للمتحف هو بالفعل مديرية الثقافة وكان متواضعاً جداً، تماماً مثل تواضع الثقافة في هذه المدينة، بناية أرضية قديمة وصغيرة، متآكلة الجدران، باب صغير أيضاً، والمهم فقد كان مثل أي بيت متواضع في هذه المدينة. بعد اجتيازك الباب الخارجي وجدت نفسك في صحن مربع الشكل، وفي إحدى جهاته الأربع هناك باب يؤدي إلى مكتب. دخلت المكتب فوجدت كاتبتين، عرفت من خلال اهتمامهما واحترامهما الزائد لك أنهما عرفتا من أول نظرة إليك أنك لست من أهل المدينة، وفكرت في البداية أن هذا الاحترام الزائد لا بد كان بسبب كونهما يعرفان أنك الأستاذ المحاضر المنتظر، ولكن خاب ظنك بعدما قدمت نفسك إذ اكتشفت أنهما لا تعرفان عنك ولا عن موضوع المحاضرة شيئاً، صحيح هو يوم العلم وصحيح أن الناس جميعاً يعرفون أنه يوم العلم، وصحيح أن هناك برنامجاً حافلاً غنياً هذا المساء، وستحضر هذا البرنامج السلطات المحلية كلها، لكن المحاضرة وموضوعها، هذا موضوع آخر، على كل حال قالت لي إحدى الكاتبتين، إن مدير الثقافة موجود، ولا بد أنه يعرف عن الموضوع أكثر مما نعرف، واتجهت إلى باب يفصل بين مكتب الكاتبتين ومكتب آخر فدقته دقاً لطيفاً وطلبت لي الإذن بالدخول، ودخلت مكتب مدير الثقافة فوجدت شاباً لطيفاً ومؤدباً ومتواضعاً، كما عرفت منه أنهم اتصلوا به من العاصمة فيما يخص المحاضرة، ثم أضاف بعد لحظة تفكير أن هذه أول محاضرة في المدينة، ومع ذلك لا يهم كما قال، فالمحاضرة مبرمجة ضمن النشاط الحافل لهذه الأمسية، وبعد الاتفاق على موعد اللقاء مساء قبل المحاضرة خرجت لمزيد من التعرف على المدينة. كنت وأنت تسير وحيداً في الشوارع والساحات تركز نظرك خاصة على وجوه الناس وملامحهم لعلك تستنتج شيئاً من وراء هذه النظرات الضائعة القلقة، ترى ما هي اهتمامات هؤلاء الناس الذين يمرون بالقرب منك، يحملون في أيديهم بعض الحاجيات، وكان كثير منهم يرتدون ألبسة تقليدية، ويحملون في أيديهم عصياً كعادة أهل هذه المنطقة، لاحظت أن ما يكثر في هذه المدينة هو المتاجر والمقاهي، وإذا كانت بعض المتاجر تنتظم أمام أبوابها طوابير طويلة فإن معظم المقاهي كانت تجري فيها معارك كبرى لا بداية لها ولا نهاية، هي معارك (الضامة) (والد ومينو) و(الروندة)، لقد كانت المقاهي مكتظة إلى درجة أن الإنسان لا يكاد يجد فيها مكاناً واحداً للجلوس وعلى الرغم من كثرتها، وعندما دخلت إحداها لتشرب شاياً فإنك اضطررت لشربه واقفاً، وربما كان ذلك أفضل إذ لم يكن في وسعك المكوث في هذا المقهى أكثر من خمس دقائق لكثرة الضوضاء التي لا يحتملها إلا المستغرق في اللعب. خرجت من المقهى تتمشى في الطرقات والساحات. كنت تسير وحيداً مع أفكارك ببذلتك الزرقاء وحقيبتك الدبلوماسية، كنت تلاحظ أن المارة كثيراً ما يلتفتون إليك يتفحصونك وهم يمرون بجانبك. ماذا هنالك؟ لا بد أن هيئتك وشكلك وأنت تحمل هذه المحفظة الملعونة، لا بد أن كل هذا جعلك تبدو متميزاً عن الآخرين، وملفتاً للنظر، وصرت تمشي وأنت تشعر بكثير من الحرج، كما شعرت بأنك غريب في هذه المدينة، خاصة وأنك لم تر حتى الآن فرداً واحداً يحمل في يده جريدة أو مجلة أو كتاباً، ترى ما هي هموم هؤلاء الناس، واهتماماتهم؟ وأوشكت أن تلقي على بعضهم هذا السؤال، ولكنك خشيت لو أنك فعلت ذلك لازددت غربة أو لربما اعتبرت في نظرهم متكبراً، المهم، بدأت فعلاً تحس هذه الغربة، وبدأت تفكر في موضوع المحاضرة، ترى ماذا ستقول في هذه المحاضرة؟: (موضوع الثورة التحريرية في القصة الجزائرية المعاصرة) لماذا اخترت هذا الموضوع؟ ولكن المسؤولين عن الثقافة هم الذين اتفقوا معك عليه، إذن هو موضوع صالح للإلقاء، على كل حال الثورة التحريرية معروفة ومفهومة، ولكن القصة ما دخل القصة؟ ستبدأ أولاً فتتحدث قليلاً عن البدايات الأولى للقصة الجزائرية، ثم تحدثهم عن فنيات القصة القصيرة وتطورها مع ظهور الثورة التحريرية، ثم تحدثهم عن الدور الذي قامت به القصة في الثورة التحريرية، وتقيم بعض الموازنة بين كاتب وآخر مركزاً على الجوانب الفنية عند كتاب القصة المعروفين، ستتحدث عن الأبطال، وعن لغة القصة والحوار، وعن عقدة القصة وتطور حدثها وعن خاتمتها، الخ.. وفي جانب من إحدى الساحات لفتت انتباهك مجموعة من الشبان يكونون حلقة ويتابعون في صمت رجلاً يقف في وسط الحلقة بلباسه التقليدي وهويغني بصوت جميل قصة شعبية لعلها من قصص بني هلال أو لعلها قصة عنترة العبسي، أو الإمام علي، كان يجلس بالقرب منه على الأرض رجل آخر يحمل في يده قصبة ينفخ فيها أنغاماً جميلة يرافق بها كلمات المغني وبجانب الرجل الجالس طفل لا يتجاوز عمره الخامسة عشرة يدق على بندير دقات متوازنة مع صوت القصبة، وقفت دقائق تتفرج على المنظر وتسمع الأنغام الجميلة المنسجمة وقد أعجبك اندماج المتفرجين اندماجاً كاملاً في جو القصة التي كان المغني يجمع في أدائها بين الحكاية والغناء في كثير من الإتقان والانسجام، ثم تركت هذا الجمع الجميل لتواصل السير في اتجاه الساحة الكبيرة للمدينة. أين يوجد مقر البلدية، كنت تتعرف على طريقك إلى هذه الساحة عن طريق نغمات الموسيقى القوية المنبعثة من مكبرات الصوْت التي نصبت هنا وهناك في أطراف الساحة.. اقتربت أكثر من الساحة، وقد عدت من جديد تفكر في محاضرتك، القصة؟ وماذا ستقول عن القصة؟ يبدو أن الناس هنا سعداء بحياتهم، منهم من يلعب (الدومينو) أو (الضامة) أو (الورق)، ومنهم من يجري في كل اتجاه، وفكرت أنك ربما جئت لتفسد عليهم راحتهم وسعادتهم، ثم على الأقل لو اخترت موضوعاً آخر، كان عليك أن تحدثهم عن الأمير عبد القادر أو ابن باديس- كما جرت العادة- أو تقدم لهم حديثاً دينياً، مثلاً، كل هذه الأمور يمكنهم أن يفهموها وينسجموا معها وأما القصة.. آه، لقد أخطأت فعلاً عندما قررت المجيء في هذه المهمة، ولكن ما العمل؟ لقد جئت فعلاً وكل شيء دفع لك من طرف الدولة، تذكرة السفر ذهاباً وإياباً، وأجرة الإقامة في نزل فخم، عليك إذن أن تؤدي واجبك كاملاً حتى النهاية.. كنت مستغرقاً في التفكير عندما توقفت الموسيقى المنبعثة من مكبرات الصوت، وانطلق صوت قوي يعلن: أيها المواطنون الكرام، إليكم هذا البلاغ الهام: (بمناسبة إحياء يوم العلم، في ذكرى المغفور له المرحوم الإمام ابن باديس سينظم مساء هذا اليوم في قاعة الحفلات حفل ساهر متنوع، ابتداء من الساعة الثامنة، ولعلمكم فإن الدخول سيكون مجاناً، فهلموا جميعاً لحضور هذا الحفل). يتوقف الصوت الجهوري، لتعود الموسيقى الصاخبة من جديد.. هكذا إذن، أنت ضمن هذا الحفل الساهر.. وفيما أنت واقف في وسط ساحة البلدية تفكر في العودة إلى النزل ملغياً بذلك المحاضرة إذا بأحد الشبان يقف بجانبك مسلماً: -عفواً، أنت الأستاذ المحاضر؟ ودارت في ذهنك أفكار سريعة متناقضة، ولكنك كبتها، ووجدت نفسك تجيب بكل هدوء: -نعم -أهلاً بك، الجماعة يبحثون عنك، الرجاء أن تذهب معي إلى مقر البلدية. عند ذلك إزددت تأكداً أنك بهيئتك ومحفظتك كنت تظهر غريباً في هذه المدينة، فهذا الشاب لم يسبق لك أن رأيته أو تعرفت عليه، ومع ذلك تعرف عليك بسهولة، وتبعته إلى مقر البلدية بدون مناقشة، قدمك أولاً إلى موظف في أحد المكاتب، ثم رافقك هذا إلى رئيس البلدية، تعرف كل منكما على الآخر، ثم بدأتما تتحدثان عن المناسبة، وعندما سألك عن موضوع محاضرتك وجدت نفسك محرجاً، وترددت قليلاً قبل أن تقول له بأنها تبحث موضوع الثورة التحريرية في القصة الجزائرية، ورأيته ينظر إليك وعلامة استفهام واضحة على جبهته إذ يبدو أنه فهم الجزء الأول من العنوان (الثورة التحريرية)، ولم يستطع استيعاب الجزء الثاني (القصة الجزائرية). -يعني تاريخ الثورة التحريرية؟ قال لك ذلك متسائلاً وبعدما بذل كثيراً من الجهد حسبما يبدو في البحث عن محاولة للفهم، وتهرباً من الدخول في مناقشة قد تكون بيزنطية وعقيمة، أجبته بأنك بالفعل ستركز على تاريخ الثورة التحريرية، ونظراً إلى أنه كان من قدماء المجاهدين بدليل الوسام الصغير الذي كان معلقاً في الجانب الأيسر من سترته، فقد تحمس للموضوع كثيراً، وشكرك على حسن الاختيار، وإن كان أحد الحاضرين قد فضل لو أن المحاضرة كانت في موضوع الإصلاح، أو عن الإمام عبد الحميد ابن باديس بالذات، وأنقذك من مناقشة لا مخرج منها مدير الثقافة، الذي أشار إلى أن على الجميع الاتجاه إلى قاعة الحفلات لأن الوقت قد حان: كيف تسير معهم وأنت في غاية الصمت، بينما كانت الموسيقى الصاخبة تتوقف بين حين وآخر ليتم الإعلان من جديد عن الحفل الساهر. وكنت وأنت تصل قاعة الحفلات على وشك الإعلان عن رغبتك في إعفائك من إلقاء المحاضرة نظراً إلى أنها غير مناسبة، ولكنك فكرت مرة أخرى أنك ربما ستعتبر متكبراً في نظرهم إذا ما فعلت ذلك، ولهذا فضلت الصبر ومقاومة رغبتك وإحساسك.. كانوا قد أعلموك قبل قليل بأن محاضرتك ستسبق بقطعة موسيقية تقليدية، وهذا حسب التقليد المعمول به في هذه المدينة، حيث يستهلون كل نشاط بهذه القطعة الموسيقية التي لا تزيد مدتها عن عشر دقائق، كما أكدوا لك، ورأيت ذلك أمراً عادياً إذ من المهم ومن الجميل جداً، بل ومن الواجب أيضاً أن نخلق تقاليد من فننا وتراثنا، إلا أن القلق بدأ يسيطر عليك عندما طال العزف، وعندما مضت العشر دقائق لتصبح أكثر من عشرين، وعندما اتبعت القطعة المقصودة بقطعة ثانية، ثم بمجموعة من الأغاني أداها مجموعة من الأطفال، ثم رقصة فلكلورية صاخبة، كان يصلك وقعها فقط، ولم تتح لك فرصة التمتع بالتفرج عليها وعلى غيرها، إذ أن حضرات المشرفين على الحفل تركوك وحدك أمانة في أحد المكاتب الخلفية في انتظار فرصة عمرك التي كنت تنتظرها بفارغ الصبر. وعندما قلقت بعدما دام انتظارك أكثر من ثمانين دقيقة، خرجت إلى قاعة مجاورة للمكتب كان يملأها مجموعة من الشبان، بعضهم مشغول بتحليل مباريات لكرة القدم، وبعضهم يجرب آلته الموسيقية عسى ألا تخذله عندما يحين دوره، بينما كان بعضهم الآخر مكتفياً بالتدخين والاستماع.. اقتربت من أحد الشبان وطلبت منه سيجارة، جعلت تدخنها في نهم مع أنك في الأصل لست مدخناً محترفاً، وجعلت تدور في القاعة، ملتفتاً من حين لآخر إلى الباب الخلفي الذي يدخل منه الفنانون والممثلون إلى المنصة، فكرت أكثر من مرة أن تترك كل شيء وتعود إلى الفندق بسلام، ولكنك كنت تقاوم هذه الفكرة لسبب واحد فقط وهو ألا تعطيهم الفرصة لاتهامك بأمور أنت بريء منها، وقبل أن تنهي سيجارتك التي كان لها دورها في تهدئة أعصابك إلى حد ما جاءك أحد منظمي الحفل مسرعاً: -لقد جاء دورك.. كان يظن أنك ستهجم عليه لتقبله في حرارة لهذه البشرى السارة، لذلك حط عينيه قليلاً، وأطرق برأسه عندما رأى بأنك لم تبد كبير اهتمام لهذه البشرى، وفكرت آنذاك أنهم لو لم يروك في تلك الحالة العصبية التي كانت بدون شك واضحة على ملامح وجهك لقدموا فرقاً أخرى تعزف وتغني وترقص، وخلفوك إلى منتصف الليل أو ربما لكانوا نسوك تماماً.. حملت محفظتك واتجهت إلى المنصة التي وجدت عليها طاولة وكرسياً ومع العلم أن الستار الذي يفصل بين المنصة والجمهور كان منسدلاً.. وجاء أحد منظمي الحفل يسألك عن المدة بالضبط التي ستستغرقها محاضرتك، ثم أقترح قبل أن تجيبه بأنه من المناسب جداً لو استغرقت ربع ساعة على الأكثر، كما كتبوا في برنامج الحفل، فأجبته بأنك أنت بدورك قررت ربع ساعة بالضبط، ربما صدفة.. النيران كانت بداخلك ملتهبة، وأنت تبتسم له في غاية اللطف، وأخيراً فتح جانب فقط من الستار خرج منه مقدم الحفل الذي اختفى عن نظرك وصار مواجهاً للجمهور ليعلن في كثير من الفخر والاعتزاز والثقة بالنفس، بينما كانت تصدر من الجمهور تصفيرات وتعليقات معظمها غير مؤدب، فقد كان هذا الجمهور يتكون كما عرفت بعد أن رفع الستار بينك وبينه في غالبيته من الأطفال المراهقين بالإضافة إلى بعض رجال السلطات المحلية الذين كانوا يحجزون الصف الأول، والذين لم يكن عددهم يزيد عن عشرة أفراد.. قال مقدم الحفل وهو يموسق صوته بشكل في غاية التكلف لعله يجد صدى في الجمهور المنشغل عنه بالتهريج: وبعد أيها الأخوة الحاضرون، أيها الأخوة الأعزاء، ها نحن ننتقل بكم من دنيا الفن، دنيا الرقص والغناء والعزف إلى دنيا الفكر، وهكذا أيها الإخوة، وهكذا ترون أن سهرتنا الليلة في غاية الروعة، في غاية التنوع، إننا سنقضي وقتاً ممتعاً وجميلاً ورائعاً مع محاضرة قيمة تنقلنا إلى ماضينا المجيد، ماضي الجزائر الثوري، ماضي المليون ونصف المليون شهيد، أيها الإخوة، سنترككم الآن مع الأستاذ المحاضر، ومع المحاضرة القيمة التي ستدوم ربع ساعة). اتجه مقدم الحفل بعد ذلك إلى الباب الخلفي للخروج وهو يطوي الورقة التي كان قبل قليل يقرأ منها ليضعها في جيبه، وشكره أحد الواقفين بالباب الخلفي بقوله: -أحسنت، بارك الله فيك.. والله أنت مكانك في الإذاعة، وليس هنا.. عندما فتحت الستارة صفق بعض الأفراد، كما صدرت بعض التعليقات متنوعة من جهات مختلفة ونظرت في الوجوه، حاولت أن أتعرف على جمهور القاعة ولو في بعض العجالة، أطفال مراهقون في معظمهم، وفي الصف الأول فقط يجلس شبان وكهول محترمون هم السلطات المحلية.. وتذكرت عندما دخلت قبل ساعات إلى المكتبة الوحيدة في المدينة كما علمت من صاحبها ورأيت بعض الكتب الهامة، ومن بينها الروايات والقصص التي فقدت من مكتبات العاصمة رأيتها وقد غطى الغبار أغلفتها.. إذن من أين تبدأ كلامك؟ تحدثهم عن القصة؟ وما هي القصة؟ استغرق تفكيرك في هذه الأمور لحظات قليلة، ومع ذلك كانت فرصة لمزيد من التصفير والشغب، من طرف الصفوف الخلفية خاصة، وفي الأخير وجدت نفسك مضطراً أن تتحدث حتى تسكت المشاغبين على الأقل: -أيها الأخوة.. كدت تضيف: أيتها الأخوات، لكنك استدركت عندما جلت بنظرك جولة سريعة في كل أرجاء القاعة، فلم تلاحظ وجود امرأة واحدة فأضفت: أيها الأخوة، مرة ثانية، ثم واصلت: أريد قبل كل شيء أن أعبر عن فرحي الكبير، فأنا أزور هذه المدينة لأول مرة.. كنت تظن أنهم سيسكتون بمجرد أن تبدأ الكلام إلا أن الهرج والشغب ازدادا عن السابق، ويبدو أنهم كانوا يحتجون على هذا الخلل وهذا النشاز الذي حدث في برنامج الحفل.. وفكرت آنذاك لو تقوم فتحكي لهم نكتة، أو ترقص لهم رقصة معبرة، أو حتى تغني لهم أغنية ما، أية أغنية، لعلهم يسكتّون، ولكنك وللأسف الشديد لا تحسن النكتة ولا الرقص ولا الغناء، أيها الأخوة.. ورأيت أحدهم يرقص في آخر القاعة، كان يتمايل في حركات منتظمة، لفتت إليه أنظار جماعة من أصحابه، وغير أصحابه الذين كانوا يصفقون له في غاية الحماس، مما جعل السلطات المحلية تلتفت بكامل أفرادها إلى الوراء مظهرة كل الاستنكار.. واصلت كأنك لم تر، ولم تسمع شيئاً بينما كانت مجموعة أخرى على يمين القاعة تحيط بأحدهم في غاية الانتباه، ثم من حين لآخر تصدر من أفرادها قهقهات عالية تلفت بدورها انتباه السلطات المحلية، إذ يبدو أن الأخ الذي لم يكن يظهر من وسط الجماعة كان موهوباً في حكاية النكات.. وبالإضافة إلى هؤلاء وأولئك كان هناك الواقف والماشي والداخل والخارج الخ: الخ.. أيها الإخوة.. قلت ذلك وعلى وجهك تظهر ابتسامة لطيفة، وفي داخلك تغلي براكين لا يطفيء لهيبها النيل ولا ثلوج سيبيريا.. أيها الإخوة، إن المحاضرة التي أعددتها تتطلب وقتاً طويلاً ومناسباً، وأنا لا أريد أن أثقل عليكم، أن أنقلكم من جو المرح إلى جو الفكر، لا أريد أن أزعجكم بالكلام الثقيل، فقط اسمحوا لي أن أقول كلمة قصيرة: إن ما أتمناه أيها الإخوة أن يتحول جزء من المقاهي العديدة التي يلتصق بعضها ببعض في شوارع مدينتكم، إلى مكتبات وأن يتحول الجزء الآخر إلى قاعات لمحو الأمية، لعلنا أيها الإخوة عند ذلك فقط نستطيع أن نلتقي في محاضرة.. كنت تتحدث وأنت تركز نظرك بالذات على السلطات المحلية.. أيها الإخوة، أرجو المعذرة، ولعلني سأعود في ظرف آخر مناسب لألقي محاضرتي، فإلى اللقاء. عندما كنت خارجاً من الباب الخلفي ألتقيت بأحد منظمي الحفل فأحتج مظهراً اللطف بأن محاضرتك كانت قصيرة جداً، خمس دقائق عوض خمس عشرة دقيقة، فرددت عليه بأن هذا يكفي اليوم، وربما سنلتقي مرة أخرى، وودعته شاكراً ومشجعاً ومتمنياً مزيداً من الاهتمام بالنشاط الثقافي، وانصرفت.. وقبل أن تبتعد عن قاعة الحفلات التابعة لمديرية الثقافة، كانت قد عادت إليها الموسيقا والغناء والرقص.. عادت الحيوية.. عاد الانسجام التام..
وأنت تركب الطائرة في اتجاه هذه المدينة النائية عن العاصمة، وقبل أن تنزل إلى شوارعها لم تكن تحمل في ذهنك أي إحساس معين، ولعله إذا كان هنالك إحساس ما فهو أنك كنت تشعر ببعض المتعة التي تنتاب الإنسان -عادة- عندما يكون في طريقه لاكتشاف بقعة جديدة من هذا العالم الكبير.
إنها فرصة رائعة بدون شك أن تسافر في الطائرة داخل وطنك، أنت تحمل في نفسك إحساساً قوياً بالعزة والكرامة، ذلك لأنك تسافر في طائرة بلادك، وعلى حساب الدولة، كما أنك ستقيم في النزل الراقي وتتناول طعامك في المطعم الفخم دون أن تمد يدك إلى جيبك ولو مرة واحدة، والقضية هنا بالتأكيد ليست قضية اقتصادية، ولكن كون الدولة هي التي تتكفل بدعوتك ودفع كل تكاليف رحلتك وإقامتك معناه أنك ذو قيمة وأهمية كبيرتين وهو ما لم تكن أبداً توليه اهتماماً، من هنا جاء إحساسك بالمتعة وأنت تركب الطائرة متجهاً نحو هذه المدينة النائبة لإلقاء محاضرتك.
حين نزلت من الطائرة كنت تلتفت إلى كل جهة، وتتفحص الوجوه لعل هناك من ينتظرك. أنت لا تعرف أحداً من رجال سلطة هذه المدينة، أو المكلفين بأمر الثقافة فيها، ولكن، ومهما يكن فلا بد أن هنالك من سيستقبلك، فقد ظهر اسمك في الجريدة وإلى جانبه عنوان المحاضرة التي ستلقيها، بالإضافة إلى تاريخ اليوم والساعة، ومكان المحاضرة. كل شيء واضح إذن، وبما أن تاريخ إلقاء محاضرتك هو مساء اليوم بالذات، وبما أن هنالك رحلة جوية واحدة في اليوم إلى هذه المدينة فإنهم لا بد سينتظرونك، فأنت ضيفهم قبل كل شيء، لذلك كنت تتفحص وجوه المستقبلين وخاصة أولئك الذين تبدو عليهم مظاهر المسؤولية، وحتى لو لم يستقبلك أحد المسؤولين، فإنهم سيرسلون على الأقل سائقاً لاستقبالك، ترى كيف يكون هذا السائق؟ وكيف أستطيع التعرف عليه؟ لا بد أنه سيصعب التعرف عليه بسهولة، والذي أتمناه هو أن يكون سائقاً متزناً، فسائقو سيارات الدولة هؤلاء معظمهم متهورون يريدون أن يحولوا السيارة إلى طائرة حربية أو صاروخ.
خرجت إلى قاعة المطار الواسعة، ما زلت تفتش عن وجه ضائع بين الوجوه، هل هنالك وجه يفتش مثلك بين الوجوه، أم أنك الوحيد الذي يبحث بدون جدوى.
لاحظت بعد قليل أن القبلات والمصافحات قد انتهت وإن القاعة الواسعة التي كانت مكتظة بالمسافرين قبل قليل قد صارت شبه خالية وإن الباقين القلائل إما أنهم عمال في المطار، وهم معروفون بألبستهم المتميزة، أو بعض أصحاب السيارات الذين أتعبوك بالسؤال عما إذا كنت تريد تاكسي، وإلى أين تريد أن تذهب.
تأكدت أخيراً من أن لا أحد جاء لاستقبالك، وفكرت في نفسك بأن هذا ربما كان أفضل، فأولاً أنت بطبيعتك لا تحب الاستقبالات والمجاملات الكثيرة، وثانياً فإنك تريد أن تتمتع في صمت بالمناظر الطبيعية الجميلة وأنت في طريقك من المطار إلى المدينة، مع العلم أن المسافة بينهما لا تقل عن ثلاثين كيلو متراً كما قيل لك.
اتجهت إلى باب القاعة الواسع والمؤدي إلى الشارع فوجدت الحافلة التي تربط بين المطار والمدينة ما تزال متوقفة، فاتجهت إليها بسرعة حتى لا تفوقك فتضطر إلى دفع أجرة الركوب مضاعفة في إحدى سيارات الأجرة مع العلم أن أصحاب هذه السيارات ما زالوا يغازلونك لعلك ترضى أخيراً، وخاصة أنهم رأوك تلبس بذلة زرقاء جديدة وقميصاً أبيض ناصعاً مع ربطة عنق تجمع بين اللونين الأسود والأحمر وحذاء بني اللون لبسته اليوم فقط، وتحمل في يدك محفظة دبلوماسية كبيرة توحي إلى جانب صلعتك التي كانت تمثل بالنسبة إلى بقية مساحة رأسك ما تمثله صحراء بلادنا بالنسبة إلى بقية أجزائها، كانت هيئتك بهذا كله توحي بأنك قد تكون على الأقل مدير مؤسسة، أو شركة أو رجل أعمال ناجحاً.
أقلعت الحافلة.. جلست كعادتك بجانب إحدى النوافذ حتى تستطيع التفرج على الطبيعة التي تحبها كثيراً منذ صغرك، كنت تحس براحة كبيرة إذ لم يأت من يستقبلك ويقلقك، ثم لماذا الاستقبال وأنت تعرف عنوان النزل الذي ستسكن فيه فلجنة (الحفلات) في العاصمة سلمتك كل المعلومات، مع العلم أنه النزل السياحي الوحيد في هذه المدينة، كما سلمتك ورقة تحمل مصاريف الإقامة، وما عليك حين تصل إلا أن تقدم لهم هذه الورقة فتصبح من أهل الفندق، يا إلهي ما أروع النظام.. فلماذا إذن الاستقبالات والمجاملات والمتاعب؟ وخاصة أنني لا أحمل معي سوى محفظتي الدبلوماسية هذه، أنا دائماً أفضل عندما أسافر لمدة قصيرة أن أحمل هذه المحفظة حتى أحس براحة السفر أكثر.
خرجت الحافلة من المطار، وكنت لا تغفل لحظة عن متابعة المناظر الطبيعية الجميلة، كلما رأيت هذه المناظر أحيت في نفسك ذكريات رائعة من أيام الطفولة الجميلة، عجيب أنت لا تشبع أبداً من حب الطبيعة والإعجاب بها، وخاصة الطبيعة الربيعية مثل هذه التي تبدل أمامك ألوانها في كل لحظة، كنت تحاول أحياناً أن تركز نظرك على شجرة معينة وتحاول أن تتفحص أوراقها، أو تحاول أن تركز على مجموعة من الأزهار، ولكن الحافلة التي تسرع لم تكن تسمح لك بذلك، وتمنيت لحظتها لو تتوقف هذه الحافلة لتخرج منها، وتهيم وحدك بين الأشجار والأزهار وتغيب بعيداً مع الصمت، لكن هيهات، فها هي الحافلة قد وصلت إلى طيف المدينة، وبعد لحظات كنت تنزل منها وتسأل عن الفندق الذي وجدته دون كبير عناء:
عندما سلموك المفتاح صعدت إلى الدرج الثاني فقط لتتعرف على غرفتك، وتضع فيها حقيبتك، إذ أنك لم تكن تشعر بأي تعب من السفر على الرغم من أنه استغرق منذ خروجك من بيتك في العاصمة حتى الآن عدة ساعات، ولكنك تعودت ألا تتعب أبداً عندما تسافر إلى مكان تراه لأول مرة مهما كان الجهد الذي تبذله، لذلك فإنك بعدما تمددت على السرير حوالي خمس دقائق قررت أن تخرج لكي تتعرف على المدينة، فالساعة ما تزال الرابعة والمحاضرة لن تكون إلا في الثامنة، وأنت ستعود إلى العاصمة غداً صباحاً، هذه أحسن فرصة إذن لكي تتعرف على المدينة.
قبل خروجك بلحظات توقفت قليلاً لتفكر مع نفسك بأنك ربما ذهبت من هناك مباشرة بعد جولتك إلى قاعة المحاضرة، ولذلك فكرت بأنك من الأفضل لو حملت معك محفظتك، فالمحفظة تحمل المحاضرة التي ستلقيها: (الثورة التحريرية في القصة الجزائرية المعاصرة).
فكرة حسنة إذن أن تحمل معك المحفظة والمحاضرة، وخاصة أن مثل هذه المحاضرة يصعب ارتجالها وذلك لسببين:
-الأول لاحتياجك للإكثار من الأمثلة.
-والثاني، وهو الأهم، لضعف ذاكرتك المعروف لدى الجميع:
وفكرت بعدما خرجت من الفندق أن تحاول أولاً التعرف على مديرية الثقافة في المدينة، فكان عليك أن تتجه إلى مقر الولاية، ولم تجد صعوبة في التعرف عليه، فالولاية في أية مدينة يعرفها جميع الناس، كباراً وصغاراً رجالاً ونساء، فهي المقر الأعلى للحكومة في عاصمة الولاية، أو هي الحكومة المصغرة.
عندما وصلت إلى باب مقر الولاية، عند ذلك فقط تذكرت أنه الخميس مساء، فهل تجد في مثل هذا الوقت من يدلك على ما تريد؟ مع ذلك وجدت رجلين اثنين في مكتب صغير بجانب باب الدخول الرئيسي، ربما هما بوابان أو موظفان، المهم لعل هذين الرجلين يدلانني على مديرية الثقافة، كانا يلعبان (الضامة) أحدهما في عمر الأب والآخر في عمر ابنه، ولكنهما يبدوان منسجمين تماماً، عندما كنت تدخل المكتب كان الأب يقول للابن:
-إيه.. يا الله.. تحرك.. العب.. قضيت عليك.. هيه..
بينما كان الآخر يمسك ذقنه بيده ويتأمل أحجار (الضامة) في صمت عميق، والتفتا إليك معاً عندما وقفت بالباب مسلماً:
-السلام عليكم.
كانت علامات استفهام واضحة في أعينهما، لم تنتظر الرد وأضفت:
-رجاء، أين مديرية الثقافة؟
نظر كل منهما إلى وجه الآخر، وعلامة الاستفهام ما تزال واضحة في الملامح:
-مديرية.. مديرية ماذا؟
-مديرية الثقافة.. كولتير كولتير، ديريكسيون دولاكولتير،
رددت من جديد.
-آه كولتير،
ردد الشاب.
-نعم.. نعم.. هؤلاء الذين يهتمون بالمحاضرات والنشاطات المختلفة، و.. ولم تعرف ماذا تضيف أيضاً إذ أحسست أنك ربما بتوضيحك ستزيذ الموضوع غموضاً، وخاطب الشاب الرجل الشيخ الذي يجلس أمامه فاغراً فاه:
-يمكن السينما..
-السينما؟ لا.. لا
-لا أخي الله غالب.. ولكن..
ووقف الشيخ، وبعد لحظات من التفكير نصحك بالذهاب إلى ساحة المدينة، حيث مقر البلدية، فهناك عدة مكاتب ومصالح، ولا بد أن ما تبحث عنه يوجد هناك، وفكرت أن نصيحة الشيخ لها أهميتها على كل حال، وعدت تلوم نفسك لأنك لم تذهب إلى الساحة الرئيسية في المدينة من البداية، وفضلت المجيء إلى مقر الولاية على الرغم من بعده، لا يهم أنت على كل حال لا تخسر شيئاً عندما تتعرف على المدينة وعلى مرافقها، خاصة وأن موعد المحاضرة ما يزال بعيداً.
عندما وصلت ساحة المدينة سألت أحدهم عن مديرية الثقافة، فكرت أنه لا بد أن يكون معلم مدرسة حسبما يظهر من خلال ملامحه، ولذلك فلا بد أنه يعرف مديرية الثقافة، ودلك هذا على شارع جانبي صغير، هناك يوجد متحف المدينة، وقبالته يوجد مكتب ربما هو ما تبحث عنه، وزاد فنصحك بأن تسأل موظفي المتحف فهم يعرفون بدون شك مقر مديرية الثقافة.
شكرته على نصائحه الذكية، وواصلت، كان المكتب المقابل للمتحف هو بالفعل مديرية الثقافة وكان متواضعاً جداً، تماماً مثل تواضع الثقافة في هذه المدينة، بناية أرضية قديمة وصغيرة، متآكلة الجدران، باب صغير أيضاً، والمهم فقد كان مثل أي بيت متواضع في هذه المدينة. بعد اجتيازك الباب الخارجي وجدت نفسك في صحن مربع الشكل، وفي إحدى جهاته الأربع هناك باب يؤدي إلى مكتب.
دخلت المكتب فوجدت كاتبتين، عرفت من خلال اهتمامهما واحترامهما الزائد لك أنهما عرفتا من أول نظرة إليك أنك لست من أهل المدينة، وفكرت في البداية أن هذا الاحترام الزائد لا بد كان بسبب كونهما يعرفان أنك الأستاذ المحاضر المنتظر، ولكن خاب ظنك بعدما قدمت نفسك إذ اكتشفت أنهما لا تعرفان عنك ولا عن موضوع المحاضرة شيئاً، صحيح هو يوم العلم وصحيح أن الناس جميعاً يعرفون أنه يوم العلم، وصحيح أن هناك برنامجاً حافلاً غنياً هذا المساء، وستحضر هذا البرنامج السلطات المحلية كلها، لكن المحاضرة وموضوعها، هذا موضوع آخر، على كل حال قالت لي إحدى الكاتبتين، إن مدير الثقافة موجود، ولا بد أنه يعرف عن الموضوع أكثر مما نعرف، واتجهت إلى باب يفصل بين مكتب الكاتبتين ومكتب آخر فدقته دقاً لطيفاً وطلبت لي الإذن بالدخول، ودخلت مكتب مدير الثقافة فوجدت شاباً لطيفاً ومؤدباً ومتواضعاً، كما عرفت منه أنهم اتصلوا به من العاصمة فيما يخص المحاضرة، ثم أضاف بعد لحظة تفكير أن هذه أول محاضرة في المدينة، ومع ذلك لا يهم كما قال، فالمحاضرة مبرمجة ضمن النشاط الحافل لهذه الأمسية، وبعد الاتفاق على موعد اللقاء مساء قبل المحاضرة خرجت لمزيد من التعرف على المدينة.
كنت وأنت تسير وحيداً في الشوارع والساحات تركز نظرك خاصة على وجوه الناس وملامحهم لعلك تستنتج شيئاً من وراء هذه النظرات الضائعة القلقة، ترى ما هي اهتمامات هؤلاء الناس الذين يمرون بالقرب منك، يحملون في أيديهم بعض الحاجيات، وكان كثير منهم يرتدون ألبسة تقليدية، ويحملون في أيديهم عصياً كعادة أهل هذه المنطقة، لاحظت أن ما يكثر في هذه المدينة هو المتاجر والمقاهي، وإذا كانت بعض المتاجر تنتظم أمام أبوابها طوابير طويلة فإن معظم المقاهي كانت تجري فيها معارك كبرى لا بداية لها ولا نهاية، هي معارك (الضامة) (والد ومينو) و(الروندة)، لقد كانت المقاهي مكتظة إلى درجة أن الإنسان لا يكاد يجد فيها مكاناً واحداً للجلوس وعلى الرغم من كثرتها، وعندما دخلت إحداها لتشرب شاياً فإنك اضطررت لشربه واقفاً، وربما كان ذلك أفضل إذ لم يكن في وسعك المكوث في هذا المقهى أكثر من خمس دقائق لكثرة الضوضاء التي لا يحتملها إلا المستغرق في اللعب.
خرجت من المقهى تتمشى في الطرقات والساحات. كنت تسير وحيداً مع أفكارك ببذلتك الزرقاء وحقيبتك الدبلوماسية، كنت تلاحظ أن المارة كثيراً ما يلتفتون إليك يتفحصونك وهم يمرون بجانبك. ماذا هنالك؟ لا بد أن هيئتك وشكلك وأنت تحمل هذه المحفظة الملعونة، لا بد أن كل هذا جعلك تبدو متميزاً عن الآخرين، وملفتاً للنظر، وصرت تمشي وأنت تشعر بكثير من الحرج، كما شعرت بأنك غريب في هذه المدينة، خاصة وأنك لم تر حتى الآن فرداً واحداً يحمل في يده جريدة أو مجلة أو كتاباً، ترى ما هي هموم هؤلاء الناس، واهتماماتهم؟ وأوشكت أن تلقي على بعضهم هذا السؤال، ولكنك خشيت لو أنك فعلت ذلك لازددت غربة أو لربما اعتبرت في نظرهم متكبراً، المهم، بدأت فعلاً تحس هذه الغربة، وبدأت تفكر في موضوع المحاضرة، ترى ماذا ستقول في هذه المحاضرة؟: (موضوع الثورة التحريرية في القصة الجزائرية المعاصرة) لماذا اخترت هذا الموضوع؟ ولكن المسؤولين عن الثقافة هم الذين اتفقوا معك عليه، إذن هو موضوع صالح للإلقاء، على كل حال الثورة التحريرية معروفة ومفهومة، ولكن القصة ما دخل القصة؟
ستبدأ أولاً فتتحدث قليلاً عن البدايات الأولى للقصة الجزائرية، ثم تحدثهم عن فنيات القصة القصيرة وتطورها مع ظهور الثورة التحريرية، ثم تحدثهم عن الدور الذي قامت به القصة في الثورة التحريرية، وتقيم بعض الموازنة بين كاتب وآخر مركزاً على الجوانب الفنية عند كتاب القصة المعروفين، ستتحدث عن الأبطال، وعن لغة القصة والحوار، وعن عقدة القصة وتطور حدثها وعن خاتمتها، الخ..
وفي جانب من إحدى الساحات لفتت انتباهك مجموعة من الشبان يكونون حلقة ويتابعون في صمت رجلاً يقف في وسط الحلقة بلباسه التقليدي وهويغني بصوت جميل قصة شعبية لعلها من قصص بني هلال أو لعلها قصة عنترة العبسي، أو الإمام علي، كان يجلس بالقرب منه على الأرض رجل آخر يحمل في يده قصبة ينفخ فيها أنغاماً جميلة يرافق بها كلمات المغني وبجانب الرجل الجالس طفل لا يتجاوز عمره الخامسة عشرة يدق على بندير دقات متوازنة مع صوت القصبة، وقفت دقائق تتفرج على المنظر وتسمع الأنغام الجميلة المنسجمة وقد أعجبك اندماج المتفرجين اندماجاً كاملاً في جو القصة التي كان المغني يجمع في أدائها بين الحكاية والغناء في كثير من الإتقان والانسجام، ثم تركت هذا الجمع الجميل لتواصل السير في اتجاه الساحة الكبيرة للمدينة. أين يوجد مقر البلدية، كنت تتعرف على طريقك إلى هذه الساحة عن طريق نغمات الموسيقى القوية المنبعثة من مكبرات الصوْت التي نصبت هنا وهناك في أطراف الساحة..
اقتربت أكثر من الساحة، وقد عدت من جديد تفكر في محاضرتك، القصة؟ وماذا ستقول عن القصة؟ يبدو أن الناس هنا سعداء بحياتهم، منهم من يلعب (الدومينو) أو (الضامة) أو (الورق)، ومنهم من يجري في كل اتجاه، وفكرت أنك ربما جئت لتفسد عليهم راحتهم وسعادتهم، ثم على الأقل لو اخترت موضوعاً آخر، كان عليك أن تحدثهم عن الأمير عبد القادر أو ابن باديس- كما جرت العادة- أو تقدم لهم حديثاً دينياً، مثلاً، كل هذه الأمور يمكنهم أن يفهموها وينسجموا معها وأما القصة.. آه، لقد أخطأت فعلاً عندما قررت المجيء في هذه المهمة، ولكن ما العمل؟ لقد جئت فعلاً وكل شيء دفع لك من طرف الدولة، تذكرة السفر ذهاباً وإياباً، وأجرة الإقامة في نزل فخم، عليك إذن أن تؤدي واجبك كاملاً حتى النهاية..
كنت مستغرقاً في التفكير عندما توقفت الموسيقى المنبعثة من مكبرات الصوت، وانطلق صوت قوي يعلن:
أيها المواطنون الكرام، إليكم هذا البلاغ الهام: (بمناسبة إحياء يوم العلم، في ذكرى المغفور له المرحوم الإمام ابن باديس سينظم مساء هذا اليوم في قاعة الحفلات حفل ساهر متنوع، ابتداء من الساعة الثامنة، ولعلمكم فإن الدخول سيكون مجاناً، فهلموا جميعاً لحضور هذا الحفل).
يتوقف الصوت الجهوري، لتعود الموسيقى الصاخبة من جديد..
هكذا إذن، أنت ضمن هذا الحفل الساهر..
وفيما أنت واقف في وسط ساحة البلدية تفكر في العودة إلى النزل ملغياً بذلك المحاضرة إذا بأحد الشبان يقف بجانبك مسلماً:
-عفواً، أنت الأستاذ المحاضر؟
ودارت في ذهنك أفكار سريعة متناقضة، ولكنك كبتها، ووجدت نفسك تجيب بكل هدوء:
-نعم
-أهلاً بك، الجماعة يبحثون عنك، الرجاء أن تذهب معي إلى مقر البلدية.
عند ذلك إزددت تأكداً أنك بهيئتك ومحفظتك كنت تظهر غريباً في هذه المدينة، فهذا الشاب لم يسبق لك أن رأيته أو تعرفت عليه، ومع ذلك تعرف عليك بسهولة، وتبعته إلى مقر البلدية بدون مناقشة، قدمك أولاً إلى موظف في أحد المكاتب، ثم رافقك هذا إلى رئيس البلدية، تعرف كل منكما على الآخر، ثم بدأتما تتحدثان عن المناسبة، وعندما سألك عن موضوع محاضرتك وجدت نفسك محرجاً، وترددت قليلاً قبل أن تقول له بأنها تبحث موضوع الثورة التحريرية في القصة الجزائرية، ورأيته ينظر إليك وعلامة استفهام واضحة على جبهته إذ يبدو أنه فهم الجزء الأول من العنوان (الثورة التحريرية)، ولم يستطع استيعاب الجزء الثاني (القصة الجزائرية).
-يعني تاريخ الثورة التحريرية؟
قال لك ذلك متسائلاً وبعدما بذل كثيراً من الجهد حسبما يبدو في البحث عن محاولة للفهم، وتهرباً من الدخول في مناقشة قد تكون بيزنطية وعقيمة، أجبته بأنك بالفعل ستركز على تاريخ الثورة التحريرية، ونظراً إلى أنه كان من قدماء المجاهدين بدليل الوسام الصغير الذي كان معلقاً في الجانب الأيسر من سترته، فقد تحمس للموضوع كثيراً، وشكرك على حسن الاختيار، وإن كان أحد الحاضرين قد فضل لو أن المحاضرة كانت في موضوع الإصلاح، أو عن الإمام عبد الحميد ابن باديس بالذات، وأنقذك من مناقشة لا مخرج منها مدير الثقافة، الذي أشار إلى أن على الجميع الاتجاه إلى قاعة الحفلات لأن الوقت قد حان:
كيف تسير معهم وأنت في غاية الصمت، بينما كانت الموسيقى الصاخبة تتوقف بين حين وآخر ليتم الإعلان من جديد عن الحفل الساهر.
وكنت وأنت تصل قاعة الحفلات على وشك الإعلان عن رغبتك في إعفائك من إلقاء المحاضرة نظراً إلى أنها غير مناسبة، ولكنك فكرت مرة أخرى أنك ربما ستعتبر متكبراً في نظرهم إذا ما فعلت ذلك، ولهذا فضلت الصبر ومقاومة رغبتك وإحساسك..
كانوا قد أعلموك قبل قليل بأن محاضرتك ستسبق بقطعة موسيقية تقليدية، وهذا حسب التقليد المعمول به في هذه المدينة، حيث يستهلون كل نشاط بهذه القطعة الموسيقية التي لا تزيد مدتها عن عشر دقائق، كما أكدوا لك، ورأيت ذلك أمراً عادياً إذ من المهم ومن الجميل جداً، بل ومن الواجب أيضاً أن نخلق تقاليد من فننا وتراثنا، إلا أن القلق بدأ يسيطر عليك عندما طال العزف، وعندما مضت العشر دقائق لتصبح أكثر من عشرين، وعندما اتبعت القطعة المقصودة بقطعة ثانية، ثم بمجموعة من الأغاني أداها مجموعة من الأطفال، ثم رقصة فلكلورية صاخبة، كان يصلك وقعها فقط، ولم تتح لك فرصة التمتع بالتفرج عليها وعلى غيرها، إذ أن حضرات المشرفين على الحفل تركوك وحدك أمانة في أحد المكاتب الخلفية في انتظار فرصة عمرك التي كنت تنتظرها بفارغ الصبر.
وعندما قلقت بعدما دام انتظارك أكثر من ثمانين دقيقة، خرجت إلى قاعة مجاورة للمكتب كان يملأها مجموعة من الشبان، بعضهم مشغول بتحليل مباريات لكرة القدم، وبعضهم يجرب آلته الموسيقية عسى ألا تخذله عندما يحين دوره، بينما كان بعضهم الآخر مكتفياً بالتدخين والاستماع..
اقتربت من أحد الشبان وطلبت منه سيجارة، جعلت تدخنها في نهم مع أنك في الأصل لست مدخناً محترفاً، وجعلت تدور في القاعة، ملتفتاً من حين لآخر إلى الباب الخلفي الذي يدخل منه الفنانون والممثلون إلى المنصة، فكرت أكثر من مرة أن تترك كل شيء وتعود إلى الفندق بسلام، ولكنك كنت تقاوم هذه الفكرة لسبب واحد فقط وهو ألا تعطيهم الفرصة لاتهامك بأمور أنت بريء منها، وقبل أن تنهي سيجارتك التي كان لها دورها في تهدئة أعصابك إلى حد ما جاءك أحد منظمي الحفل مسرعاً:
-لقد جاء دورك..
كان يظن أنك ستهجم عليه لتقبله في حرارة لهذه البشرى السارة، لذلك حط عينيه قليلاً، وأطرق برأسه عندما رأى بأنك لم تبد كبير اهتمام لهذه البشرى، وفكرت آنذاك أنهم لو لم يروك في تلك الحالة العصبية التي كانت بدون شك واضحة على ملامح وجهك لقدموا فرقاً أخرى تعزف وتغني وترقص، وخلفوك إلى منتصف الليل أو ربما لكانوا نسوك تماماً.. حملت محفظتك واتجهت إلى المنصة التي وجدت عليها طاولة وكرسياً ومع العلم أن الستار الذي يفصل بين المنصة والجمهور كان منسدلاً..
وجاء أحد منظمي الحفل يسألك عن المدة بالضبط التي ستستغرقها محاضرتك، ثم أقترح قبل أن تجيبه بأنه من المناسب جداً لو استغرقت ربع ساعة على الأكثر، كما كتبوا في برنامج الحفل، فأجبته بأنك أنت بدورك قررت ربع ساعة بالضبط، ربما صدفة.. النيران كانت بداخلك ملتهبة، وأنت تبتسم له في غاية اللطف، وأخيراً فتح جانب فقط من الستار خرج منه مقدم الحفل الذي اختفى عن نظرك وصار مواجهاً للجمهور ليعلن في كثير من الفخر والاعتزاز والثقة بالنفس، بينما كانت تصدر من الجمهور تصفيرات وتعليقات معظمها غير مؤدب، فقد كان هذا الجمهور يتكون كما عرفت بعد أن رفع الستار بينك وبينه في غالبيته من الأطفال المراهقين بالإضافة إلى بعض رجال السلطات المحلية الذين كانوا يحجزون الصف الأول، والذين لم يكن عددهم يزيد عن عشرة أفراد..
قال مقدم الحفل وهو يموسق صوته بشكل في غاية التكلف لعله يجد صدى في الجمهور المنشغل عنه بالتهريج:
وبعد أيها الأخوة الحاضرون، أيها الأخوة الأعزاء، ها نحن ننتقل بكم من دنيا الفن، دنيا الرقص والغناء والعزف إلى دنيا الفكر، وهكذا أيها الإخوة، وهكذا ترون أن سهرتنا الليلة في غاية الروعة، في غاية التنوع، إننا سنقضي وقتاً ممتعاً وجميلاً ورائعاً مع محاضرة قيمة تنقلنا إلى ماضينا المجيد، ماضي الجزائر الثوري، ماضي المليون ونصف المليون شهيد، أيها الإخوة، سنترككم الآن مع الأستاذ المحاضر، ومع المحاضرة القيمة التي ستدوم ربع ساعة). اتجه مقدم الحفل بعد ذلك إلى الباب الخلفي للخروج وهو يطوي الورقة التي كان قبل قليل يقرأ منها ليضعها في جيبه، وشكره أحد الواقفين بالباب الخلفي بقوله:
-أحسنت، بارك الله فيك.. والله أنت مكانك في الإذاعة، وليس هنا..
عندما فتحت الستارة صفق بعض الأفراد، كما صدرت بعض التعليقات متنوعة من جهات مختلفة ونظرت في الوجوه، حاولت أن أتعرف على جمهور القاعة ولو في بعض العجالة، أطفال مراهقون في معظمهم، وفي الصف الأول فقط يجلس شبان وكهول محترمون هم السلطات المحلية.. وتذكرت عندما دخلت قبل ساعات إلى المكتبة الوحيدة في المدينة كما علمت من صاحبها ورأيت بعض الكتب الهامة، ومن بينها الروايات والقصص التي فقدت من مكتبات العاصمة رأيتها وقد غطى الغبار أغلفتها..
إذن من أين تبدأ كلامك؟ تحدثهم عن القصة؟ وما هي القصة؟ استغرق تفكيرك في هذه الأمور لحظات قليلة، ومع ذلك كانت فرصة لمزيد من التصفير والشغب، من طرف الصفوف الخلفية خاصة، وفي الأخير وجدت نفسك مضطراً أن تتحدث حتى تسكت المشاغبين على الأقل:
-أيها الأخوة..
كدت تضيف: أيتها الأخوات، لكنك استدركت عندما جلت بنظرك جولة سريعة في كل أرجاء القاعة، فلم تلاحظ وجود امرأة واحدة فأضفت: أيها الأخوة، مرة ثانية، ثم واصلت: أريد قبل كل شيء أن أعبر عن فرحي الكبير، فأنا أزور هذه المدينة لأول مرة..
كنت تظن أنهم سيسكتون بمجرد أن تبدأ الكلام إلا أن الهرج والشغب ازدادا عن السابق، ويبدو أنهم كانوا يحتجون على هذا الخلل وهذا النشاز الذي حدث في برنامج الحفل.. وفكرت آنذاك لو تقوم فتحكي لهم نكتة، أو ترقص لهم رقصة معبرة، أو حتى تغني لهم أغنية ما، أية أغنية، لعلهم يسكتّون، ولكنك وللأسف الشديد لا تحسن النكتة ولا الرقص ولا الغناء، أيها الأخوة..
ورأيت أحدهم يرقص في آخر القاعة، كان يتمايل في حركات منتظمة، لفتت إليه أنظار جماعة من أصحابه، وغير أصحابه الذين كانوا يصفقون له في غاية الحماس، مما جعل السلطات المحلية تلتفت بكامل أفرادها إلى الوراء مظهرة كل الاستنكار..
واصلت كأنك لم تر، ولم تسمع شيئاً بينما كانت مجموعة أخرى على يمين القاعة تحيط بأحدهم في غاية الانتباه، ثم من حين لآخر تصدر من أفرادها قهقهات عالية تلفت بدورها انتباه السلطات المحلية، إذ يبدو أن الأخ الذي لم يكن يظهر من وسط الجماعة كان موهوباً في حكاية النكات..
وبالإضافة إلى هؤلاء وأولئك كان هناك الواقف والماشي والداخل والخارج الخ: الخ.. أيها الإخوة..
قلت ذلك وعلى وجهك تظهر ابتسامة لطيفة، وفي داخلك تغلي براكين لا يطفيء لهيبها النيل ولا ثلوج سيبيريا..
أيها الإخوة، إن المحاضرة التي أعددتها تتطلب وقتاً طويلاً ومناسباً، وأنا لا أريد أن أثقل عليكم، أن أنقلكم من جو المرح إلى جو الفكر، لا أريد أن أزعجكم بالكلام الثقيل، فقط اسمحوا لي أن أقول كلمة قصيرة:
إن ما أتمناه أيها الإخوة أن يتحول جزء من المقاهي العديدة التي يلتصق بعضها ببعض في شوارع مدينتكم، إلى مكتبات وأن يتحول الجزء الآخر إلى قاعات لمحو الأمية، لعلنا أيها الإخوة عند ذلك فقط نستطيع أن نلتقي في محاضرة..
كنت تتحدث وأنت تركز نظرك بالذات على السلطات المحلية..
أيها الإخوة، أرجو المعذرة، ولعلني سأعود في ظرف آخر مناسب لألقي محاضرتي، فإلى اللقاء. عندما كنت خارجاً من الباب الخلفي ألتقيت بأحد منظمي الحفل فأحتج مظهراً اللطف بأن محاضرتك كانت قصيرة جداً، خمس دقائق عوض خمس عشرة دقيقة، فرددت عليه بأن هذا يكفي اليوم، وربما سنلتقي مرة أخرى، وودعته شاكراً ومشجعاً ومتمنياً مزيداً من الاهتمام بالنشاط الثقافي، وانصرفت..
وقبل أن تبتعد عن قاعة الحفلات التابعة لمديرية الثقافة، كانت قد عادت إليها الموسيقا والغناء والرقص.. عادت الحيوية.. عاد الانسجام التام..