الزوجة الوفية

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : أحمد زياد محبّك | المصدر : www.awu-dam.org

كان لأحد الأغنياء ولد وحيد، رباه خير تربية، ولما شب، وحان أوان زواجه، نصح له أن يختار لنفسه زوجة وفيّة، وأوصاه أن يسألها ليلة الزفاف: "أنا وأنت على الدهر، أم أنت والدهر عليَّ؟"، فإذا أجابته: "أنا والدهر عليك"، فما له سوى طلاقها، قبل أن يخلو بها.‏

وخطب الفتى لنفسه فتاة، وفي ليلة الزفاف سألها ما أوصاه به أبوه، فأجابته: "أنا والدهر عليك"، فأصبح وقد طلقها، ثم خطب لنفسه فتاة أخرى، وكان من أمره معها ما كان مع الأولى، ثم خطب فتاة ثالثة، وقد عزم على العيش معها، ولو أجابته بمثل ما أجابته الأولى والثانية.‏

وتحقق ما توقعه الفتى، فقد أجابته زوجته: "أنا والدهر عليك"، فكتم ذلك، ولما سأله أبوه عن جوابها على السؤال الذي أوصاه به، أجاب أباه بما يرضيه، ففرح الأب بذلك، واطمأن.‏

وذات يوم نادى الأب زوجة ابنه، بعد خروج ولده، فأسرعت إليه تسأله ماذا يريد، فقادها إلى بركة في فناء الدار، وطلب منها أن ترفع سدادتها، ففعلت، وتسرب الماء كله، وإذا في قاع البركة باب، فتحه الأب، ودعا زوجة ابنه إلى النزول فيه، فنزلت، وإذا هي في سرداب تحت البركة، فيه أموال وذهب كثير، فالتفت إلى والد زوجها مدهوشة، فقال لها: "هذه الأموال كلّها لابني، وأنا أخشى ألاّ يحسن التصرف بها بعد موتي، ولذلك سأبقي أمرها سراً، لتعطيه منها شيئاً فشيئاً، عند الحاجة الشديدة"، ففرحت بذلك، ووعدته أن تكون وفيّة لوصيته، مخلصة لزوجها.‏

ومرّت الأيام والزوجة تعنى بوالد زوجها، وتهتم به، إلى أن وافته المنية، فأخذت تطلب من زوجها كل يوم أمراً جديداً، ففي يوم تطلب منه شراء حلية لها، وفي يوم آخر تسأله شراء أثاث جديد للمنزل، وهكذا حتى نفد ماورثه من أبيه، وهي ما تزال تحتفظ بسر الأموال المدفونة تحت البركة، ولا تعطيه منها شيئاً، حتى جاء يوم أصبح فيه غير قادر على تلبية حاجاتها، وهي ما تزال تلح عليه بالطلب، وتسأله شراء الحاجات، فنزل إلى السوق، ووقف مع جماعة من البنائين، ينتظر أحداً يدعوه إلى العمل عنده، وكان من حسن حظه أن قدم رجل دعا البنائين جميعاً للعمل، وكان هو في جملتهم، وبعد فراغهم من العمل، بدأ كل واحد منهم يأخذ أجرته ويمضي، ولما جاء دور الفتى، استبقاه الرجل، إلى أن انصرف البناؤون جميعاً، فأعطاه أجرته مضاعفة، ثم دعاه إلى تناول طعام العشاء، ثم فاجأه الرجل بمعرفته لأبيه، وأنكر عليه حاجته إلى العمل في مهنة لا يتقنها، وأكد له أن لدى أبيه أموالاً لا نفاد لها، وأنه لا يشك في أن زوجته هي التي تخفي عليه موضع أمواله.‏

ودهش الفتى لذكاء الرجل ونفاذ بصيرته، ثم سأله النصيحة، فدلّه الرجل على أمر طلب منه أن ينفّذه فور وصوله إلى البيت.‏

وأسرع الفتى إلى زوجته وأخبرها -كما أوصاه الرجل- أنه أصبح لا يملك شيئاً من المال، ولا يقدر على الإنفاق عليها، وأنه مضطر إلى الرحيل إلى بلاد أخرى، ثم طلب منها مفتاح الدار، ووعدها أن يبيعها في صباح الغد، ليدفع لها صداقها كاملاً، وتصبح طالقة، فما كان من الزوجة إلا أن ناولته مفتاح الدار، وحملت صرّة ثيابها، ومضت إلى بيت أهلها.‏

وعلى الفور رجع الفتى إلى الرجل، وكان قد أوصاه بذلك، فأخبره بالأمر كلّه، فطلب منه الرجل أن يمضي به إلى داره، ولما دخلها أسرع إلى البركة في الفناء، وفتح سدّادتها، ولما فرغ ماؤها، انكشف لهما الباب، ففتحه الرجل ودعا الفتى إلى الدخول، فذهل لما رأى من أموال وذهب، وبادر على الفور إلى نقلها إلى دار الرجل.‏

وفي الصباح طلب الفتى من الدلاّل أن يعلن عن بيع داره بالمزاد، وتقاطر الناس إلى المشاركة، وكان أول المبادرين جاره القصاب، وقد أخذ يعلي في ثمنها ويغالي، حتى استقر البيع عليه، فقبض منه ثمن الدار، وسلمه المفتاح، وكان الرجل الذي نصح له بذلك واقفاً بجواره، فهمس له: "هذا هو عشيق زوجتك"، ثم دعاه إلى منزله، وطلب منه أن يتريث حتى المساء، ليريه أمراً عجباً.‏

وفي الليل.. مضى الفتى إلى داره، يصحبه الرجل، وقد نصحه من قبل أن يحتفظ لنفسه بمفتاح آخر للدار، ففتح الباب ودخل، والرجل يتبعه، وأسرعا إلى السرداب تحت البركة، فوجد الفتى زوجته مذبوحة وملقاة في السرداب، فصعق وخاف، ولكن الرجل طمأنه، وقال: "لاشك في أن عشيقها القصاب قد ذبحها بعدما رأى السرداب فارغاً لا مال فيه، وما عليك إلا التريث حتى الصباح".‏

وفي الصباح كان القصاب يدق الباب على الفتى، وهو مقيم عند الرجل، يطلب منه أن يعيد إليه ثمن الدار، لأنه عدل عن شرائها، ونصح له الرجل أن يفعل، ففعل واسترد المفتاح.‏

وعند ئذ تبين للفتى صدق الرجل، وصواب مايراه، فسأله النصيحة ثانية، فنصح له أن ينتظر إلى الليل، كي يحمل جثة زوجته المذبوحة ويرمي بها في البحر، أو أن يرفع الأمر إلى القاضي، فاختار الأمر الثاني.‏

واعترف القصاب أمام القاضي بفعلته، وتم إعدامه، وتسلم أهل الزوجة جثة ابنتهم، وواروها التراب.‏

وكان الفتى ما يزال مقيماً عند الرجل وقد اطمأن إليه، واستراح إلى ضيافته، فسأله النصيحة مرة ثالثة، فنصح له أن يبادر إلى الزواج، وكان الفتى قد رأى إحدى بنات الرجل، فطلب منه أن يزوجه ابنته، فوافق وشاور ابنته في الأمر، فوافقت، ولكن الرجل قال للفتى: "إنّ مهر ابنتي غال جداً"، فسأله عن مقداره، فأجاب الرجل: "قطع رطل من لحم فخذك"، وأعلن الفتى عن استعداده لذلك، ونادى ابنته أن أحضري السكين، فأحضرتها وهي لا تعرف الغاية منها، فطلب منها أبوها أن تساعده على قطع رطل من لحم فخذ الفتى، ليكون مهراً لها، فرفضت البنت ذلك، وأعلنت عن استعدادها لتقدم الرطل من لحم فخذها هي بدلاً من لحم فخذ الفتى، وعند ئذ أعلن الرجل أنه لم يفعل ذلك إلا ليعرف صدق الفتى في رغبته في الزواج من ابنته، وصدق ابنته أيضاً في رغبتها في الزواج من الفتى.‏

ثم أخبر الفتى أنه شقيق أبيه، وأنه كان فقيراً، وأن أباه كان قد تنكر له، وأمضى حياته كلها من غير أن يتصل به.‏

ثم تمّ زفاف الفتى إلى الفتاة، ابنة عمه، وعاشا في هناءة وسرورة، وقد فكر ذات يوم في سؤالها الذي كان أبوه قد أوصاه به، ولكنه لم يجد ضرورة للسؤال، فقد وجد في أفعالها ومواقفها خير جواب.‏

تعليق:‏

تقدم الحكاية نموذجين للمرأة، إحداهما خائنة غادرة، والأخرى وفية مخلصة، وتبدو الأولى هي الطاغية والمسيطرة، ولكن تأتي الثانية لتجلو الصدأ، وتزرع في النفس الأمل والحب والثقة.‏

والحكاية تثق بالمرأة، وتعلي من شأنها، وتقدرها حق التقدير، وهي بتقديمها النموذج السيئ الفاسد، إنما تسعى إلى إظهار النموذج الطيب الصالح أكثر إشراقاً، وهي في الحالتين تؤكد مكانة المرأة في المجتمع والحياة.‏

والحكاية وعظية، مقدمة للشباب من بنين وبنات، كي تعلمهم جميعاً ضرورة تلاحم الزوجين وتعاونهما وإخلاص كل منهما للآخر.‏

والحكاية لا تخلو من مبالغة لإحداث التأثير القوي